رأي | وقفة تأمل في الذكرى الأربعينية لوفاة عميد الأدب المغربي عباس الجراري
حلت الذكرى الأربعينية لوفاة عميد الأدب المغربي عباس الجراري تغمده الله بواسع رحمته، وقد نظم “النادي الجراري” بتعاون مع المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، أمسية العرفان والاعتراف إحياء لذكرى رحيل المفكر والأديب المرحوم عباس الجراري، يوم الجمعة 1 مارس 2024، بالقاعة الكبرى للمكتبة الوطنية، وحضر هذه الأمسية جمهور مكثف لمتابعة مراسيم إحياء هذه الذكرى تكريما ووفاء وتقديرا لعالم من علماء المغرب، الذي ترك للخزانة المغربية ولكل المثقفين، حوالي مائة كتاب من مختلف مواضيع الأدب والأبحاث قل من تطرق لها، وغاص في أعماق بحورها، وقد تدخل عدد من الشخصيات والأدباء، وأصدقاء الراحل، وقدموا الشهادات المشرفة نثرا وشعرا، وبلغ عدد المتدخلين 17 كلهم أجمعوا على كفاءة ومقدرة الراحل العزيز، وما كان يتحلى به، وركزوا على الجانب العلمي والثقافي وجانب التأليف، ولكن هناك جانب مهم ومشرف، وهو الجانب المتعلق بحياة الفقيد العزيز وهو طالب جامعي، وجدير بأن يطلع الشباب المغربي على ما كان يتحلى به الطالب عباس الجراري وهو يتابع دراسته الجامعية، وكيف يجب أن يكون الطالب المغربي وهو يتابع دراسته الجامعية في دولة شقيقة أو صديقة، وذلك هو ما كان موضوع مداخلتي باختصار، وأصبح من الواجب أيضا التعريف بنوع من التفصيل للجانب الذي أشرت إليه، فكان محور مداخلتي تقديم شهادة عن أحداث عشناها معا، بسرائها وضرائها، شهادة تبرز ما كان يتحلى به المرحوم وهو في مرحلة التكوين الجامعي من خصال حميدة ووفاء لروح الصداقة المتينة وتشبث بالقيم والثوابت والاعتزاز بالانتماء لوطنه.
لقد أسعدني الله تعالى وأكرمني بمعرفة وصداقة المرحوم منذ سنة 1956، وكان اللقاء في القاهرة لمتابعة الدراسة الجامعية، وعشنا في منزل واحد، وتحت سقف واحد لمدة خمس سنوات.
إن شهادتي ما هي إلا لمحات خاطفة للتعريف بقوة شخصية المرحوم وهو في ريعان شبابه، وصلابة مبادئه، وغيرته على سلامة الأوطان العربية والإسلامية.. تلك مبادئ أكدها المرحوم في كتابين: الأول يحمل عنوان “رحيق العمر” والثاني “طفولة قلم”.
وقد شرفني المرحوم بأن قدم لي نسخة من الكتابين، ومما ورد في كلمة الإهداء: ((مع أخلص عبارات الاعتزاز أيام زمان ـ الرباط في 24 رجب 1442 هجرية الموافق لـ 8 مارس 2021))، فما هو المقصود بقوله يا ترى بعبارة الاعتزاز بذكرى أيام زمان؟ كان المقصود الأول، الموقف المشرف للطالب المغربي عباس الجراري من العدوان الثلاثي الإسرائيلي والفرنسي والإنجليزي على مصر. ويمكن الاطلاع على التفاصيل في الصفحة 135 وما بعدها من كتابه “طفولة قلم”، حيث تطوع فقيدنا العزيز في جيش التحرير المصري مع مجموعة من الطلبة المغاربة، وفي ذلك الكتاب، ألقى على نفسه السؤال التالي: لماذا تطوعنا في جيش التحرير المصري؟ أجاب المرحوم عن سؤاله: بما كتبه لوالده في رسالة أرسلها لوالده الفقيه العلامة عبد الله الجراري، ومن فقرات تلك الرسالة فقرة جاء فيها ما يلي: ((نتطوع في جيش التحرير، فنكون كتيبة مراكشية تقف إلى جانب كتائب الدول العربية الأخرى، نشرف بها وطننا، ونظهر شجاعة أبنائه النادرة ونبين بها استياءه من العدوان الغاشم، وتضامنه مع شقيقته مصر، فيبرز تكتل العرب في أبهى مظاهره))، وختم الرسالة بقوله: هل نخوض المعركة؟ نعم، لأننا قوم شرفاء، نشرف أنفسنا ووطننا، أمناء نرد ما علينا من سلف ودين، وبهذه الروح خضنا المعركة. فعلا، كانت مشاركة الطلبة المغاربة في القاهرة في جيش التحرير المصري، وهم في عنفوان الشباب، استرخصوا أرواحهم ودماءهم، وتضحية بمستقبلهم، كانوا أول تجريدة مغربية تشارك في صد العدوان عن مصر الشقيقة، واستمر الانخراط في جيش التحرير مدة أربعين يوما، ولما وضعت الحرب أوزارها، كان لا بد من الاعتراف بتضحية الطلبة المراكشيين ومبادرتهم الفريدة، واعترافا بذلك التضامن، صدر قرار جمهوري بقبول جميع الطلبة المغاربة في المدارس والمعاهد والجامعات المصرية كل طالب حسب رغبته وميوله وتطلعات تخصصه، دون أن ننسى ما بذله المكتب المغربي العربي بالقاهرة من مجهودات ليلتحق كل طالب بالجامعة التي يرغب في الانتساب إليها، وعلى ذكر ذلك المكتب، فهو كان بمثابة سفارة للمغرب، وكان يحضر في اجتماعاته زعماء وأبطال ودعاة تحرير المغرب من الاستعمار، والتعريف بالقضية المغربية، وكان من ضمنهم المرحوم علال الفاسي، والمجاهد عبد الكريم الخطابي، والفقيه المكي الناصري، والحبيب بورقيبة، والتحق به عدد من الطلبة المغاربة وفي مقدمتهم الطالب النجيب عباس الجراري بمدرسية تسمى مدرسة الحسنية، تقع بحي يسمى العباسية، ونظرا لعدم وجود معادلة بين شهادة الباكالوريا المغربية وشهادة الثانوية العامة، كان لا بد من الالتحاق بالقسم الأخير وهو قسم الثانوية العامة، أي ما يعادل قسم الباكالوريا المغربية، هذه المدرسة كانت تحتوي على ساحة واسعة الأرجاء، وتتوفر على منصة للخطابة ومكبر الصوت، وخلال فترة الاستراحة كان كل طالب في السنة الأخيرة من التعليم الثانوي يصعد لتلك المنصبة ويلقي خطابا أو محاضرة من عشرين دقيقة في موضوع مهم من اختيار الطالب، وما كان من الطالب بدافع غيرته على وطنه إلا أن يرتقي تلك المنصة ويلقي محاضرة للتعريف بالمغرب ونضاله من أجل التحرير والتخلص من الاستعمار، واسترجاع استقلاله وحريته، وشاءت الأقدار، وموعد الامتحان على الأبواب والمتعلق بالشهادة الثانوية العامة، وهي مفتاح الدخول والالتحاق والتسجيل في الجامعات المصرية، وأصيب الطالب اللامع بوعكة صحية، ونصحه الأطباء بالدخول إلى مستشفى يقع بمدينة الإسكندرية لتلقي العلاج، وهذا الظرف الصحي أثر على معنوياته، وبدأ يفكر في التوقف عن الدراسة، والمشاركة في الامتحان، والرجوع إلى المغرب، لكنه كان يعيش أزمة نفسية، فكيف سيكون موقفه مع والده وأفراد أسرته، ولما كان يتحلى بالصبر وقوة الإيمان، ومع العسر يسرا، وبعدما قمت بعيادته في المستشفى بمدينة الإسكندرية، وحملت معي كل ما يتعلق بمقرر الدراسة، وحازها واستراح لتلك الزيارة، فاسترجع قوة عزيمته وانكب، رغم حالته الصحية، على مراجعة المقرر وخرج من المستشفى وشارك في امتحان شهادة الثانوية العامة، وكانت النتيجة الباهرة المشرفة، إذ كانت رتبة نجاحه الرتبة الرابعة، وكان عدد المرشحين سبعين ألف طالبا وطالبة.. هذا النجاح كان العامل والسبب الأساسي في تغيير مسار حياته العلمية، والمواظبة على متابعة المسيرة التعليمية في أعلى درجاتها، وظل منتسبا لجامعة القاهرة، وهي جامعة مرموقة بجانب جامعة عين شمس، وجامعة الإسكندرية، وجامعة أسيوط وغيرها، إلى أن حاز على شهادات الماستر ثم شهادة الدكتوراه برتبة ممتاز وبشهادة العلماء والفقهاء الذين أشرفوا على مناقشة رسالة الدكتوراه ونوهوا بها وبعمق بحثها ودراستها، وكونها رسالة فريدة من نوعها، ومما جاء في التنويه، قول الدكتور حسين نصار “أحسنت البحث”، وقول الدكتورة سهير القلماوي “المقارنات بين الشابي وجماعة أبولو تدل على نضج ودقة تحليل”، وقال الدكتور يوسف خليف “بحث ممتاز، أعجبني سلامة منهجه، ودقة أفكاره، والجهد الضخم الذي يبدو في أثنائه، وهو بحث يستحق التهنئة”، وقال الدكتور عبد الحليم النجار “بحث طيب يمتاز بالعمق والشمول، كنت أود لو قصرته على دراسة المنهج النحوي عند عالم مغربي من علماء النحو نشأ به، يمكن ذلك أن يؤدي إلى نتائج أفضل، ومع ذلك فبحثك ممتاز”، أما بالنسبة للشهادات الجامعية وخلال الدراسة، فإن كلية الآداب بالقاهرة منحته شهادة جاء فيها: ((تشهد كلية الآداب أن السيد عباس عبد الله الجراري نجح في امتحان درجة الليسانس في الآداب من قسم اللغة العربية بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف الثانية. حررت بتاريخ 27/7/1965، وشهادة من كلية الآداب، تشهد أن عباس عبد الله الجراري حصل على درجة الماجيستر في الآداب من قسم اللغة العربية وآدابها بتقدير جيد جدا وموضوعها: “الأمير سليمان أبو الربيع.. حياته وشعره”.
لقد ربطت الحاضر بالماضي، والغصن اليانع بالشجرة الباسقة، وذلك بفقرة من كلمة التأبين التي ألقيت في الذكرى الأربعينية لوفاة والد الفقيد الفقيه العلامة الهمام المرحوم عبد الله الجراري، وجاء في تلك الفقرة: ((يعز علي أن أقف اليوم مؤبنا أخا عزيزا وزميلا كريما عرفه المغرب منذ نحو أربعين سنة مجاهدا بالكلمة المؤمنة والسيرة الحسنة والقدوة الطيبة والسلوك المترفع، لا يتردد في نشر العلم والعرفان، والدفاع عن الإسلام والإيمان، وتنشئة الأجيال على أقوم ما تكون التنشئة الصالحة دينا وتربية وتكوينا وتعليما، ذلك هو الأب الذي سلم المشعل للابن فحمله الابن بأمانة وإخلاص، وزاد بمواهبه في وهج شعلته وإشعاعه)).
الفقيد عباس الجراري رحمه الله، سيظل حيا بعلمه الذي ينتفع به، ومن الأحاديث النبوية الشريفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد الدنيا فعليه بالعلم، وأراد الآخرة فعليه بالعلم ومن أرادهما معا فعليه بالعلم، وقال ايضا: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)).
ختاما، نكرر الدعاء لفقيدنا بالمغفرة والرضوان، والسكنى في خير الجنان، وبارك الله في الأنجال ليكونوا من حماة المغرب أعز الأوطان.