الرأي | ما الذي غير مكانة الأعياد في حياتنا ؟ (2)
لقد غير عامل الوقت والأجيال والتطور من سن الطفولة التي امتدت إلى 17 سنة، وأصبحنا حاليا لا نفرق في وسائل التواصل الاجتماعي بين ما هو صحيح و”بوز” وحقيقي ونكتة، بل إن التشريعات خفضت سن الرشد من 21 سنة إلى 18، ولربما سوف تنزل به من 18 إلى 15، ولم لا إلى 12 أو أقل.. بعدما سمعنا أن أمريكيا من أصل ياباني دخل السنة الأولى من كلية الطب في أمريكا التي يتغير فيها نظام القبول في الكليات والمعاهد على غيرها من الأنظمة، وهو في سن التاسعة، ولعل الخبر صحيح هذه المرة لأنهم أرفقوا الخبر بالصورة والاستجواب معه ومع والدته وأصدقائه الطلبة الرجال والنساء في كلية الطب، لذلك، فالرشد أصبح مختلفا من أجل حماية مصالح الطفل، فهو ينقص في التشريع ويزداد في أمل الحياة، وبذلك أصبح عزوف الأطفال عن الأعياد والفرحة بها، وأصبحوا أكثر اقترابا من هواتفهم النقالة ولعبهم الإلكترونية من موائد العيد ومن الحلويات وغيرها، وحتى إن حضروا، فإن حضورهم لا يكون إلا جسديا، وحتى آباءهم الذين ربما التسمية الجديدة للسن – إن صحت – فهم أقرب إلى الأطفال في تصرفاتهم، نتيجة استحواذ هذه الوسائل عليهم، كما أن ظروف العمل وضغوطه أصبحت تفرض على هؤلاء الآباء والأمهات التخطيط لعطل العيد للذهاب إلى الراحة بدل الحرص على التجمع العائلي، فأصبحت مناسبات الأعياد موعدا للعطلة والهروب من صخب المدينة، وهي حركة تنشط الحركة السياحية في غير أيام العطل السنوية، وسموها بسياحة الأعياد، فأصبحت موضة جديدة.
ومن مظاهر تغيير العادات كذلك، ثقافة البعثات الأجنبية، التي تجعل الأطفال يعرفون أعيادا أخرى أكثر من معرفتهم بأعيادهم الدينية، ولربما يحتفلون بأعياد أجنبية أكثر من الاحتفال بأعياد البلدان التي ينتمون إليها، إضافة إلى تواجد الحلوى والشوكولاتة طوال السنة نتيجة ارتفاع مستوى العيش لبعض الطبقات في المجتمع، حيث أصبح ما يأكله الطفل وما يشرب في العيد شيئا عاديا بالنسبة لسائر الأيام، فلم يصبح يعطي أهمية لذلك التغيير في يوم العيد والاستعداد له بالخروج إلى محلات البيع وقياس الألبسة والتفاخر مع الأقران بها، بينما العيد يتساوى فيه الغني والفقير والكبير والصغير، لا فرق في تلك الأجواء من الفرحة والتسامح وصلة الأرحام ومباركة الجيران التي كانت تحيط بالأعياد عموما، وكانت تخلق ذلك الإحساس الذي كان يشعر جيلنا به وحاولنا ولا زلنا نحاول أن يتشبث به أبناؤنا وحفدتنا وأقرباؤنا وأحباؤنا لضمان استمراريته..
والغريب الذي يلاحظه جيلنا، وربما حتى الجيل الذي بعدنا، أن هناك نوعا من العودة إلى الأصل، ذلك أن تجربة قطع هذه العادة بحكم عدة عوامل، تركت فراغا استحال تعويضه، مما أرجع الناس إلى تربية الأطفال على ما عاشه الآباء في سنهم، وبذلك سوف تستمر – لحكمة أرادها الله – تلك العادة التي تصاحب الشعائر الدينية والتي هي جزء لا يتجزأ منها.. فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن كان له يوم العيد ما يشبه الموكب، وكان يمسك بحربة وهو يقود هذا الموكب المبارك، وروى القاضي التنوخي (384هـ/995م) في “نشوار المحاضرة”: “إن من محاسن الإسلام يوم العيد بطرسوس”، التي تقع جنوبي تركيا اليوم، وكانت ثغرا عظيما لمواجهة الروم البيزنطيين حتى استولوا عليها سنة 354هـ/966م، فكان العيد، رغم أنه مناسبة فرح وسرور، فرصة لاستعراض القوة العسكرية للمجاهدين المرابطين فيها.
والحمد لله أن جموع الفَرِحين المُكبِّرين بالعيد لم تنقطع عن حواضر العالم الإسلامي طوال قرون، ولا زالت إلى يومنا هذا سارية ونعيشها لحكمة أرادها سبحانه وتعالى للبشرية.. فقد عرف المسلمون الأعياد وكانت عندهم مواسم للبهجة والمرح والتلاقي الاجتماعي وصلة الأرحام والاطلاع على الأحوال، كما كانت عبادة وقُربات ونُسُكا، وقوة وفتوة، وعرضا للمكتسبات السياسية والعمرانية التي أنجزتها الدولة والمجتمع، وكانت الأعياد ولا زالت دفعة أفراح وابتهاج غامرة في حواضر العالم الإسلامي، ومناسبة للتهاني سهلها الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي اليوم، حتى لكأن المسلمين في أيام أعيادهم لا تشغلهم سوى المفاكهة والضحك والنكت والأحداث الجميلة ورسائل الحب والأكل والمشرب، بل إن الشعراء والموسيقيين والفنانين أبدعوا في هذه المناسبات وخلدوا ذلك، كما دأب الأدباء على التعبير عن الفرح وكذلك عن الحزن عمن فارقنا ممن اعتدنا العيد معه، واستبدال أجواء العيد من حزن وفرح وكآبة، كما جاء في “رائية” المعتمد بن عباد المشهورة، عندما تقلب عليه الدهر وكان العيد مناسبة للتذكر :
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فَساءك العيد في أغمات مأسورا
تَرى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا