الـــــــــــرأي | لماذا تحولت الشواطئ العمومية إلى أملاك للخواص؟
بقلم. رمزي صوفيا
من بوزنيقة إلى المحمدية، ومن الدار البيضاء إلى الجديدة عبر منطقة طماريس ودار بوعزة وشاطئ سيدي رحال، ومن الجديدة حتى آسفي وهلم جرا، على مدى الخط الشاطئي للمغرب، لوحظ خلال السنوات الأخيرة بأن البحر لم يعد كما كان، لقد فقد طبيعته، وتشكل جدار إسمنتي بينه وبين العموم، فالعابر للطريق الساحلية يصطدم بمشاريع إسمنتية يجمع بينها شيء واحد: السطو على الملك العام والتطاول على حقوق المغاربة في الفضاء الشاطئي لسواحل المغرب.
فقد تجولت خلال الصيف الماضي بين عدة مناطق ساحلية قرب الدار البيضاء. وقادني عشق البحر إلى منطقة سيدي رحال، وهناك عاينت العجب العجاب، حيث شاهدت إقامات مغلقة ومحروسة 24 ساعة على 24، إقامات رائعة الجمال بمسابح يبلغ عدد بعضها ثمانية مسابح للكبار والصغار وبمرافق استجمام تحبس الأنفاس. وقد تم تشييد وبيع هذه الإقامات بعد انتشار الثقافة الاستهلاكية الجديدة للعقار بين المغاربة، وهي ثقافة السكن الثانوي أو سكن الاستجمام بعد السكن الرئيسي الذي يكون عادة في المدينة التي يعمل ويعيش فيها أفراد العائلة. والذي صعقني وأثار استغرابي هو أن هذه الإقامات تم من خلالها الترامي على الشاطئ المفترض أنه ملك لكل المصطافين بدون استثناء أو قيود. وصارت هذه الإقامات تضع سياجات شائكة على معبر كامل نحو مياه البحر المحاذي لها بدون حسيب أو رقيب لأن مياه ورمال تلك المساحة التي تم الترامي عليها هي “ملك خاص” (خارج القوانين المغربية) لسكان تلك الإقامات التي يتم طرد الذين تسول لهم أنفسهم الاقتراب منها بواسطة حراس خاصين وكلاب تروع الناس.
إنه بكل اختصار وبكل صراحة اعتداء حقيقي على حق دستوري يضمنه القانون لكل المغاربة؛ حقهم في استغلال الملك العام وليس تحويله لملك خاص وكأنه خارج سيادة القانون.
ومازال الكثيرون يتذكرون المعركة الشهيرة التي خاضها المجتمع المدني ضد خوصصة مخيم الهرهورة، وهذه المعركة التي لبست ثوبا قانونيا، لم تثر كثيرا من الجدال على اعتبار أن المستفيدين احترموا بشكل عام قواعد احتلال الملك المؤقت، ومن الصعب دستوريا حرمان مواطن من حق التقدم بالاستفادة، لكن مع مرور الوقت، انتقل البعض منه إلى معركة ثانية تتعلق باستدامة هذا الاستغلال وتحويله إلى ملكية خاصة، فتحولت “الشاليهات” والإقامات الشاطئية إلى بنايات إسمنتية كبرى، سواء المطلة على البحر أو البعيدة عنه.
وفي خضم هذا التسابق المحموم، ظهرت عينة من المضاربين، الذين حولوا الإقامات القريبة من البحر إلى مجال خاص، قاموا من خلاله بتمديد البنايات في كل الأطراف، وتحولت الممرات إلى مسالك ضيقة جدا، بل وتتحول في بعض منها إلى ما يصفه سكان المنطقة بـ”ممرات الحلوف” الضيقة جدا والمكسوة بأغصان النباتات، مما يجعل من عمليات العبور محنة للعموم.
وإمعانا في تجسيد هذه السياسة المعادية للحدود الطبيعية للشواطئ تم ضم شواطئ بكاملها إلى بعض المشاريع السياحية وتغيير معالمها الطبيعية، دون احترام للقوانين الجاري بها العمل ودون احترام أحقية العموم في المرور لهذا الملك الذي تتم خوصصته ضدا على حق الجميع في الاستفادة منه، وذلك في ظل صمت لسلطات الوصاية التي يتهمها البعض بأنها باركت هذا السلوك ببعض المناطق، وهو ما شجع المستفيدين من هذه العمليات وآخرين من الاستمرار في الإجهاز على أحقية العموم في هذا الملك وفي واضحة النهار.
ثلاثة شواطئ تتعرض لتكالب المال والسلطة
ولم يفلت شاطئ الداهومي من مسلسل الترامي غير القانوني على ملك العموم فقد كان مسرحا لأبشع عملية احتلال للملك العام والخاص، حيث تمت المتاجرة في البقع الأرضية من طرف مجموعة من المنتخبين عبر وصولات وقرارات استفادة من هذه البقع موقعة على بياض من طرف رئيس البلدية والمتاجرة بها بمبالغ مالية مهمة، قبل أن تصل القضية إلى القضاء حيث تم اعتقال مجموعة من أعضاء المجلس البلدي وآخرين، والشاطئ الجنوبي لبوزنيقة حيث تم الإجهاز على منطقة شاطئية بكاملها وإقامة مبان عشوائية عليها تتكون بعضها من ثلاثة طوابق وفيلات و”شاليهات” من طرف أشخاص مسؤولين في السلطة بالإقليم والإدارة المركزية لوزارة الداخلية كان من المفروض فيهم حماية هذا الملك، إضافة إلى منتخبين من بينهم رؤساء جماعات وبرلمانيون ومقربون من السلطة.
هذه الوضعية تركت الشاطئ الذين كان يطل على البحر من خلفية طبيعية مميزة يتعرض للتعري، وتحول الإسمنت إلى مجال للقبح، ووجد الوافدون على الشاطئ أنفسهم في مواجهة وضع جديد، أهم ما يميزه هو الرغبة في تملك الشاطئ، من خلال التضييق على العموم، واعتبار الاقتراب من الإقامات نوعا من التعدي على الخصوصية.
وبالشاطئ الشمالي التابع لنفس البلدية اكتسح الإسمنت حتى المنافذ المؤدية للشاطئ وأقيمت المباني مباشرة فوق رمال البحر في تحد سافر لكل القوانين، واستهتارا بالسلطة الوصية على الملك، والتي غالبا ما تبقى بعيدة، في غياب أدوات الردع الممكنة، وبذلك تشكل وضعا قضى على جمالية الشاطئ، شأنه في ذلك شأن شاطئ الصنوبر «دافيد».
فعلى بعد يومين من انفجار فضيحة شاطئ الداهومي، على التوقيع على قرارات فردية وخلق تجزئة سكنية عشوائية عليها بيعت بقعها بمبالغ مالية مهمة تعدت مداخيلها المليار سنتيم، المبالغ المستخلصة من عمليات البيع كانت مصدر احتجاجات متواصلة لمنتخبين ومجموعة من الجمعيات، ومازالت خيوطها غير منجلية، وتطرح في كل تقارير اللجن التابعة للجمعيات المدافعة عن المال العام.
وبشاطئ “سابليت” الجنوبي التابع لنفس البلدية، تحولت عمليات تفويت الاستغلال المؤقت للملك العمومي إلى فوضى، وهذا التفسير للقانون جعل مثل هذا الشاطئ يتحول إلى ملكية خاصة ممنوعة على العموم من طرف بعض أصحاب المقاهي والملاهي الليلية المنتشرة به، والذين يلجؤون إلى فرض نظام حماية يستغل أسماء من المسؤولين توفر لهم الحماية وتضع عراقيل في وجه الشكايات التي تثار ضدهم، وحين يتم تركيع الجميع تبدأ عمليات التوسع دون أن يتعرضوا للردع.
وحين تضطر السلطات إلى تنفيذ أحد القرارات التي تكون مصادفة لاحتجاجات، سرعان ما يتم التراجع عنها، ومن بين النماذج على ذلك ما يحكيه مسؤول بالإقليم رفض الكشف عن هويته، من أن عامل الإقليم اتخذ قرارا يقضي بإغلاق مقهى مشهورة بالمنطقة، كانت العديد من الشكايات تتبرم من الأجواء المشحونة التي تخلقها، وحين أقسم صاحب المقهى أمام عدد من الحاضرين على إعادة فتحها لم يأخذه البعض على محمل الجد.
وحين أعيد فتح المقهى، تأكد الجميع أن تطبيق القانون يحتاج لكثير من الوضوح، وبعد تحقيق التحدي يكون الباقي سهلا، وما الوضعية التي أضحى عليها الشاطئ بعد إعادة فتح المقهى سوى صورة مصغرة لما تعيشه جل شواطئ المنطقة.
“الأداء ضروري” الأمر لا يتعلق بمطلع أغنية شعبية، بل هو حقيقة مرة يعيشها رواد الشواطئ قبل ولوجهم إليها، فالمداخل تم احتلالها من قبل أصحاب الإقامات الخاصة، ومواقف السيارات وضع لها أصحابها أسعارا مزاجية، بعلة غلاء كرائها من قبل وسطاء وسماسرة، وحين تتم عملية الولوج إلى الشاطئ يبدأ مسلسل الابتزاز، انطلاقا من الموائد والكراسي والمظلات والأسرة الصيفية التي احتلت معظم المساحات الرملية الممتدة من أبواب هذه المقاهي إلى حدود مياه البحر.
وبالرغم من كون العديد من الشواطئ تتسم باتساع محيطها، الذي يسمح بممارسة هوايات رياضية مختلفة، دون السقوط في التضييق على الجالسين من المصطافين، إلا أن احتلال هذه المسافات قلص مساحة الشواطئ إلى ممرات ضيقة كما عاينت “الأحداث المغربية” أثناء زيارتها لهذه الشواطئ، التي يعاني فيها المصطافون من التضييق الكبير على حقهم في الاستفادة من رمال ومياه البحر، وتتعاظم المشكلة حين يكون مد البحر مرتفعا.
تصريحات مجموعة من المواطنين كانت عبارة عن استنكار عميق لهذا الوضع، فالعديد منهم استنكر هذا الاستعمار للشاطئ، واعتبر عملية استرجاعه للناس معركة يجب خوضها، وبالنسبة للعديد من الوافدين على الشاطئ، هناك مبالغة في استغلال جزء من الشاطئ لتوفير خدمات مطلوبة، سواء المقاهي أو غيرها، لكن أن تتحول العملية برمتها إلى قرار فوقي يلغي حق استفادة العموم من رمال ومياه البحر، فـ”هذا منتهى الشطط”، كما يقول أحد المصطافين.
الجلوس على الرمال أصبح بالأداء، تلك حقيقة تجسدت في هذه الشواطئ، لأن احتلال مساحات كبيرة، يجعل استغلالها يمر عبر أداء ثمن الطاولة والمشروب والمظلة والكراسي، وإلا سيكون المتاح في مثل هذه الحالات موضع “فوطة” قد تتعرض لهجوم مياه البحر، وقد تقوم عصابات النشل المنتشرة بالواجب، حتى يجد من يختار التمرد على قانون المضاربين نفسه في ورطة.
الابتزاز سياسة منظمة، فإذا لم تكن مستعدا لفقد سيارتك أو جزء منها، فما عليك سوى الانصياع لحراس السيارات وعدم مناقشة الأثمنة المفروضة عليك، وحين تلج الشاطئ عليك بأداء ثمن الكراسي والمظلة. ولكي تستفيد من أشعة الشمس في هدوء، ولكي تتناول جزءا مما تجلبه للتخفيف من العطش والجوع عليك بحجز المكان الذي ترسمه حبال أصحاب المقاهي التي ترسم حدود الخاص والعام، وهو وضع يتعايش معه الناس في غياب أي تحرك جماعي، ودرء لسطوة أصحاب المقاهي، الذين يبادرون إلى إهانة من تجرأ على الحديث عن هذا الوضع، لتبقى الصورة السائدة فتوة وعربدة منظمتان لحرمان الناس من الحق في الاستفادة من شواطئ بلا قيود.
السؤال الذي يبقى مشوشا هو حول الجهة التي تمنح هذه الترخيصات التي يتم استغلالها لممارسة سيل من التجاوزات.
إن المطلوب اليوم هو تضافر كل الجهود من طرف الجهات الحكومية لوقف هذا المسلسل الذي يضرب القوانين المغربية في صفر ويجعل تطبيقها محدود النطاق. فالمغرب هو دولة للحق والقانون والمطلوب من وزارة التجهيز والسلطات الترابية مواجهة ظاهرة الترامي على الملك العام لجعل القانون فوق كل الاعتبارات.