الرأي | شيء من حياتي (5)


لم ينس الكاتب تلك الحادثة لذلك الحاتم الطائي القنيطري، البدوي الفلاح الذي منّ الله عليه بصفقة من المال الحلال، والذي كان يدق باب عمل الكاتب يوما عند انتهاء أحد البروفات مع أعضاء الفرقة الموسيقية، الذين نزل عليهم رزقهم من السماء، ويتفق مع صاحب أغنية “يا الغادي في الطوموبيل” مع صاحب أول “طوموبيل” حقيقية التي سيهديها للفنان لأنه معجب به، ويتفق على إحياء زفاف ابنته بمبلغ خيالي ذلكم الوقت اندهش له مع فرقته الموسيقية وانتهى بإهداء سيارة من نوع “بونتياك” الأمريكية ومبالغ ضخمة أخرجها الفلاح من محفظته التي كان يتلحف بها تحت جلبابه، فاقت مبلغ مليونين في ذلكم الوقت!
والحقيقة، أن التصوير الذي صور به الأستاذ الدكالي ذلكم الفلاح الغرباوي بلكنته وكرمه، ذكرني بأحد أخوالي من فلاحي الشاوية كذلك في ذلكم الوقت، إذ كانوا أيام “الصابة” والمواسم الفلاحية الجيدة، إلى جانب قيام المواسم لم تكن موائد بعض الأثرياء منهم تخلو ليس فقط من شواء الخرفان احتفاء بضيوفهم، ولكن شواء حتى لانغوست والهومار، الذي كان يأتي من الواليدية إلى ارياح، وكان الضيوف الأجانب عندهم يتعجبون من ذلك ويستغربون كيف كان يكتب فوق أكلة البسطيلة بالسكر المدقوق والقرفة عبارة “مرحبا بضيوفنا الكرام”، وقد أكد لي الواقعة الزميل المرحوم القاضي الأستاذ الطاهري الجوطي، الذي عمل بمحكمة الحاكم المفوض ببرشيد، وهي من العادات التي لا زال كل المغاربة يلجؤون إليها من أجل اعتبار مستوى الكرم نوعا من الترحاب بالضيف والفرحة به، لذلك تفننوا في مظاهر الضيافة والبذخ فيها وهو مظهر حضاري من مظاهر الكرم الحاتمي المعروف عند العرب والأمازيغ المغاربة على حد سواء، كيف ما كان مستواهم المادي.. ففي الوقت الذي كان يتقاضى العازفون حسب الكاتب مائة ريال في الحفلات، صبت عليهم نقود الفلاح القنيطري كالشتاء كرما وفرحا، فكان طالع يمن على الأستاذ الدكالي وساق السيارة الأمريكية مدة دون التوفر على شهادة القيادة التي اضطر للحصول عليها بعد ذلك الكرم الحاتمي.
“في الجزائر” هو عنوان الفصل الثامن عشر، وهو حديث ذو شجون بصحبة الفنان فويتح وسفرهما من أجل مشاركة الشعب الجزائري الشقيق أفراح استقلال بلاده، وقد كان الترحاب منقطع النظير، خصوصا في الفصل الذي سماه “خائن معنا”، وهي حادثة اندساس أحد الخونة في فرقة الموسيقى، لكن أعين السلطات الجزائرية كانت منتبهة وحذرت الفنانين المغربيين من كل ذلك.
أما الفصل التاسع عشر، فسماه “جميلات كولومب بشار”، وهي السهرة التي طلب منه حاكم البلاد – كما يسمونه – أن يقوم بإحيائها خاصة فقط بالنساء، وقد نجحت لدرجة أن عددا من هؤلاء الجميلات بدأن في إنزال وابل من الأوراق النقدية على جنبات المنصة وزخات من الأوراق المالية تتساقط من كل جانب، حسب تعبير الكاتب .
ومن ذلك، فإن طبيعة الشعوب لا تختلف، فما يسمى في بلادنا بـ”الغرامة” على الفنانين والفنانات عند الانتشاء، لا يجد المغاربي شيئا يعبر به سوى إلقاء الأوراق المالية على المطرب أو المطربة احتفاء وانتشاء، وهي عادة ليست تقليلا أو تفاخرا أو هنجعية، وإنما طريقة في التعبير على النشوة وإظهار النخوة بالفنانين لا زالت موجودة إلى يومنا هذا.. لذلك كان تعرض الكاتب لهذا العرف الجزائري الشبيه بالعرف المغربي، نوعا من إضافة أدب الجولات على السيرة الذاتية، مما أكسب الكتاب كثيرا من الأهمية في التعرف على عادات الشعوب وطبائعهم.
أما الفصل 20، فقد تكلم عن “قطيع من الذئاب يريد افتراسنا”، وهي حادثة طريفة وقعت لهم في الطريق إلى العاصمة ليلا، حيث كان في ذلك البرد القارس بعض الذئاب تتراءى لهم والتي أثارت خوف الفنانين..