

شخصية الكاتب الروسي تشيخوف هي قصة حقيقية ترمز إليها كل قصصه الصغيرة التي أعجبنا بها صغارا وحاولنا فهمها كبارا.. فهو يتذكر دائما الرعب والاستبداد الأبوي الذي أصابه عندما وجد والده أن أمه وضعت كثيرا من الملح في الحساء وأطلق عليها لقب “الأم الحمقاء”، وهي ذكريات طفولة أثرت في ذلك التعامل الذكوري في وقته مع امرأة كانت تهوى قراءة الكتب وتنمية الجانب الإنساني في فكر أولادها، وفي نفس الوقت تحاول إرضاء زوج همه الوحيد مراقبة التوابل في مطبخها.
وهي صور من المجتمعات لا زالت إلى يومنا هذا – مع الأسف – تغزو طبائع الأسر دون أن يلتفت أصحابها إلى تأثيرها السلبي على الأطفال وعلى المرأة عموما.
ثم التحق أنطوان تشيخوف بمدرسة يونانية في تاغانروغ، حيث تم احتجازه – حسب وصفه – لمدة عام، بسبب إخفاقه في امتحان اللغة اليونانية القديمة.
وفي رسالة من عام 1892، استخدم كلمة “معاناة” لوصف طفولته وذكر: “عندما اعتدت أن أقف أنا وإخوتي في وسط الكنيسة، شعرنا بأننا سجناء صغار”، وفي عام 1876، أعلن والد تشيخوف إفلاسه بعد أن أفرط في إنفاق موارده المالية على بناء منزل جديد، بعد تعرضه للخداع من قبل مقاول يُدعى ميرونوف، وبسبب الديون، هرب إلى موسكو، وعاشت الأسرة في فقر مدقع في هذه المدينة الكبيرة، وكان يرى والدته محطمة جسديا وعاطفيا بسبب هذه التجربة، ويتألم داخليا من أجل ذلك، مما اضطره لبيع ممتلكات العائلة وإكمال تعليمه، وأثناء دراسته الطب، لم يكن له خيار من كتابات مبكرة ليطعم بواسطة مداخيلها الهزيلة الأسرة بأكملها، ودفع رسومه الدراسية، مما اضطره إلى أن يكتب ويرسم يوميا رسومات قصيرة ومضحكة ومقتطفات صغيرة من الحياة الروسية الحديثة، والعديد منها تحت أسماء مستعارة من أجل مزيد من المداخيل، لكن وسط هذه التضحيات، نبغت عبقرية سرعان ما أكسبته شهرة واسعة كـ”كاتب ساخر لحياة الشوارع الروسية” كما كانوا يلقبونه بذلك .
ففي عام 1882، ابتسم له الحظ فكتب لأوسكولكي المملوكة لنيكولاي ليكين، أحد الناشرين البارزين في ذلك الوقت، وكانت نبرة تشيخوف حينها أقسى من تلك المعروفة في أعماله الروائية اللاحقة.
وفي عام 1884، تخرج تشيخوف طبيبا، واعتبر مهنة الطب عمله الرئيسي وجنى منها بعض المال، وعالج الفقراء مجانا كما فعل جل الأدباء الأطباء.
وفي عامي 1884 و1885، وجد تشيخوف نفسه يسعل دما، وفي عام 1886 وهو ابن 26 سنة، تفاقم وضعه الصحي، لكنه لم يخبر أسرته أو أصدقاءه بمرض السل الذي أصيب به من جراء ذلك الجهد الذي كان يبذله أسوة بكل النوابغ من الكتاب في بداياتهم من أجل الاستمرار في العيش، والذي سرعان ما يسبب لهم أمراضا قاتلة تذهب بهم إلى مثواهم الأخير في غفلة منهم، بعدما تلتقي بهم الشهرة في آخر المطاف والمجد الذي كانوا يحلمون به وكأنه من مكر الصدف أن لا يسعدوا به كما لم يسعد بتلك السعادة أبطال قصصهم ورواياتهم، وهو ما عبر عنه في تلخيص لحياته القصيرة التي لم تتجاوز 44 سنة، قائلا: “لما كنت في الخامسة عشر من عمري، عثرت في الطريق على ورقة نقدية من فئة الجنيه منذ أربعين سنة، ومنذ ذلك الوقت لم أرفع وجهي عن الأرض وأستطيع الآن وأنا على حافة القبر، أن أحصي محصول حياتي وأن أسرده كما يفعل أصحاب الثروات هكذا: 2917 من الأزرار، 44172 دبوسا، 12 سن ريشة، 3 أقلام، 1 منديل، ظهر محني حياة بائسة”.