
تثير مسألة تعديل مدونة الأسرة الكثير من التساؤلات لدى المتتبعين، لكونها تحدد مستقبل الأجيال المقبلة والأسرة الحديثة، وأصبحت حديث الناس في الأماكن العمومية والمنازل، خاصة بعدما تم تعيين لجنة مشتركة تجمع وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة للإشراف على العملية، والأمر يتعلق بلجنة قانونية تخص المجال القانوني في غياب الفقهاء والعلماء، مما يطرح التساؤل: أي دور للعلماء في المدونة المقبلة ؟
إعداد: خالد الغازي
بالرغم من الدور الكبير الذي تقوم به المؤسسات الدينية في تنظيم المجتمع، وتحقيق الاستقرار الديني والروحي والاجتماعي داخل الأسر من خلال الوعظ والإرشاد، وتوجيه الآباء ونصح الأبناء بالتحلي بالأخلاق وطاعة الوالدين بهدف ضمان التماسك الأسري، وتجنب كل ما من شأنه أن يثير المشاكل ويفكك الروابط الأسرية، إلا أن الملاحظ في مشروع تعديل المدونة المقبلة، أنه حمل تقليص دور العلماء في هذا الملف، بعدما ساهموا في تحقيق تحولات قانونية كبيرة من خلال مشاركاتهم السابقة في إعداد مدونة الأحوال الشخصية سنة 1957، ومدونة الأسرة لسنة 2004، التي عرفت بدورها هيمنة واضحة للعلماء مع تمثيلية محدودة لبعض أساتذة القانون.
فقد فاجأ بلاغ الديوان الملكي الجميع بعدما أعطى للعلماء وللمجلس العلمي الأعلى دورا استشاريا في مشروع تعديل مدونة الأسرة بعدما كانت القرارات الملكية السابقة تعطي للعلماء الأسبقية في مشروع أو تعديلات تتعلق بالجانب الديني أو العلاقات الأسرية داخل مؤسسة الزواج، إلا أنه تم منح الأولوية للمؤسسات الدستورية عوض الأشخاص في محطة مدونة 2023، وأصبح رأي العلماء مرتبطا بالمجلس العلمي الأعلى باعتباره مؤسسة رسمية دستورية، إلى جانب المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ووزارة الأسرة والتضامن.
ويرى متتبعون أنه بالرغم من هذا المعطى ومنح دور استشاري لمؤسسة العلماء، إلا أن مؤسسة إمارة المؤمنين تولي أهمية بالغة لعلماء المملكة وتعطيهم دورا رياديا في تنظيم الشؤون الدينية من خلال المجالس العلمية المحلية، والرابطة المحمدية للعلماء، حيث سبق أن أكد الملك محمد السادس في رسالة إلى العلماء الأفارقة، أن المسؤولية التي يتحملها علماء الدين مسؤولية عظيمة، وأصبحت أكثر أهمية في هذا العصر، مضيفا أن المغرب، وبناء على هذا الواقع وحرصا على حماية دين الله، اتخذ الإجراءات اللازمة لتنظيم الفتوى بشكل جماعي، من خلال تضمينها ضمن اختصاصات المجلس العلمي الأعلى، الذي يقوم بإصدار الفتاوى والاستشارات الدينية في القضايا المتعلقة بالدين والشؤون العامة.
وحسب العديد من المختصين بالشأن الأسري والقانوني، فإن مدونة الأسرة تحتاج إلى تطوير وتجويد لكي تعالج الكثير من الإشكالات التي تعرفها الأسرة المغربية، ولكي تساير حركية المجتمع المغربي ومقتضيات العصر والتحديات الراهنة، خاصة في ظل ارتفاع حالات الطلاق وفشل مدونة 2004 في الحفاظ على تماسك الأسرة، لكن يبقى السؤال الذي المطروح: هل للعلماء مكانة مهمة في هذا المشروع المجتمعي في ظل الترويج للعديد من الأشياء والشائعات التي تتحدث عن وجود أمور تتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي وأحكامه ؟
وبالرغم من تحكم التيار الحداثي في المشهد السياسي والإعلامي وممارسة ثقله وضغوطاته للأخذ بمطالبه ومقترحاته في مدونة الأسرة الجديدة، والتي تتضمن أمورا تخالف الدين، إلا أن التيار المحافظ يرى في الخطاب الملكي لعيد العرش 2022، صمام أمان لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وصيانة لمكانة علماء الأمة بعدما قال: ((.. وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية، ومن هنا نحرص أن يتم ذلك في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية، وعلى الجميع أن يفهم أن تمكين المرأة من حقوقها لا يعني أنه سيكون على حساب الرجل، ولا يعني كذلك أنه سيكون على حساب المرأة)).
في هذا الإطار، يقول أحمد كافي، أستاذ الدراسات الإسلامية بالدار البيضاء، أن المغاربة المسلمون يبدأون حياتهم الزوجية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعالمون بالكتاب والسنة وما بني عليهما من الفقه، هم العلماء حصرا وقصرا عليهم إذا كنا نحترم التخصصات، مضيفا أن المجلس العلمي الأعلى هو أعلى مؤسسة علمية أنيطت بها مهمة القول في القضايا العامة الكبرى، لذلك كان هذا المجلس هو المخول بالقول في القضايا العامة، والعلماء هم المؤتمنون على دين المغاربة ومذهبهم، فدورهم هو دور الصدارة والإمامة في هذا الموضوع، كما أن العلماء سيكون لهم دور إذا صمدوا في وجه التغريب، ولم يترددوا في الدفاع عن الأحكام القطعية للشريعة، واجتهدوا في البحث عن حلول لما يطرحه المعنيون بالأسرة، وناضلوا كما ناضل من قبلهم كبار علماء المغرب الذين لم يضيعوا أسر المغاربة ومذهبهم وثوابتهم.
وحسب نفس المتحدث، فإن علماء الدين لهم تجارب متعددة في إشرافهم على جميع مدونات الأحوال التي حكمت الأسر المغربية منذ الاستقلال، وأنتجوا مدونات للأموال، فاعتمدت الأحوال وأقبر موقعهم في الأموال، لذلك فهو يطالب بضرورة إشراك العلماء في تعديل مدونة الأسرة من طرف العالمين بهوية المغاربة، والإفراج عن أمنيات العلماء والمغاربة بأن يكون لهم حضور في الأموال التي هي عصب الحياة، وكلية من كليات الشريعة الإسلامية في جميع المذاهب الفقهية.
وبخصوص علاقة مدونة الأسرة بالمذهب المالكي، أوضح الدكتور كافي: لكي لا يتيه المغاربة بين المقاربات الفقهية والمذاهب الفقهية، والمؤسسات الفقهية التي أنتجت فقها منذ عصر النبوة إلى اليوم، كان لا بد من اختيار مدرسة في الفقه يحتكم إليها الناس، حيث اختار المغاربة منذ دخول الإسلام المذهب المالكي، وانفتحوا على المذاهب الفقهية الأخرى، مشيرا إلى أن جميع قوانين الأسرة في المغرب كانت قد نصت بوجوب الرجوع إلى المذهب المالكي والاجتهاد الفقهي، فليس من نافلة القول قولنا: إن العالمين بهذه المدرسة الفقهية هم العلماء في هذا البلد.
من جانبه، يرى الباحث في الحقل الديني والسياسي محمد البوشيخي، أن هناك عدم التجانس في نخبة العلماء بالمغرب، كما في خارجه، وبالتالي، أتوقع تضارب الرأي والموقف بينهم بحسب التباين في اجتهاداتهم الفقهية ومستويات اقتناعهم بالدعوات “التجديدية”، وهذا كان واضحا خلال الجدل السابق حول مدونة الأسرة قبل تعديلها عام 2004، والتي حملت مجموعة من المستجدات كانت محل رفض واستهجان من قبل غالبية العلماء، وقد التزم حينها العلماء الصمت عن مجموعة بنود سبق لهم معارضة مضامينها، بمبرر أن التعديلات طالت اجتهادات فقهية ولم تمس النصوص القطعية، أما النقاش الدائر حاليا حول التعديلات المرتقبة على مدونة الأسرة، فلم يتطور بعد إلى جدل وإن وجدت مؤشرات على إمكانية تحوله إلى قضية رأي عام، يضيف المتحدث نفسه، لذلك يحاول عدد من العلماء، سواء من داخل المؤسسة الرسمية أو من خارجها، شرح الأحكام الشرعية في الموضوع، وهي حالة صحية ومطلوبة رغم التفاوت في قناعاتهم بشأنها.
ويقول البوشيخي، أن دور العلماء في تدبير التعديلات حول المدونة، سيتبلور في كون “العلماء ممثلين في اللجنة في شخص الدكتور محمد يسف، رئيس المجلس العلمي الأعلى، وبالتالي، لن تكون هناك مشكلة لعلماء المؤسسة الرسمية في التواصل المباشر مع اللجنة وفق الآلية التي قد يضعها المجلس العلمي لبلورة تصوره، والاطلاع على ما يجري بداخلها، ومن ثمة يكون لهم حق الرد والاعتراض وطلب المراجعة والتعديل، إلى جانب مشاركة العلماء من خارج المؤسسة الرسمية، أي المستقلين، بالتفاعل مع النقاش الجاري بواسطة التصريحات الصحفية والمقالات والأوراق والعروض وإطلاق ملتقيات علمية تتم صياغة مخرجاتها في شكل مقترحات تقدم للجنة بواسطة تمثيلية المجلس العلمي الأعلى باعتبارهم امتدادا لنخبة العلماء.
وأوضح ذات المتحدث، أن التعديلات ستقتصر، غالبا، على معالجة الأثار السلبية لسوء تطبيق نصوص المدونة الحالية، مثل التحايل في التعدد وزواج القاصرات، ولن تطال القضايا المختلف بشأنها كالمساواة في الإرث، باستثناء مسألة التعصيب التي فيها أكثر من رأي واجتهاد، وإن حصل غير ذلك، قد يلجأ العلماء إلى رفع مذكرات مستقلة تشرح وجهة نظرهم “المجمع عليها من طرفهم” في الموضوع والمنهجيات الأصولية المعتمدة في أقوالهم.
يرى الكثير من الناس، أن المدونة أصبحت بعيدة عن الشريعة الإسلامية السمحة، التي أطرت مدونة الأحوال الشخصية الأولى في الستينات والسبعينات، والتي كانت المشاكل الأسرية حينها محدودة وضئيلة مقارنة مع اليوم، حيث أصبحت المشاكل والخلافات الزوجية تصل بسرعة البرق إلى القضاء وتزيد من إغراق المحاكم بملفات وقضايا كثيرة، كان من الأجدر معالجتها في بدايتها من خلال تطبيق مقاصد الشريعة، التي توصي بالحوار والوساطة العائلية، وتقريب وجهات النظر بتدخل من الأقارب والأهل عند حصول خلاف بين الأزواج، وذلك لضمان الاستقرار الأسري واستمرار العلاقة الزوجية في إطار الاحترام المتبادل واستحضار مصلحة الأبناء الفضلى.
وحسب العديد من الملاحظين والمتتبعين، فإن تنظيم العلاقات الأسرية والزوجية كانت دائما تحظى بمشاركة فعالة وأساسية للعلماء في جميع الهيئات واللجن الملكية التي أنشئت سابقا لمراجعة المدونة، فقد تم تأسيس لجنة خاصة بالعلماء في أول مدونة سنة 1957، ثم جاءت لجن أخرى بعدها لتعديل مدونة الأحوال الشخصية، وكانت مشاركة العلماء أساسية فيها بالرغم من ضغوطات التيار الحداثي الذي نجح في إدخال تعديلاته بالرغم من معارضة العلماء داخل اللجنة.
في هذا الصدد، اعتبر الشيخ حسن الكتاني، أن “المشروع الجديد للمدونة هو مشروع خطير جدا، لأن العلماء تم إقصاؤهم منه بعدما كانت الأمور كلها في يدهم، وأصبح دورهم استشاريا فقط ورأيهم غير ملزم، وهذا أمر يطرح التساؤل، لأن هذه القوانين كلها مستمدة من الشريعة الإسلامية، ولذلك يجب ألا تخرج عن إطارها الديني، متسائلا: كيف توكل لقوم لا علاقة لهم بالعلوم الشرعية، حيث من المفترض أن يقرر فيها العلماء ثم تعطى لأساتذة القانون؟
وأوضح الكتاني، أن هذه الطريقة التي حصلت في القوانين كلها، قبل أن تتحول إلى قوانين علمانية، لا علاقة لها بالدين، بعدما كانت القوانين في المغرب كلها مستمدة من الشريعة الإسلامية، لتتحول بين ليلة وضحاها إلى قوانين حداثية علمانية لا علاقة لها بالدين، والآن يراد أن تتحول قوانين الأسرة أيضا إلى قوانين علمانية لا علاقة لها بالإسلام، هناك ضغوطات من صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة، وتيارات علمانية وما إلى ذلك، فالأمر خطير جدا وسيؤدي إلى تدمير المجتمع والأسرة وإلى شيوع الفساد بشكل خطير جدا.
وأكد نفس المتحدث رفضه تكليف بعض الأشخاص “المعروفين بتوجههم العلماني المتطرف”، ويقودون المساواة بالمفهوم الغربي، ومن المنادين بعلمنة القانون وتنحية الشريعة الإسلامية من كل شيء، لذلك نخشى على مجتمعنا وعلى أبنائنا وعلى مستقبل بلادنا، ونحذر أشد التحذير من أي تغيير سيكون له تأثير على المجتمع وتماسك الأسرة، ونطالب بإرجاع المدونة إلى الفقه المالكي كما كانت من قبل، أما ما يحدث الآن، فهو العبث والضياع، مشيرا إلى أن القانون الأسري بالمغرب ليس مستقلا عن بقية القوانين، حيث أن القضاة تارة يحكمون ويشتغلون في قضاء الأسرة وتارة في قضاء آخر، عكس بعض البلدان العربية الأخرى التي تضع قانون الأسرة بيد علماء مختصين في العلوم الشرعية.
وشدد الشيخ الكتاني على ضرورة أن تكون المدونة في يد العلماء، وبعد ذلك القانونيين، الذين لهم الحق في صياغتها بلغتهم القانونية، أما أن تتم صياغتها وتغيير قوانينها، ثم تتم المناداة على العلماء فقط لأجل الاستشارة، فهذا من قلب الموازين، معتبرا أن هذه القوانين محكومة بضغوطات دولية وبـ”تصريحات خطيرة” من رئيس الحكومة ووزير العدل، اللذين يؤكدان مضي الحكومة في تعديل مدونة الأسرة دون الاهتمام بأحد.