للنقاش | “البريكس”.. حقيقة التنظيم الذي يرعب الغرب

بعد الحرب العالمية الثانية، التي خلفت نتائج كارثية على الدول المتحاربة، بل أرخت بظلالها حتى على ما كان يسمى آنذاك بـ”المستعمرات” في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والتي كانت تعد جزء من كيان ونفوذ تلك القوى، تطلب هذا الانهيار الاقتصادي والاجتماعي من الدول المنهارة نسيان الماضي وبدء صفحة جديدة تقوم على المصالحة والتعاون والبراغماتية، وهو ما أكده السياسي الفرنسي روبير شومان، عندما دعا سنة 1950، إلى جعل الحديد والصلب الفرنسي والألماني تحت قيادة واحدة، وهي السنة التي ستتشكل فيها المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، التي ستتطور لاحقا إلى ما يعرف حاليا بالاتحاد الأوروبي، فماذا يعني هذا الحدث في العلاقات الدولية؟ وما الدروس المستفادة منه عربيا؟

أستاذ باحث في التاريخ والفكر
في العام 1946، ألقى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل، خطابا في جامعة زيوريخ السويسرية، دعا فيه إلى تشكيل ما أسماه “الولايات المتحدة الأوروبية قائلا: “إذا توحدت أوروبا في يوم من الأيام، فإن حدود السعادة والغنى والمجد بين بلدانها وشعوبها ستزول”، كما نادى بشراكة ألمانية-
فرنسية كشرط لتحقيق الوحدة الأوروبية.
لقد أدرك الأوروبيون أنه لا مناص للتنمية وإعادة البناء، إلا بالتعاون والتكتل والوحدة الأوروبية، وتجاوز الخلافات والنزاعات البينية والإقليمية، كالخلاف الألماني الفرنسي الذي كان على مدار التاريخ سببا في عدة حروب مدمرة لأوروبا، بدء بالحرب البروسية-الفرنسية (1870-1871)، مرورا بالحرب العالمية الأولى (1914-1918) وانتهاء بالحرب العالمية الثانية (1939-1945)، كما شهدت الساحة العربية حروبا بسبب الخلافات البينية، كحرب “الرمال” بين المغرب والجزائر، وهو الخلاف الإقليمي الذي لا يزال حجر عثرة أمام عدم تفعيل “اتحاد المغرب العربي” لحدود الآن، فضلا عن حرب الخليج الثانية بعد غزو العراق للكويت… إلخ.
في عصر العولمة، لم يعد للعرب متسع للتعنت والدوغمائية السياسية وركوب “سياسة النعامة” إزاء التحولات الجيوسياسية العالمية.. فمنذ انهيار جدار برلين عام 1989، برزت للوجود مجموعة من التكتلات الجهوية كاستراتيجية من الدول لتسريع التنمية بها ومواجهة مد العولمة التي اكتسحت اقتصادات الدول، وبخاصة الاقتصادات الهشة، لذا باتت التكتلات الاقتصادية الجهوية من الوسائل الناجعة للتطور والتنمية في إطار العولمة التي تمثل حتمية وجودية لا مفر منها، إلا بالاندماج فيها والمساهمة فيها، ومن بين التكتلات الجهوية: الاتحاد الأوروبي، اتفاقية التبادل الحر الشمال أمريكية (NAFTA)، رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، اتحاد مجلس التعاون الخليجي (CCG)، ثم تكتل “البريكس”، الذي يمثل موضوع هذه المقالة.. فما هي مجموعة “البريكس”؟ وما أهدافها؟ وهل يمكن أن تتحول “البريكس” إلى تكتل جيوسياسي يقارع مجموعة السبع (G7)؟ وما هي الفوائد والمصالح المتبادلة بعد انضمام بعض الدول العربية لـ”البريكس” مؤخرا ؟
من “البريك”.. إلى “البريكس”
يعود مصطلح “بريك”، إلى كبير الاقتصاديين في بنك غولدمان ساكس، الأمريكي جيم أونيل، عندما أجرى دراسة عام 2001 وصف فيها اقتصادات الدول الأربع المؤسسة للتكتل (روسيا، الصين، الهند، البرازيل)، والتي كانت قد حققت معدلات نمو اقتصادي كبيرة ما بين سنتي 2000 و2001، وبعد انضمام جنوب إفريقيا (2010)، أصبحت تسمى بـ”البريكس”، وهو اختصار لأسماء الدول الخمس بالإنجليزية.
“البريكس” هو تكتل اقتصادي يضم الاقتصادات الكبرى لدول الجنوب، وهي: الصين، روسيا، الهند، البرازيل، وجنوب إفريقيا، وتعود فكرة التأسيس إلى عام 2006، عندما عقد وزراء خارجية الدول الأربع المؤسسة، اجتماعا وزاريا على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويعد هذا الاتحاد من التكتلات الاقتصادية الكبرى عالميا، لقاء نسب النمو الاقتصادي التي تحققها هاته الدول، وبخاصة الصين، التي حققت معدل نمو بلغ 10 في المائة قبل سنة 2008 (الأزمة المالية العالمية)، ومن جهة ثانية، تستحوذ “البريكس” على 40 في المائة من مساحة وسكان العالم على السواء، ووفق منظمة التجارة العالمية، فإن حجم اقتصادات “البريكس” إلى نهاية سنة 2022 بلغ نحو 44 تريليون دولار، وتسيطر على 17 في المائة من التجارة العالمية، كما تفيد بيانات من صندوق النقد الدولي، بأن حجم اقتصاد الصين لوحده يفوق 6 من اقتصادات دول مجموعة السبع وهي: ألمانيا، إيطاليا، اليابان، كندا، فرنسا، والمملكة المتحدة، هذا علاوة على كون “البريكس” تضم ثلاثة قوى نووية عظمى: روسيا والهند والصين، وثلاثة من أقوى جيوش العالم: الصين والهند وروسيا، ولعل هذه المؤشرات هي التي أعطت للتكتل إشعاعا عالميا قويا، وجعلها محط اهتمام دول أخرى في الانضمام.
وصف الرئيس الصيني السابق لي جينتاو، الهدف العام لـ”البريكس” قائلا: بأن “هدفها الدفاع عن مصالح الدول النامية، وأنها قوة من أجل السلام العالمي”، ولا شك أن هذا المرمى لا يمكن أن يتجسد إلا من خلال الأهداف التي حددتها المنظمة لذاتها ومنها:
- مواجهة الهيمنة الغربية؛
- مواجهة نظام القطب الواحد (أمريكا)، وذلك بإعادة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب؛
- تعزيز الأمن والسلام العالمي؛
- التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء؛
- تحقيق نمو اقتصادي شامل من أجل القضاء على الفقر والبطالة وتعزيز الاندماج الاقتصادي والاجتماعي؛
- إصلاح المؤسسات المالية الدولية، من أجل ضمان صوت مسموع للدول النامية داخلها؛
- التعاون بين الدول الأعضاء في مجالات العلوم والتعليم والبحث والتكنولوجيا.
وفي سياق تحقيق بعض من هذه الأهداف، أنشأت دول “البريكس” عام 2014 “بنك التنمية الجديد” NEW DEVLOPMENT BANK، والذي يقدر رأس ماله بـ 50 مليار دولار، بهدف منح قروض لتمويل مشاريع البنيات التحية الأساسية، كالصحة والتعليم في البلدان الأعضاء، وكذا البلدان النامية، وقد انضمت إلى هذا البنك مؤخرا كل من الإمارات ومصر وبنغلاديش والأوروغواي.
مشروع عملة جديدة
من أبرز القضايا التي تمت مناقشتها بين أعضاء “البريكس” في قمة جوهانسبورغ بجنوب إفريقيا في نهاية شهر غشت 2023، طموح دول المجموعة لاعتماد عملة جديدة في المبادلات التجارية بينهم بدل الدولار الأمريكي، وبالرغم من عدم اتضاح الرؤية حول طبيعة هذه العملة هل ستكون نقدية أو رقمية، فإن المسعى منها هو ضرب الدولار الأمريكي ومحاولة إفقاده ريادته وهيمنته على المعاملات التجارية العالمية، والجدير بالذكر، أن فكرة عملة جديدة سبق وطرحتها روسيا قبل قمة جوهانسبورغ، في مناسبتين خلال هذا العام، الأولى عندما أكد وزير الخارجية سيرغي لافروف – في شهر يناير – أن إصدار عملة موحدة لدول “البريكس” ستناقش في القمة المقرر عقدها بجنوب إفريقيا نهاية غشت، والثانية ما عبر عنه رئيس مجلس الدوما الروسي، ألكسندر باباكوف، على هامش منتدى الأعمال الهندي-الروسي في نيودلهي في شهر أبريل، لكسر هيمنة الدولار كوسيط للتجارة والتسويات الدولية، وربما لن نجد جوابا إن نحن تساءلنا – وأعتقد أنه سؤال بديهي من المفترض أن يثار في هذا السياق – عن صاحب فكرة عملة جديدة، ألا يمكن أن تكون روسيا هي مبدعة الفكرة؟ يبدو أنه سؤال ليس بمقدورنا نفيه أو تأكيده إلا بمعطيات رسمية، وهذا صعب، لكن الواضح، أن روسيا تعد من أهم دول “البريكس” تحمسا وإلحاحا واستفادة من العملة الموحدة، وذلك لمواجهة العقوبات القاسية المفروضة عليها من لدن الغرب بسبب الحرب الأوكرانية.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن مشاريع دول “البريكس” لا تقف عند المشاريع الموحدة والمشتركة، بل تمتلك كل دولة على حدة مشاريع خاصة طموحة، مثل “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، التي تروم إنشاء شبكات بنية تحتية واسعة تربط آسيا وإفريقيا وأوروبا، كما تخطط الهند لتطوير 100 مدينة ذكية مرتبطة بقطارات سريعة، أما روسيا، فتسعى من جهتها، لبناء الشرق الأقصى الروسي كجسر اقتصادي بين آسيا وأوروبا من خلال المناطق الاقتصادية الخاصة، في حين تركز كل من البرازيل وجنوب إفريقيا على الزراعة والتوسع الصناعي.
دول عربية في “البريكس”.. هل هي بداية القطيعة مع الغرب ؟
يشير مراقبون إلى أنه لأول مرة تابع الغرب قمة “البريكس” الـ 15 في جوهانسبورغ، بكثير من الاهتمام واليقظة، هذا الاهتمام ربما يعزى إلى رغبة دول “البريكس” في توسيع التكتل وقبول أعضاء جدد، وهو المحور الذي هيمن على القمة، ولعل هذا هو مصدر خوف وقلق الغرب، الذي يرى في هذا التوسع تمددا صينيا وروسيا في مناطق جديدة تحسب تقليديا مناطق نفوذ غربي، ذلك أن ثمة من يرى في “البريكس” غطاء توظفه الصين، بخاصة، للتوسع والتمدد، بل إن الصحافة الغربية وضعت سيناريو يضع “البريكس” في مرتبة تكتل جيو-سياسي يسعى لمنافسة مجموعة السبع (G7)، خاصة وأن “البريكس” لا تضع شروطا تعجيزية أمام الدول الساعية إلى الانضمام إليها كما هو شأن التكتلات الغربية، وبالتالي، فإن ذلك من شأنه أن يشجع دول الجنوب على التخلي عن تحالفاتها مع الغرب، ويزيد من حملة الكراهية تجاهه، التي باتت تنتشر تدريجيا في إفريقيا والنموذج هنا فرنسا، التي تقلص نفوذها في القارة السمراء.
هذه الشعبية التي تتمتع بها “البريكس”، يؤكدها تقدم 22 دولة بترشيحها للانضمام، بيد أن أشغال قمة جوهانسبورغ 2023، اختتمت بإعلان قبول 6 دول فقط بينها ثلاث بلدان عربية هي: السعودية والإمارات ومصر، لتصبح “البريكس” مكونة من 11 عضوا.. فأي مكاسب مشتركة يمكن أن يثمرها هذا الانضمام العربي للتكتل ؟
لا مشاحة في أن انضمام السعودية والإمارات تحديدا، يعد مكسبا نوعيا لـ”البريكس”، نظرا لتأثيرهما الواضح والقوي في الاقتصاد العالمي، إذ تعد الدولتان من أبرز المتحكمين في أسواق الطاقة العالمية، وهو ما يؤمن للصين -وهي من كبار المستهلكين للطاقة – إمداداتها وحاجياتها الطاقية لاقتصادها، الذي يتأثر دائما بفعل عدم استقرار الأسواق العالمية، كما تعد الدولتان من أهم الشركاء التجاريين لدول “البريكس” في المنطقة، وانضمامهما سيدعم استراتيجيتهما في الانفتاح وتنويع الشركاء الاقتصاديين، بل قد يمتد الأمر إلى المجال السياسي في سياق التحولات الجيوسياسية التي يشهدها النظام الدولي، ناهيك عن استقطاب الاستثمارات الخارجية، حيث يرى الرئيس التنفيذي ورئيس الاستثمار في ATA Global Horizons، علي حمودي، أن “البريكس تعد مصدرا مهما للاستثمار الأجنبي المباشر في مجالات التعدين والسيارات والنقل والطاقة النظيفة وتكنولوجيا المعلومات، وهو ما يوفر فرص شغل في الدول الأعضاء”، ويضيف المصدر ذاته، أن “عضوية مصر في البريكس قد تساعدها على نقل التكنولوجيا والتصنيع من الدول الصناعية الكبرى، كالصين والهند وروسيا، علاوة على كسب أسواق جديدة أمام الصادرات المصرية”، ومن جانب آخر، يعتقد حمودي أن “التعاون بين دول البريكس يساهم في التخفيف من الصدمات التي يمكن أن تسفر عنها الأزمات الاقتصادية العالمية على الاقتصاد المحلي للدول”، والسؤال الذي يتبادر للذهن هنا هو: ألا يشكل انضمام الدول العربية المذكورة لـ”البريكس” اتجاها نحو القطيعة مع الغرب، أو استبدال تحالفها التقليدي بتحالف جديد جنوب-جنوب؟
يؤكد حمودي أن انضمام بلدان عربية (السعودية والإمارات ومصر) لا يعني ابتعاد ومجافاة للغرب، الذي تربطها به علاقات قوية، حيث يقول: “تتمتع الإمارات والسعودية ومصر بعلاقة جيدة مع الولايات المتحدة والغرب، وكونها جزء من مجموعة البريكس لا يشكل تهديدا لتلك العلاقة، فالصين نفسها التي تعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم هي أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، لذلك لا يمكن تصنيف دول البريكس على أنها كتلة مناهضة للولايات المتحدة أو الغرب”.
على الرغم، مما يكتسيه هذا التحليل من وجاهة في التعليل، فالظاهر أنه لا يمكن إنكار اتجاه “البريكس” لأن تصبح منافسا قويا وندا للغرب اقتصاديا وأحيانا سياسيا، نظرا لطبيعة الدول المؤسسة للتكتل وطبيعة علاقاتها مع الغرب، ورؤيتها للنظام الدولي السائد، خاصة روسيا والصين والهند نسبيا، فروسيا والصين تتطلعان إلى عالم متعدد الأقطاب يضمن قدرا من تكافؤ الفرص والعدالة، ويحد من سلطوية وغطرسة الغرب، وهذا ما لا يريده الغرب أن يحدث، لأنه سيفقده زعامته وهيمنته على مقدرات الدول، وتحكمه في السياسة العالمية، باعتباره النموذج الحضاري.
يبدو أن ثمة سؤال أو بالأحرى إشكال يفرض نفسه هنا قبل الختام، وهو الإشكال الذي يطمح الكثير من المثقفين وكذا الشعوب العربية، إلى أن يتحول من الطموح والتمني إلى صورة الفعل والواقع الملموس، هذا الإشكال هو: لماذا لا تنضوي البلدان العربية في إطار تكتل عربي كبير وقوي ومؤثر، وهي المنطقة التي تمتلك من المقدرات المتنوعة ما يجعلها رقما صعبا في الحسابات الدولية؟ أليس العرب واعون بهذه القيمة، أم أن المسألة لا تتعلق بالوعي بقدر ما ترتبط بعوامل أخرى أكثر تعقيدا؟ أليست المصلحة العليا للمنطقة، والمكاسب المتعددة للوحدة العربية، تعلو على كل الحسابات الضيقة وسياسة شد الحبل بين بعض الأشقاء العرب؟ ألم يحن الوقت بعد يا أمة العرب لإنهاء خلافاتكم، التي جرت عليكم العدو القاصي والداني، لاستنزاف ثرواتكم وتأليب بعضكم على البعض؟ أليس حريا بنا أن نمد يدنا لبعضنا ونكون أمة واحدة؟ أليس لنا في تاريخ الأندلس درس وعبرة، فكم من عبد الله الصغير نحتاج لنستوعب الدرس؟ إن التاريخ واضح، والحاضر أشد وضوحا، هل وجود الصين في “البريكس” كمؤسس، يعد مغبة منها، وهي البلد القوي صناعيا وتكنولوجيا وعسكريا… إلخ، والتي يمكنها أن تستفرد وتكتفي بنفسها دون حاجة للتكتل والتعاون؟
الحقيقة، أن العصر اليوم هو عصر التكتلات والتعاون لمجابهة غول العولمة، والتموقع فيها كفاعل رئيسي وليس مجرد مفعول به متأثر سلبي بهذه الظاهرة الكوكبية.