للنقاش

للنقاش | أكبر دروس من صلح الحديبية.. الجنوح إلى السلم

بقلم: ذ. عبد الواحد بن مسعود   

من هيئة المحامين بالرباط

    قال الله تعالى وهو يخاطب رسوله المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم))، وسبب نزول الآية الكريمة كما جاء في بعض المراجع، أن كفار قريش ومن كان يناصرهم كانوا يشنون حربا على الإسلام والمسلمين، وكان النبي (ص) والصحابة الكرام ومن اعتنقوا الإسلام، يدافعون عن رسالة الله وعن دينه القويم وحماية الرسول الكريم، وكانت هذه الحروب والمواجهات تسفر عن قتلى وجرحى وخسائر في الأرواح والعتاد، لذلك عبر الكفار والمشركون وأتباعهم عن  رغبتهم في أن تضع الحرب أوزارها وعرضوا على النبي محمد الصلح ووقف القتال، ولم يكن من السهل أن يتخذ النبي القرار بدون تفكير وتروي في عواقب الصلح، بل لا بد من العودة إلى المرجعية، وهو انتظار كلمة الله في ما اقترحه  عليه أعداء الإسلام، أي انتظار الوحي وكلمة الفصل في موضوع الصلح، فنزل  قول الله تعالى في الآية الكريمة: ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم))، وذكر الشراح أن إبرام الصلح له شروط، منها أن اقتراح الصلح يأتي من جانب من كانوا يشنون الحرب على الإسلام، وألا يكون هناك تنازل عما يدعو إليه الإسلام، أي قبول الصلح دون أي مقابل حفاظا على مكانة الرسول وكرامته، وحفظا لقدسية الدعوة، أو التراخي في نشرها، إن الله سبحانه وتعالى أصدر الأمر والتعاليم بقبول الصلح وألا يتردد النبي (ص) في قبوله، فعليه أن يتوكل على الله ويفوض له أمر نجاح الصلح أو فشله، لأنه عظمت قدرته يسمع ما يروج في مفاوضات الصلح ويعلم مقدما مآله ومصيره وما هي الفائدة من قبول الصلح وأثرها على الدعوة الإسلامية.

فالحق سبحانه وتعالى أدخل الطمأنينة على رسوله الكريم، فإذا توكل عليه، فإن الحق سبحانه سيشد عضده ويعصمه من الخطأ ويجعل التوفيق حلفيه، ونعود مرة أخرى لرأي الشراح الذين قالوا بأن الإسلام يسعى إلى صنع السلام تحت كل الظروف.. فقد أمر الله سبحانه النبي بأن يجنح للسلم كما جاء في آيات الذكر الحكيم، وقال البعض أيضا الإسلام حبذ الدخول تحت لواء السلام، إذ جاء في القرآن الكريم: ((يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين))، وقال المفسرون أن الآيات القرآنية المتعلقة بالسلم ناطقة بوضوح بأن سبب القتال هو الدفاع عن النفس، فإذا توقف العدو عن القتال وطلب السلم، فالواجب ترك مقاتلته لأن الله تعالى لم يعط الإذن بالقتال إلا للدفاع، فإذا لم يكن عدوانا من قتلهم فلا مبرر للقتال، فكيف طبق النبي (ص) التعليمات الإلهية في موضوع الصلح مع من كانوا يكنون له العداء ويحاربون الدعوة الإسلامية؟ وما هو الحدث الذي وقع وكان موضوع الجنوح إلى السلم والصلح؟ ذلك ما أشارت إليه كتب السيرة النبوية، في قضية “صلح الحديبية”، والحديبية هي بئر سمي المكان باسمها، وهي قرية متوسطة ليست بالكبيرة وبينها وبين مكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل وبعضها في الحل وبعضها في الحرم وفي شهر ذي القعدة عام 6 هجرية / فبراير سنة 628م، وقعت ما يعرف بواقعة الحديبية، وملخصها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا (زائرا للبيت) لا يريد حربا بعد أن مضى عليه (ص) ست سنوات بعد الهجرة في المدينة  لم يزر فيها مكة ولم يعتمر ولم يحج فاشتاق إليها، فخرج في تلك السنة معتمرا واستنفر العرب من البوادي ممن أسلموا ليخرجوا معه وهو يخشى من كفار قريش ومن حالفهم أن يتعرضوا لهم بحرب أو يصدوه عن البيت، كما ذكرت المراجع، وكان رسول الله مجهزا ومعه الهدي وأحرم بالعمرة بذي الحليفة وخرج معه من 1400 إلى 1600 من المسلمين، وركب رسول الله (ص) راحلته القصواء، وتمت بيعة الرضوان، وعلم كفار قريش وأتباعهم بهذه البيعة وخافوا من عواقبها، لذلك اقترح أهل الرأي من كفار قريش إبرام صلح مع رسول الله (ص)، ومنهم من شك في نجاح الصلح وقبول شروطه، وفي كتاب “حياة محمد” لمحمد حسين هيكل، ذكر أنه في ذلك الوقت، كان الجهاد مستمرا والغزو متصلا بين المسلمين وبين قريش تارة، وبينهم وبين اليهود تارة أخرى، ولكن الإسلام في أثناء ذلك كان يزداد انتشارا ويزداد قوة ومنعة، ومع ذلك، كانت قريش ترى محمدا والذين معه كفروا بآلهة هذا البيت: هبل وإساف ونائلة وسائر الأصنام، لذلك يرى كفار قريش ومن سار في ركبهم شن حرب وحرمان المسلمين من الحج إلى الكعبة واجبا عليهم حتى يتوبوا إلى آلهة آبائهم، هذا التوتر كان سيجر إلى حرب طاحنة بين الكفار ومن تحالف معهم وبين المسلمين يتقدمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك مالوا إلى الصلح وبعثوا سهيل بن عمرو، وكان رجلا سياسيا قادرا وخطيبا مصقعا، إلى رسول الله وقالوا للمبعوث: إئت محمدا فصالحه، ومن شروط الصلح، أن يرجع عنا عامه هذا، وأقسموا وقالوا في قسمهم: “فو الله لا تحدث عنا العرب أنه دخل علينا عنوة أبدا، فلما عرض سهيل بن عمرو اقتراح الصلح، قال رسول الله (ص) لمن معه: لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، وطالت المفاوضات، ولما وصلت لمرحلة قبول الصلح وترك القتال، أصبح من الضروري أن يصاغ هذا الصلح في وثيقة كتابية، أي معاهدة، وكان من الطبيعي أن يوجد من يؤيد ويوافق على الصلح، ومن لا يرتاح لذلك الصلح ولم يدرك مغزاه ومزاياه، ومن جملة الفئة الثانية عمر بن الخطاب، الذي قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال  عمر: فعلام نعطي الدنية، أي الخصلة المذمومة في ديننا، قال أبوكر: الزم غرزه، أي ركابه يريد اتباع قوله ولا تخالفه، فاستعار له الغرز كالذي يمسك بركاب الراكب ويسير بسيره، وزاد أبوكر قائلا: فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمرو: أنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى عمر بن الخطاب رسول الله (ص)، فقال يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، أو ليسوا  بالمشركين؟ قال: بلى، قال عمر: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال رسول الله (ص): أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني، فكان عمر يقول بعد  تلك المناقشة: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأصوم وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخالفة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا، ومعنى قول رسول الله ص “لن أخالف أمر الله”، أنه صلى الله عليه وسلم تلقى أمرا من الله تعالى بالموافقة على الصلح، ورسول الله لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى،  ثم دعا رسول الله علي بن أبي طالب وكلفه بكتابة معاهدة الصلح، وتم الصلح على أساس وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، إلى غير ذلك مما نصت عليه وثيقة الصلح. 

وهكذا أبرم الصلح باقتراح ممن كان يشن الحروب، ولم يتنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن أي مبدأ من المبادئ الإسلامية، أو قبل شرطا من شأنه أن يلحق الضرر بالمسلمين.

وتساءل المعلقون عن مزايا الصلح مع كفار قريش واليهود المقيمين في مكة،  ونقل النووي عن العلماء: إن المصالحة المترتبة عن هذا الصلح هي ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده الظاهرة التي علمها النبي (ص) وخفيت عليهم، فحمله ذلك على موافقتهم، ذلك أنهم قبلوا الصلح ولم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تظهر عندهم أمور النبي كما هي، ولا يجتمعون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل الصلح اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة واختلطوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم، وسمعوا منهم أحوال النبي محمد ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوءته المتظاهرة، وحسن سيرته وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت أنفسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما، وازداد الذين لم يسلموا ميلا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما قد تم من الميل إلى اعتناق الإسلام، ولما كان رسول الله (ص) في طريقه إلى المدينة، نزلت سورة الفتح: ((إِنا فتحنا لك فتحا مبِینا لیغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ویتم نعمته عليك ویهديك صراطا مستقيما وینصرك الله نصرا عزيزا))، وسمي الدين بالإسلام، لأنه جعل من أسس مبادئه السلم والأمان والتعايش وبناء الحضارات، وخلق الله الخلق شعوبا وقبائل للتعارف والإعمار لا للحروب والدمار.

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى