الرأي

الرأي | إهانة اللغة العربية في عقر البرلمان

بقلم: عبد الله النملي

    في سابقة صادمة تمثل إهانة للنصوص القانونية المؤكدة لرسمية اللغة العربية، صوت برلمانيون مغاربة باللغة الفرنسية خلال جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب يوم الجمعة الماضية، وقد أثار التصويت ضجة في صفوف برلمانيين رفضوا احتساب الأصوات التي تحمل أسماء المرشحين باللغة الفرنسية لكونها لغة غير دستورية، وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها التصويت باللغة الفرنسية، ما جعل خبراء يؤكدون على ضرورة طرح المسألة وعرضها على القضاء الدستوري.

والحقيقة أن هذه الواقعة المهزلة ليست سوى الشجرة التي تخفي الغابة، وتكشف وجود أزمة عميقة في السياسة اللغوية بالمغرب، ذلك أن اللغة العربية باتت غريبة في عقر دارها، وكان من المفروض، بعد صدور ظهير 26 يناير 1965 الذي وحدت بمقتضاه المحاكم وباتت بفضله اللغة العربية وحدها لغة التداول والترافع والأحكام، أن يشمل التعريب باقي المناحي الأخرى، لكن شيئا من ذلك لم يتحقق.. هكذا أرادوا لها أن تكون، إنهم أهلها الذين رضوا عنها بديلا، ونعتوها بالقصور والعجز، فلو منحها أصحابها المكانة اللائقة بها وأكرموها، لما حلت بها تلك المصيبة، حتى بات الناس يعتقدون أن اللغات الأجنبية هي لغات الانفتاح والتقدم، أما العربية فهي لغة التراث والقدم.. كيف لا يحدث ذلك ولازال بيننا من يدافع عن النشاز وينتصر للغة الأجنبي.

وتأتي خطوة التصويت باللغة الفرنسية بعد أن امتدت ولسنوات الحملة على اللغة العربية، لتبلغ مداها مع الأجندات الداعية إلى فصل المغرب العربي عن الأمة العربية، وسحب عضويته من جامعة الدول العربية، وتغيير مسمى المغرب العربي، علاوة على الحروب التي تشنها جهات معادية للغة الضاد، تمثل حزب فرنسا بالمغرب، وهي حروب يوظف فيها أصحابها معجم الاستشراق الجديد، لعزلها عن المجتمع وإقصائها عن الحياة العامة، متخذين من الفرنسية والعامية قضايا لغزو معاقل الفصحى، بحجة التبسيط والتأقلم مع معطيات العصر.

تتمة المقال تحت الإعلان

وقد لاقت نداءات هؤلاء المصابين بداء الشك في اللغة العربية قبولا عند البعض، حيث رأى بعضهم أن نترك العربية جانبا، لأن إحياءها بعد موتها أمر معجز، فضلا عن كونه غير مجد فيما يتعلق بتدريس العلوم الحديثة والتأليف فيها، بل إن التعلق باللغة العربية، حسب زعم آخرين، كلام فارغ، وليس من الوطنية في شيء، إذ الوطنية قائمة بحسبهم في المعاني لا في الألفاظ.

إن إهانة العربية والحط من شأنها أصبح سلوكا عاما في المجتمع، كما غدا عند البعض من آيات الحداثة، ورغم كل مميزات اللغة العربية الفصحى وأهميتها كلغة رسمية إلى جانب الأمازيغية، فإن بعض المسؤولين بالمغرب لا زالوا يصرون على إلغاء التكلم باللغة العربية الفصحى أو الكتابة بها، وكم من مسؤول حكومي يُحدث المواطنين في شأن عام يهمهم، وبدل الاستماع إليه مباشرة يتم اللجوء إلى التعليق والترجمة، وكم من موظف سام يشرح لوحة باللغة الفرنسية، وعندما تقترب الكاميرا ترى المواقع التي يتحدث عنها وهي مكتوبة باللغة العربية، ولعل إنشاء جمعيات لحماية اللغة العربية بالمغرب لا يعني سوى أن لغتنا الرسمية بنص الدستور موشكة، شأنها شأن الحيوانات النادرة، على الانقراض.

لكن الذي يحز في النفس، ما تعاني منها لغة الضاد في المحافل الدولية، ما دام المشارقة يفضلون اللغة الإنجليزية، والمغاربة يفضلون اللغة الفرنسية، ومن السهولة الحصول من إدارة الإحصاءات في الأمم المتحدة على رسم بياني للزمن الذي استغرقته تدخلات الوفود المغربية منذ سنة 1983 إلى الآن، وقسط كل من اللغة العربية واللغة الأجنبية، ليظهر جليا أنه ينحدر بشكل غريب لغير صالح لغتنا الوطنية، علما أنه في سنة 1983 اعتمدت اللغة العربية إحدى لغات العمل في أجهزة الأمم المتحدة، وقد اتخذ هذا القرار بالإجماع بمسعى من المغرب، والمغرب يتحمل مسؤولية أدبية أكثر من غيره، لأنه تزعم الحملة التي انتهت بقبول اللغة العربية لغة دولية.

تتمة المقال تحت الإعلان

وفي الوقت الذي يزداد فيه الإقبال على تعلم اللغة العربية من قبل غير الناطقين بها في العالم، تتعرض في عقر دارها للإهمال، بالرغم من التأكيد على رسمية اللغة العربية في كل دساتير المملكة المغربية، آخرها دستور 2011، ومع ذلك لم يشمل التعريب باقي القطاعات الاقتصادية والإدارية، وظل الواقع اللغوي يتسم بالفوضى، وإزاء هذا الوضع غير السوي، سبق أن تقدمت بعض الأحزاب في البرلمان منذ سنة 1977 وإلى اليوم، بمقترحات قوانين تعريب الإدارة والحياة العامة، غير أن هذه المقترحات ووجهت بمحنة حقيقية، ففي كل ولاية تشريعية كانت الحكومات تتذرع بأن تعريب الحياة العامة يقتضي إصدار مرسوم تنظيمي.

 والقول العربي “لا كرامة لنبي في وطنه” ينطبق على حال اللغة العربية في المغرب، لدرجة وصل معها الأمر أن تلاميذ في التعليم الثانوي وطلابا في الجامعات يعجزون عن رسم بعض الكلمات أو نطقها دون لحن، وصاروا يجهلون أغلب معاني كلماتها الفصيحة، وينطقون حروفها بالكاد، أو يتهجونها، والأخطر من ذلك، أن شبابنا صاروا من أصحاب “الشات” و”المسنجر” و”الفايسبوك”، لم تعد لديهم صلة بمواقع الفكر والثقافة، وقد جَهل كثير منهم أو تَجَاهلوا تماما أن هناك لوحة للمفاتيح العربية، فأخذوا يكتبون كلامهم الغث والركيك بحروف لاتينية وأرقام حسابية.

وحيث أن اللغة الرسمية فوق اللغات الأجنبية، ومن مقدسات الدولة المغربية، مثلها مثل الدين الإسلامي والنظام السياسي والراية الوطنية والحدود الجغرافية، فهي بذلك لا يجوز أن تقصى وتحتقر في عقر دارها، وليس من شك في أن مسؤوليتنا جميعا كبيرة في هذا الزمن الذي أضحت العربية فيه حبيسة بعض الخطب الدينية والسياسية وفي نشرات الأخبار، بتقاعس أهلها وليس لعيب فيها، وغدت في مسيس الحاجة إلى من يدفع عنها الهجمات التي تتعرض لها من الإكثار باستعمال اللغات الأجنبية في غير ضرورة، ومن استعمال العاميّات المُبْتَذَلَة، فقضية اللغة العربية ترتبط ارتباطا وثيقا بالسيادة الوطنية، والاستقلال منقوص حتى تستعيد العربية سيادتها في وطنها إلى جانب الأمازيغية.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى