للنقاش | تحرر إفريقيا وتوسع “البريكس” يعجل بعودة الحرب الباردة
بقلم: نزار القريشي
إن تمدد الحركات الاستقلالية في القارة الإفريقية، والتي تقودها الجيوش الوطنية باسم شعوبها، للانفصال عن الهيمنة الفرنسية، وبعد الحركة التصحيحية بالغابون، والتي تلت ما حدث في النيجر، وقبله ما جرى أيضا بمالي وبوركينافاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى، في انتظار الجديد الذي قد يحدث بمنطقة الصحراء الكبرى وامتدادها نحو العمق الإفريقي، وباقي مناطق القارة الخاضعة للاستعمار الفرنسي، وبعد ضغط “البنتاغون” على الفرنسيين بعدم التدخل العسكري خوفا من حدوث وتمدد انتفاضات غير متحكم فيها، وذلك بسبب الدعم الشعبي للجيوش الإفريقية التي تقود هذه الحركات التصحيحية، هو ما يؤكد تجريد فرنسا من مستعمراتها السابقة، في ظل انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بمراقبة وتدبير الوضع على الساحة الأوكرانية وبحر الصين الجنوبي والشرق الأوسط في امتداده نحو شرق آسيا، لذلك رأت الجيوش الإفريقية أن هذه اللحظة مواتية للانسلاخ عن الهيمنة الاستعمارية، خصوصا مع الدعم الشعبي الذي تتلقاه هذه الحركات التصحيحية أو الانقلابات.. أيا كان التعبير فالأمر سيان، والتي استغلت لحظة الفراغ الدولي، الذي يسبق تشكيل وتحديث النظام العالمي، إذ بعد تعليق الخارجية الأمريكية على انقلاب ليبروفيل الذي استهدف خلع الرئيس السابق علي بونغو، وعلى غير العادة، تدخلت كل من الخارجية الصينية، ثم الروسية، للتعليق على الحادث، وهو ما أكد بشكل واضح الإعلان عن بروز أقطاب جديدة، ستشكل محاور للقيادة من داخل النظام العالمي الجديد أو من خارجه، وهو ما ينم عنه التوسع الأخير لمجموعة “البريكس” ليصبح “بريكس بلاس” بعد قبول عضوية أكثر من دولة، غير أن الاختراق الذي أحدثه مكتب برنار إيمي، رئيس الاستخبارات الخارجية الفرنسية، لاجتماع هذه المنظمة بجوهانسبورغ، والذي نتج عن العلاقات المتقدمة التي تجمع ما بين نيودلهي وباريس، هو ما أدى لـ”الفيتو” الهندي ضد عضوية الجزائر، وهو أيضا ما أكدته الزيارة الاستعجالية لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى أثينا عقب الانتهاء من اجتماعات “البريكس”.
هذا، وجاء رفض عضوية أندونيسيا من طرف الصين في سياق مختلف، إذ تضم أندونيسيا غالبية من السكان المسلمين، حيث جاء “الفيتو” الصيني ليتماهى مع الغرب في نفوره من المسلمين، غير أنه وبعد انتهاء أشغال اجتماع مجموعة “البريكس”، تأكد بعد تحليل نقاشاته واللاتقاطعات التي أحدثها هذا النقاش، والقرارات التي تمخضت عنه، أن هذا الحلف هش من داخله، إذ أن الصراع الحدودي بين الصين والهند يمكن أن يفجر هذا الحلف في أي لحظة، وهو ما ستدعمه كيب تاون بسبب امتعاضها من نيودلهي، غير أن التوسع الحاصل في “البريكس” بضم عضوية كل من الأرجنتين وإيران ومصر وإثيوبيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وفي حال تمدده وتوسعه أكثر، فإنه سيقسم العالم بين معسكرين، إذ من المؤكد سنشهد عودة الحرب الباردة في وضع يشبه ما سبق بين حلف “وارسو” وحلف “الناتو”، وهو هدف تشتغل عليه استخبارات “إف. إس. بي” الروسية في محاولة لإحياء الاتحاد السوفياتي، مما سيعرقل طموح الصين نحو التسريع بتعديل وتحديث النظام العالمي نحو آخر جديد، ذلك لأن أي نظام يجب أن تعتمد إدارته على توافقات في التدبير والرؤية المشتركة، وهو ما سيطيل من مخاض ولادة هذا النظام، خاصة في ظل الشرخ الذي أحدثته الأزمة الأوكرانية في العلاقات الدولية، غير أن فشل فرنسا ومعها برنار هنري ليفي، المشرف على تنفيذ سياسة “تجمع البنائين” الفرنسيين، في الملف الأوكراني، وقبله الملف الأفغاني، وكذا منطقة الصحراء الكبرى والساحل، وبعد فشله في تحريك ورقة الطوارق والأزواد ضد مالي والنيجر، وبعد الكشف عن خرائطه الجديدة لشمال إفريقيا والمرفوضة من مجتمع الاستخبارات بالغرب الإفريقي، هو ما أدى إلى استفزاز اليمين واليسار المغربي إبان الكشف عن ذلك في مرحلة سابقة، وأثر بشكل سلبي على العلاقة بين باريس والرباط، وهو ما يؤكده العجز الفرنسي في تدبير الملفات الدولية التي تواجه قصر الإليزيه، إذ تمت ملاحظة ذلك من ذي قبل، وخاصة قبيل اقتراب تقاعد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، حيث افتقدت باريس للإسناد الذي كانت توفره برلين لها، وهو ما انعكس على أداء المفوضية الأوروبية للاتحاد الأوروبي، خصوصا بعد توجهات إيمانويل ماكرون غير الصائبة بمعارضة السياسات التي يطلقها البيت الأبيض في العديد من الملفات، وهو ما تجلى في الفتور الذي طال العلاقات بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية، وانعكس على التواجد الفرنسي بإفريقيا، إذ بعد تثبيت العلاقة الاستراتيجية بين الجزائر وروسيا وبين الجزائر والصين، وتبادل الأدوار بين طرفي هذه العلاقات المتقدمة مع جنوب إفريقيا، هو ما اتضحت بشأنه أهمية المملكة المغربية، التي أصبحت مؤهلة لتدبير الملفات الدولية العالقة داخل القارة الإفريقية وخارجها، خصوصا في ظل العلاقة الاستراتيجية المتقدمة التي تجمع ما بين لندن والرباط وواشنطن، وهو ما يستدعي من فرنسا ضرورة الانخراط في علاقة استراتيجية جديدة مع المملكة المغربية تقوم على الاحترام والتقدير المتبادل لتنفيذ وتحقيق المصالح المشتركة، وهو ما سيعرقل توسع الجيش الروسي في القارة عبر قوات “فاغنر” بعد تغيير الكريملين لعقيدتها القتالية بـ”تغييب” يفغيني بريغوجين، إذ ترى روسيا ضرورة تغيير النظام العالمي وإلغائه، بينما ترى بكين أنه لا مانع من الاشتغال من داخله وتعديله، وهي بذلك لا تعلن الخروج عنه، مما يدفع بمجموعة بيلدربيرغ واللجنة الثلاثية وتجمع “البنائين” في العالم عبر محافلهم الدولية، إلى ضرورة إقصاء روسيا من أي مكانة في مجلس إدارة العالم، وذلك بسبب وجود شخصية فلاديمير بوتين على رأس دولة روسيا الاتحادية، في حين يمكن قبول الصين في النظام العالمي الجديد بعد الإشارات التي أطلقتها والتي تشير إلى تعاونها المحتمل مع الغرب في حسم خارطة “مملكة إسرائيل”، وهو ما ينم عن دعوة الرئيس الصيني شي جين بينغ، لنتنياهو من أجل زيارة بلاده قبل نهاية سنة 2023.
هذا، وأكد مكتب بنيامين نتنياهو في خضم ذلك، أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال وستظل الحليف الرئيسي لإسرائيل، وتتفق الولايات المتحدة والصين على تهدئة التوتر الشديد بينهما حتى لا يتحول إلى صراع، لكنهما فشلتا في تخفيض مستويات التوتر بعد المساعدات العسكرية الأمريكية الأخيرة لتايوان، ومن جانب آخر، يظل حسم خارطة “مملكة إسرائيل” المرتقبة، من أسباب تطور العلاقات بين الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة، وهو ما تعارض الرياض بعضا من مخرجاته، وخاصة استقلال اليمن الجنوبي، والذي يمكن أن يهدد استقلاله – إن حدث – وحدة أراضي المملكة العربية السعودية، إذ تنطلق خارطة “مملكة إسرائيل” من شرق المتوسط وتعبر بحر العرب امتدادا إلى خليج عدن وباب المندب فبحر العرب مرورا إلى المحيط الهندي فأستراليا، وهو ما برز معه الخلاف السعودي الإماراتي وأدى إلى تراجع في الموقف العربي الموحد، غير أن تنازلات قد يقدمها البيت الأبيض للرياض من المرجح أن تعجل بانخراط السعودية في مسار التطبيع و”اتفاقات أبرهام”، وتعيد معها إدارة الموقف العربي من مبادرات الرياض وأبو ظبي، غير أنه أمام توسع الأحلاف الدولية على اختلافها، فإنه من المحتمل أن يقدم اتحاد دول مجلس التعاون الخليجي على توسيع أفاقه وحدوده، ويضم إلى عضويته دولا عربية جديدة، حيث سبق وأن قدم دعوة إلى الأردن والمغرب في مرحلة سابقة، وهو ما يجعل دولا عدة وتكتلات تسعى إلى تشكيل أحلاف سياسية في إطار رغبة أغلب دول العالم في رؤية عالم متعدد الأقطاب وليس عالما بقطبين، وهو ما قد يسهل من عملية بناء نظام عالمي جديد يُسير مجلس إدارته من ائتلاف الأقطاب الدولية المتعددة، والتي يجب أن توحد صفوفها استعدادا لذلك.