يمثل الفاتح من نونبر يوما مهما في تاريخ الجزائر المعاصر: إنه يؤرخ لبداية اندلاع الثورة الجزائرية في عام 1954.. هذا التاريخ الذي يُحتفل به باعتباره عيدا وطنيا خالدا، يحيي ذكرى بداية النضال الجزائري من أجل الاستقلال عن الحكم الاستعماري الفرنسي، وهو النضال الذي استمر ثماني سنوات وأعاد تشكيل الهوية الوطنية الجزائرية في نهاية المطاف، ومع ذلك، بينما يفتخر ويتباهى الشعب الجزائري بتضحيات “مليون ونصف المليون شهيد” التي قدمها من أجل حريته، فإن مسألة دور المغرب وعلاقته بالجزائر خلال هذه الحقبة الاستعمارية العويصة وبعدها، تصبح ذات أهمية للغاية، حيث يشترك المغرب والجزائر في تاريخ متشابك مع الإرث الاستعماري، والقرب الجغرافي، والروابط الثقافية المشتركة، وعلى الرغم من هذه القواسم المشتركة، فقد اتسمت العلاقات بين البلدين بالتنافس والنزاعات الإقليمية والاختلاف السياسي.
لقد عانى كل من المغرب والجزائر من الواقع القاسي والمر للاستعمار الفرنسي، وخرجت الدولتان من هذه التجارب برغبة مشتركة في الاستقلال والسيادة الحقيقية، وقد حصل المغرب على استقلاله في عام 1956، بالتحام بين العرش والشعب، وخلال نضال الجزائر من أجل الاستقلال، قدم المغرب لها دعما كبيرا بالمال والسلاح، وسمح للمنظمات الثورية الجزائرية بالعمل داخل حدوده، وتسهيل قنوات الاتصال معها، وكان هذا الدعم المبكر يرمز إلى روح التضامن والمصير المشترك، مما أدى إلى نشوء حركة قومية مغاربية مناهضة للاستعمار تردد صداها في جميع أنحاء شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
ولكن مع الأسف، فنهاية الحكم الاستعماري الفرنسي في الجزائر لم تؤد إلى انسجام دائم بين المغرب وجارته الدولة الحديثة المستقلة.. ففي عام 1963، بعد عام واحد فقط من حصول الجزائر على الاستقلال، تنكر قادتها لفضل المغرب عليها في تحقيق الاستقلال، واشتبكت معه فيما يُعرف باسم حرب “الرمال”، وهو اشتباك عسكري رغم أنه كان محدودا زمنيا ولكنه كان معقدا حول ترسيم الحدود بين الجارين الشقيقين، وأصبحت المنطقة الشرقية المتنازع عليها والغنية بالموارد الطبيعية نقطة محورية للخلاف، حيث تقدم المغرب بمطالبه المشروعة حول أراض كانت تحت الإدارة الفرنسية، وكانت حرب “الرمال” بمثابة بداية نزاع إقليمي طويل الأمد وتنافس مرير شكل ملامح سياسات البلدين لعقود قادمة إلى اليوم..
ورغم أن حرب “الرمال” لم تدم سوى أياما معدودات، فإن عواقبها خلفت ندوبا لا تزال غائرة وباقية إلى اليوم.. فقد حاول زعماء المغرب والجزائر إقامة علاقات دبلوماسية واثقة وصادقة، ومع ذلك استمر الصراع خفيا وعلنيا، وغذته الاختلافات الإيديولوجية.. فقد تبنى المغرب منهجا أكثر انفتاحا وليبيرالية وميلا للمعسكر الغربي الرأسمالي، في حين تبنت الجزائر موقفا اشتراكيا تابعا لمعسكر الاتحاد السوفياتي تحت قيادة هواري بومدين، وتحالفت مع الحركات الثورية الشيوعية في العالم ضد مصالح المغرب.
لقد كان الصراع حول الصحراء المغربية عاملا مهما للغاية في تدهور العلاقات المغربية الجزائرية، فالمغرب يتمتع بالسيادة التاريخية المشروعة على الصحراء، وفي المقابل، تدعم الجزائر صنيعتها جبهة البوليساريو، وتستضيف اللاجئين الصحراويين ومقر جبهتهم في منطقة تندوف.
وقد ساهم هذا الصراع المصطنع في سباق التسلح، وتوتر العلاقات الدبلوماسية، وإعاقة التعاون الإقليمي، وعلى الرغم من جهود المنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، للتوسط في السلام وإيجاد حل نهائي، فإن قضية الصحراء المغربية لا تزال في رأي رؤساء الجزائر دون حل، مما يزيد من التوتر في العلاقة الهشة بالفعل، بينما يشكل دعم الجزائر لجبهة بوليساريو تدخلا سافرا في سلامة الأراضي الجنوبية للمغرب التي استرجعها بالوثائق التاريخية الدامغة وبمسيرة خضراء سنة 1975 هب لها الشعب المغربي تحت قيادة الملك الراحل الحسن الثاني.
وعلى الرغم من العلاقات المتوترة، فقد لعب المغرب دائما دورا نشيطا ومشهودا له في تعزيز الاستقرار الإقليمي والتعاون الاقتصادي في شمال إفريقيا، ومن خلال مبادرات مثل اتحاد المغرب العربي، سعى المغرب إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين دول شمال القارة، بما في ذلك الجزائر، وعلى الرغم من أن اتحاد المغرب العربي كان غير نشيط إلى حد كبير بسبب الخلافات السياسية، إلا أن التزام المغرب بالتعاون الاقتصادي ظل ثابتا على الدوام، ومن خلال الاستثمار في مشاريع البنية التحتية، والاتفاقيات التجارية، والمبادرات عبر الحدود، يهدف المغرب إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية داخل المنطقة المغاربية، الأمر الذي قد يساهم في نهاية المطاف في تحسين العلاقات الدبلوماسية.
وفي غشت 2021، وصلت العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر إلى مستوى متدهور عندما قطعت الجزائر علاقاتها مع المغرب، تحت ذريعة سلسلة من الحوادث، بما في ذلك اتهامات بدعم المغرب لجماعات أمازيغية انفصالية (الماك) معادية للحكومة الجزائرية، وقضايا تتعلق بالصحراء المغربية، ويرمز إغلاق الحدود، الذي كان ساري المفعول منذ سنة 1994، إلى انعدام الثقة العميق الذي لا يزال يفرق بين البلدين وتغذيه أوهام الجزائر.
ومع ذلك، هناك اعتراف متزايد بأن التعاون بين المغرب والجزائر من شأنه أن يجلب فوائد كبيرة لكلا البلدين وللمنطقة برمتها وعلى نطاق أوسع.. فمن معالجة التهديدات الأمنية مثل الإرهاب والاتجار بالبشر والمخدرات إلى معالجة التحديات الاقتصادية التي تفاقمت بسبب تغير المناخ، فإن الحاجة إلى التعاون الثنائي باتت واضحة، وقد دعت العديد من الجهات الفاعلة الدولية، بما في ذلك الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، إلى تحسين العلاقات، وشجعت البلدين على حل نزاعاتهما من خلال الحوارات الدبلوماسية، وعلى رأس هذه الحلول قبول السلطة الجزائرية وصنيعتها البوليساريو بمخطط الحكم الذاتي الذي اقترحه الملك محمد السادس منذ سنة 2007 ودعمته مؤخرا العديد من الدول العظمى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وغيرهما.
وفي هذه الذكرى السبعين للثورة الجزائرية، يلعب المغرب دائما دور الحليف والمساند التاريخي الإقليمي في الوقت نفسه، فالعلاقة بين البلدين غامرة بالوشائج والإرث المشترك، حيث يجب أن يتعايش السلم والاحترام المتبادل، وإدراكا للمصير المترابط للمغرب والجزائر، ربما تكون هذه الذكرى السنوية مصدر إلهام لحكام الجزائر للعودة إلى جادة الرشد والنظر في تاريخهما المشترك في المقاومة وإيجاد أسس جديدة للتضامن والتعاون.