الرأي

الرأي | تصور الفكر التربوي عند ابن خلدون

بقلم: ذ. محمد جباري
أستاذ باحث في التاريخ والفكر

    لا مشاحة أن ابن خلدون يعتبر من أهم أعلام الحضارة العربية الإسلامية، ومبعث هذه الشهرة هو كتابه “المقدمة” الذي ألفه عام 1377م، كمقدمة لكتابه الضخم “العبر”، وتتميز “المقدمة” – التي أصبحت مؤلفا مستقلا بذاته – بطابعها الموسوعي، حيث حاول فيها ابن خلدون أن يقدم نظرية متكاملة عن الظاهرة الإنسانية، إذ تناول بالدراسة والتحليل تطور الدول وسقوطها استنادا إلى مفهوم العصبية، وتأثير المناخ والغذاء في الإنسان، والصنائع، والتجارة، والفلاحة، والتعليم، والجبايات، والأخلاق، والحضارة، والحرب، والأمزجة… إلخ.

ومن يقرأ كتاب “المقدمة” في سياقه التاريخي، وينظر إلى جِدة الآراء والأفكار والنظريات المتضمنة فيه – والتي ما يزال الكثير منها يحافظ على راهنيته وقيمته ضمن التحليل السوسيولوجي والتاريخي – سينتهي به المطاف إلى الاعتراف بأن ابن خلدون فعلا “عالم سبق عصره”.. فقد بذل الرجل مجهودا فكريا عظيما، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، لكي يدرس ويحلل ويستنتج، ويقدم لنا نظريات جديدة تأسيسية لما سيسمى لاحقا بـ”السوسيولوجيا” مع الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت، والأدهى من ذلك، أن كتاب “المقدمة” أثر على مختلف المعارف الإنسانية، لدرجة عُدّ من أهم إنتاجات الفكر الإنساني، فهو كتاب في التاريخ، وكتاب في الاجتماع، وكتاب في السياسة… إلخ.

والآراء التربوية التي نزمع بسطها في هذا المقال، مقتطفة من هذا الكتاب، إذ يوضح ابن خلدون أن تعدد المؤلفات والمراجع في العلم الواحد، يحول دون تمكن المتعلم من التحصيل الجيد في هذا العلم، والسبب أن هذه المؤلفات – علاوة على كثرتها – فهي تتميز أيضا بتنوع واختلاف المناهج والرؤى، ويدافع ابن خلدون عن موقفه هذا، فيقول أنه حتى لو كرس المتعلم عمره كله للإلمام والإحاطة بهذا العلم، لن يستطيع ذلك، وقد ضرب عدة أمثلة في هذا المضمار، مثل ما كتب وألف حول مذهب الإمام مالك، من شروحات فقهية مختلفة، ثم ما ألف حول كتاب سيبويه، وغير ذلك.

تتمة المقال تحت الإعلان

لهذا، ينصح ابن خلدون بنهج طريقة تدريجية تدرجية في التعليم والتلقين، مع مراعاة المستوى الإدراكي للمتعلم، بمعنى أن المعارف التي يفترض أن تقدم للمتعلم، ينبغي أن يُأخذ بعين الاعتبار المستوى العقلي والفكري للمتعلم، ومن جهة أخرى، يشدد ابن خلدون على النأي عن التفاصيل، وأن تُتَنَاوَل المعارف والعلوم بكيفية إجمالية، حتى لا تستشكل على المتعلم منذ أول وهلة. ففي كل حصة تعليمية، يتم مد المتعلم بقسط وجانب من المعرفة المراد إيصالها، وهكذا دواليك حتى ينتهي ويستكمل الدرس، وبعد استيفاء كافة محاور الدرس، آن للمدرس مطلق الحرية في أن يغوص مع متعلميه في الشروحات والتوضيحات، وطرح المستغلقات والاختلافات والجدالات التي يحبل بها الدرس/ العلم.

في مقابل هذه “البيداغوجية ” البديلة التي يطرحها ابن خلدون على أهل عصره، فإنه يخبرنا أن “معاصريه من المعلمين يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويحضرون للمتعلم، في أول تعليمه، المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه(…)، فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات (في نسخة أخرى غرائب) الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها، فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا”.

إن أسلوب التدرج الذي يلح عليه ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي، قد أثبت مشروعيته ومصداقيته في وقتنا الراهن، حيث توصي البيداغوجيات الحديثة المدرسين، باتباع “بيداغوجية التدرج” مع المتعلمين، أي الانطلاق من البسيط إلى المركب، ومن المحسوس إلى المجرد، والمثال هنا المرحلة الابتدائية، التي ينبغي للمعلم أن يعتمد فيها بيداغوجية ترتكز على الجانب والبعد الحسي للمتعلم، وضرب الأمثلة المحسوسة، إضافة إلى التكرار، لأن المتعلم في هذه المرحلة لا يسعفه مستواه العقلي والإدراكي على الفهم والتعلم بالمجرد.  

تتمة المقال تحت الإعلان

ويرى ابن خلدون أن الطريقة التي يتبعها المدرسون في التعليم في زمنه، تضر بالمتعلم من حيث لا يشعرون، حيث أن تقديم المعارف دفعة واحدة، بإشكالاتها وتنوعها واختلاف مناهجها، تستشكل كما تستعصي على الفهم والاستيعاب لدى المتعلم المبتدئ، فيظن هذا الأخير أنه لا يمكنه إدراك هذه المعرفة، وأن عقله قاصر وعاجز عن ذلك، مما يؤدي به إلى الإعراض عن هذا العلم أو المعرفة، والتبرم منها وهجرها، على أن العلة ليست في المتعلم ومستوى ذكائه وإدراكاته، وإنما تكمن – بالأساس- في الطريقة التي قدمت بها له تلك المعارف.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى