ملف الأسبوع

ملف الأسبوع | خبايا انقلاب أوفقير على الملكية في المغرب

الرواية الأخرى للأرشيف الأمريكي

لم تكد تمر بضعة أسابيع أو أيام على المحاولة الانقلابية الأولى على الملك الحسن الثاني، في يوليوز 1971، بقيادة كل من الكولونيل محمد اعبابو والجنرال محمد المذبوح، حتى بدأ الجنرال محمد أوفقير يعد العدة لانقلاب ثان، وتدل إشارات قدمها بعض الضباط المشاركين في المحاولة الانقلابية الثانية، ومنهم الملازم صالح حشاد، في شهادته لقناة “الجزيرة” في برنامج “شاهد على العصر”، (تدل) على أن أوفقير بدأ يخطط للمحاولة الانقلابية الثانية بعد يوم واحد على المحاولة الانقلابية الأولى، وقد بدأت بوادر ذلك تظهر جليا، حسب بعض الضباط المشاركين في المحاولة الانقلابية الأولى، ومنهم الضابط أحمد المرزوقي، هذا الأخير أكد أن أوفقير لما علم بسوء معاملتهم في المعتقلات، أمر بأن يعاملوا بشكل جيد، وكان الهدف من ذلك ضمان ولاء الضباط المشاركين في المحاولة الانقلابية الأولى.

 

أعد الملف: سعد الحمري

 

    بعد فشل المحاولة الانقلابية الأولى سنة 1971، أقدم الجنرال أوفقير على إجراءات عملية كان هدفها كسب الجيش دائما لصفه، فبعد توليه وزارة الدفاع مباشرة بعد المحاولة الانقلابية الأولى، عمل على الزيادة في رواتب الجنود، وبنى مسجدا داخل القاعدة العسكرية، وأكد الضابط أحمد المرزوقي، أحد الضباط المشاركين في المحاولة الانقلابية الأولى، أن الجيش استحسن أوفقير إلى درجة كبيرة، وعموما، هناك إجماع على أن الرجل سعى لكسب تعاطف وولاء الجيش له وحده، وليس للملك.

وبعد انتهائه من إعادة ترتيب البيت الداخلي للجيش، عمل على ضمان موافقة زعماء الأحزاب السياسية.. فقد ظهر مؤخرا أحد أقطاب حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، محمد الحبابي، ليؤكد أن زعيمه عبد الرحيم بوعبيد أعطى موافقته لأوفقير بتنفيذ الانقلاب، وانضم إليه حتى أقرب المقربين من الملك، المستشار إدريس السلاوي، وبهذا يكون الجنرال قد ضمن ولاء زعماء الأحزاب السياسية، وكذلك رجال الجيش، بل والدائرة المقربة من الملك.

لم يكن الجنرال قد أحكم خطته تماما ليضمن نجاح انقلابه إلا بضمان مساندة واحدة من القوى العظمى التي كانت تحكم العالم.. فقد كان العالم في تلك المرحلة قائما على نظام القطبية الثنائية، تتزعم الولايات المتحدة الأمريكية المعسكر الغربي، والمعسكر الشرقي يقوده الاتحاد السوفياتي، وإذا أراد أوفقير أن يضمن نجاح خطته، فعليه ألا يكون ساذجا مثل الجنرال المذبوح والكولونيل اعبابو، اللذين عملا لوحدهما دون كسب تأييد واحدة من القوى العظمى، بل أن يقنع واحدة من القوى العظمى بمخططه، وهو ما كان.. ففور فشل المحاولة الانقلابية الأولى علم أوفقير أن تذمر الجيش وصل إلى درجة لا تطاق، وخرج عن سيطرة الحسن الثاني، بل وأصبح أقوى من الملك حتى، ولم يتأخر في الاتصال بالجهات الخارجية لكي يقنعها بمخططه، فاختار أمريكا، التي كانت في تلك المرحلة حفاظا على مصالحها في الكثير من الدول، تدعم الانقلابات العسكرية ليحكم الجيش، والأمثلة على ذلك كثيرة.. فقد كانت جارتنا في الشمال البرتغال تعيش على وقع حكم الجنرالات، واليونان كذلك، وفي أمريكا اللاتينية كانت هناك الشيلي، بالإضافة إلى العديد من الدول والعديد منها كانت في إفريقيا.

لقد فتح الأرشيف الأمريكي وثائقه السرية الخاصة بالمحاولتين الانقلابيتين اللتين عرفهما المغرب مطلع السبعينات، ومن بين هذه الوثائق، وثيقة عبارة عن تليغرام أرسله السفير الأمريكي بالمغرب، روكويل ستيوارت، إلى كل من وزير الخارجية الأمريكية، ووزير الدفاع الأمريكي، وهي مؤرخة بتاريخ 19 غشت 1971، أي بعد مرور شهر وبضعة أيام على المحاولة الانقلابية الأولى، رفع عنها طابع السرية بتاريخ 6 شتنبر 2007، مكونة من خمس صفحات، وتحمل عنوان: “الجنرال محمد أوفقير على رأس السياسة العسكرية المغربية، وأثر ذلك على العلاقات الأمريكية المغربية“، وتتناول الاتصال الأول بين الإدارة الأمريكية ووزير الدفاع المغربي الجديد محمد أوفقير، الذي عين في هذا المنصب مباشرة بعد المحاولة الانقلابية الأولى.

 

الكولونيل أمقران.. الوسيط بين أمريكا والجنرال أوفقير

    كان أول اتصال بين الضباط الذين سينفذون المحاولة الانقلابية الثانية وأمريكا، يوم 10 غشت 1971، وكان أول من ربط الاتصال مع أمريكا هو الكولونيل أمقران، الرجل الذي قصف الطائرة الملكية بنفسه، وهناك وثائق من الأرشيف الأمريكي تشير إلى أن أمقران اتصل بالمستشار السياسي في الشؤون العسكرية لدى السفارة الأمريكية بالرباط، الكولونيل موسلو، وأخبره بأنه كلف من طرف الجنرال أوفقير بنفسه لكي يربط الاتصال به وبباقي القادة الأمريكان، بهدف تحديد ماذا يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة للمغرب، وسلمه تقريرا حول اجتماع جرى بينه وبين الجنرال أوفقير الذي أصبح وزيرا للدفاع، وكان موضوع الاجتماع الذي دار بينهما من خلال إحدى الوثائق الأمريكية: “التحولات التي عرفها المغرب على الصعيد السياسي بعد المحاولة الانقلابية الأولى” كموضوع أول، أما الموضوع الثاني، فكان “حاجيات الجيش من الأسلحة والمعدات الحربية”.

وقد كانت هذه المناسبة سانحة لكي يقدم أمقران التوجه السياسي لأوفقير إلى القادة الأمريكان.. فقد أخبر أمقران المستشار العسكري الأمريكي، أن أوفقير يناهض الفكر الشيوعي، وأنه لا يريد أن يعتمد على الاتحاد السوفياتي، ولا رغبة له في التعامل معه، بل إنه لا يريده أن يكون حاضرا في البحر الأبيض المتوسط​​، وأكد أمقران أن أوفقير يريد أن يندمج في مخطط الدفاع عن المعسكر الغربي الذي تتزعمه أمريكا، كما يريد كذلك أن يلعب المغرب نفس اللعبة مع الولايات المتحدة، كالتي لعبتها الجزائر مع الاتحاد السوفياتي، وهي التي أصبحت بمثابة حليفها الاستراتيجي في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، ولكي تتأكد أمريكا من نوايا أوفقير، فقد ضمن تقريره بالعبارة التالية: ((نحن دوما وسنظل بلدا مع المعسكر الغربي، ويجب أن يكون هناك استقرار، وبالتعاون مع الولايات المتحدة سنضمن تطوير وتقدم بلادنا)).

يأتي هذا الوعد أو الضمانة من أوفقير لأمريكا في وقت بدأ الحسن الثاني منذ أواسط الستينات ينحاز إلى المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي، ويستقبل مساعداته، وخصوصا بعدما رفضت أمريكا تزويد الحسن الثاني بالأسلحة والعتاد الحربي خلال الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967، حيث كان الملك الراحل يطالب بالأسلحة من أمريكا ويقول لها بأن الهدف منها هو مواجهة أي هجوم محتمل من طرف الجزائر، بينما كانت هي الأخرى ترى بأن الأسلحة في حال سلمت له، فسيرسلها إلى الدول العربية لتقاتل إسرائيل، وكعقاب لأمريكا، دخل الحسن الثاني في علاقات مع السوفيات، وهو الأمر الذي أدخل الريبة في قلوب الأمريكان من إمكانية انقلاب المغرب عليهم وموالاة الاتحاد السوفياتي، وقد تم العثور على رسالة للجنرال المذبوح يعود تاريخها إلى سنة 1969، أرسلها إلى نظرائه الأمريكان يؤكد من خلالها أن المغرب سيعمل على خلق توازن بين المعسكر الغربي والشرقي.

وإن كان هناك من أمر يفسر إلحاح الكولنيل أمقران على أن الجنرال أوفقير يفضل المعسكر الغربي الذي تتزعمه أمريكا ويعادي المعسكر الشرقي الذي يتزعمه الاتحاد السوفياتي، فلأن أوفقير كان يقدم نفسه كخيار وحيد لدى أمريكا، وأنه رجل المرحلة، كما أنه يخالف ويعاكس توجه الحسن الثاني.

وبالعودة إلى اللقاء الذي جمع بين أمقران وموسلو، فقد أخبر الأول الثاني بأن أوفقير يطلب خبراء أمريكان لإجراء دراسة كاملة على صعيد جميع مكونات الجيش المغربي بصفة عامة، وبالموازاة مع ذلك، فإنه قام بإلغاء جميع أولويات المشتريات التي تخص الجيش المغربي، والتي كان المغرب يقتنيها من الاتحاد السوفياتي، كما أنه أجل رحلة الوفد المغربي إلى الولايات المتحدة، ويشير التقرير إلى أن أوفقير أكد أنه سيرحب بالوجود العسكري الأمريكي في المغرب، وأنه يريد فريقا استشاريا كبيرا من الخبراء العسكريين مثل الخبراء الأمريكان الموجودين في إيران.

لقد أصيب المستشار الأمريكي موسلو بالريبة من تغير سياسة المغرب بنسبة مائة وثمانين درجة، وهو الذي كان قد دخل في علاقات مع الاتحاد السوفياتي منذ سنوات، فإذا بالكولونيل أمقران يخبره بأن المغرب سيقوم بين عشية وضحاها بقطع هذه العلاقات والعودة إلى إقامة علاقاته مع أمريكا، وخلال ذلك اللقاء، سأل موسلو أمقران: هل أخذ أوفقير موافقة الملك على هذه الخطوة؟ ليؤكد له أمقران أن الملك نفسه هو من طلب من أوفقير أن يقوم بتطوير وتجديد القوات المسلحة الملكية، كما أعطاه سلطات كاملة لذلك، حتى أنه ورد في الوثيقة أن أمقران قال “إن الملك أعطاه بطاقة بيضاء لاتخاذ القرارات وتنفيذها”، وبهذا يكون أوفقير قد استغل الثقة التامة التي وضعها فيه الملك، لينطلق في تنفيذ مخططه، وهو التحالف مع أمريكا وطلب دعمها للانقلاب على الحسن الثاني.

أمقران

أوفقير للأمريكان: إذا استولى الملك على القيادة العليا للجيش الملكي سأبقى أنا المتحكم فيها والضامن لمصالحكم

    قبل أن يختم الكولونيل أمقران لقاءه بالمستشار العسكري الأمريكي، وجه له دعوة للقاء الجنرال أوفقير، وأخبره بأن اللقاء من المقرر أن يكون بعد ثلاثة أيام، ولم يخبره بموضوع الاجتماع، المهم أنه سيلتقي بالجنرال أوفقير، غير أن اللقاء تأجل، وبقي موسلو في حيرة من أمره.. فمن جهة اندهش من تغير موقف المغرب من المعسكر الشرقي، ومن جهة أخرى، لا يعرف موضوع وتفاصيل الاجتماع ليخبر به رؤساءه، ولم يتم إلا بعد سبعة أيام، أي يوم 18 غشت 1971.

ويوم اللقاء، استقبل المستشار موسلو من طرف أوفقير، وكان الأول مرفوقا بالمستشار السياسي لدى السفارة الأمريكية بالرباط، ودام الاجتماع من الصباح إلى المساء، وكانت أول قضية أكد عليها أوفقير، أن “الحكومة المغربية تعتزم العمل على مراجعة ميزانية الجيش الملكي وأولياته” مؤكدا أنها سوف “تبذل قصارى جهدها لمزيد من التعاون الوثيق والتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية”.

وخلال هذا اللقاء، ظهر ما كان المستشار موسلو متفاجئا منه، ذلك أن الجنرال أوفقير بدى ضامنا لمصالح أمريكا شاء من شاء وأبى من أبى، حتى أنه تحدى حتى سلطة الملك الحسن الثاني، وقال لنظيره الأمريكي بالحرف: “إذا استولى الملك على القيادة العليا للجيش الملكي فسأبقى متحكما فيها”، وهذا جواب عن السؤال الذي طرحه موسلو على الكولونيل أمقران، عندما سأله هل الحسن الثاني هو من طلب من أوفقير أن يتصل بأمريكا؟ فقد تبين من خلال ما صرح به أوفقير أن الرجل ممسك بزمام الأمور، وأنه هو المخاطب المباشر لأمريكا وليس الملك، وفي هذا التصريح أيضا تحدي لسلطات الملك وتأكيد على قوة الجنرال.

وقد أراد أوفقير أن يبين عن حسن نواياه تجاه الأمريكان، بعدما وافق على نصيحتهم بخصوص ميزانية الجيش الملكي، وجدد التأكيد أن مهمة القوات المسلحة الملكية الرئيسية ينبغي أن تكون لها أهداف دفاعية محضة، عكس ما كان يروج له قبل المحاولة الانقلابية الأولى، من قبل الحسن الثاني، الذي كان يروج لفكرة أن الجيش الملكي يجب أن يقوم بعدة أدوار خارجية، ومنها المشاركة في الحرب العربية الإسرائيلية، وأكد أن المغرب لا يريد “مدرسة لرواد الفضاء”، ولكنه يريد بدلا من ذلك مساعدات يمكن استخدامها للعمل المدني فقط.

 

تأكد أمريكا من معارضة أوفقير للحسن الثاني

    انطلقت أفكار أوفقير ومعها نهمه وجشعه للسلطة، فأطلق العنان للسانه، ولسان حاله إقناع أمريكا بأنه الخيار الأوحد لها، وخلال هذا الاجتماع، جدد التأكيد على رغبته في توثيق العلاقات الودية مع الحكومة الأمريكية، ولكن الجديد هو إعطاء رأيه في منظمة دول عدم الانحياز واعتبرها ليست ذات سياسة واقعية في عالم تسيطر عليه قوتان عظيمتان رغم الأفكار السائدة في كثير من البلدان النامية، وأعرب عن اعتقاده بأنه من الضروري أن يكون المرء إلى جانب واحدة من القوى العظمى، وهو الأمر الذي كان يعارضه الحسن الثاني، الذي كان المغرب على عهده من ركائز دول عدم الانحياز، التي كانت تؤرق المصالح الأمريكية في كثير من البلدان.

واستمر في استعراض مواقفه بخصوص الكثير من القضايا، التي وضح من خلالها بما لا يدع مجالا للشك أنه يعارض الحسن الثاني جملة وتفصيلا، ومن بين القضايا التي بينت أكثر أن الرجل يعارض الحسن الثاني وبإمكانه أن يكون الخيار لأمريكا، أنه أثار قضية القواعد الأمريكية بالمغرب، ذلك أنه ألمح إلى إمكانية حاجة الأمريكان لها في وقت الأزمات، وقال لمخاطبه بصريح العبارة: “طالما أنا هنا، فلن تكون لديك مخاوف بشأن القواعد الأمريكية الموجودة على التراب المغربي”، وهذا مخالف لسياسة الملك الحسن الثاني، الذي كان يعبر عن رغبته في التخلص من القواعد الأمريكية في أكثر من مناسبة.

وفي مقابل ذلك، وبخصوص الحضور المغربي على الصعيد الدولي، فقد أكد أن المغرب ينبغي عليه أن يكون عضوا في منظمتين اثنتين فقط من المنظمات الدولية، وهما منظمة الأمم المتحدة بوصفه عضوا في المجتمع الدولي، ومنظمة الوحدة الإفريقية لتسهيل العلاقات مع دول القارة، أما بخصوص علاقة المغرب مع الدول العربية، فقد أشار بكل أسف كبير إلى أنه من وجهة نظر السياسي المغربي، يجب على المغرب أن يبقى عضوا في جامعة الدول العربية لتفادي الشكوك، ولكي لا يجلب عليه الانتقادات الداخلية.

أما عن الوضع الإقليمي للمملكة، فقد قال أوفقير أن المغرب جزء من العالم الحر، وأكد على ضرورة حماية وحدة أراضيه، وشدد على أهميته الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا وأنه يقع في حوض البحر الأبيض المتوسط، ولهذا الموقع أهمية كبرى في الصراع بين المعسكر الغربي والشرقي، ولم يلبث يشدد على أهمية المغرب بالنسبة لأمريكا والعالم الرأسمالي في الحوض المتوسطي، حتى أنه قرأ أمام نظيره الأمريكي رسالة تلقاها أثناء الغذاء، مضمونها وجود طرادات وسفن حربية سوفياتية راسية قبالة سواحل الحسيمة، وشدد على حاجة المغرب لوجود دورية أمريكية للاستطلاع والاتصالات.

وأمام انبهار المستشار الأمريكي بما قدمه أوفقير من معطيات وأفكار وتوجهات، فقد ذهب مباشرة إلى السفير الأمريكي، وأوضح له أنه يمكن الاعتماد عليه، بخلاف الحسن الثاني، الذي كان في كثير من توجهاته يعارض أمريكا، وأكد له أنه يعارض الحسن الثاني جملة وتفصيلا، وهو الذي كان العالم يراه خادمه المطيع الذي لا يمكن أن يعارضه في شيء، وفي المقابل، فإن مهمته هي تنفيذ الأوامر لا أقل ولا أكثر، ولقد فتح هذا اللقاء الباب لأمريكا للتعرف على أوفقير أكثر.

 وبناء على ما أخبر به المستشار العسكري الأمريكي سفير بلاده، فقد كتب هذا الأخير تقريرا وأرسله إلى كل من وزير خارجية ووزير دفاع بلاده، وأكد لهم أن أوفقير يعارض الملك الحسن الثاني، وقال: “نحن لا نعرف كم مرة تحدث أوفقير عن الملك”، ومعناه أن الرجل طرح نفسه أمام الأمريكان كخيار ثاني بعد الحسن الثاني، ولم يخل تقرير السفير الأمريكي من صدمة، عندما أكد لرؤسائه أنه ما زال لا يعرف بعد مدى حرية أوفقير في تحركاته وتصريحاته، لأن ما قاله يبقى فقط تصريحا في أول لقاء.

أوفقير.. الرجل الدموي ينال رضى أمريكا

    ختم السفير الأمريكي تقريره لكل من وزير الخارجية ووزير دفاع بلاده، بالتأكيد أن ما قدمه أوفقير يشير إلى أن الرجل يعتبر خيارا جيدا بالنسبة لأمريكا، نظرا لمواقفه من القضايا التي كانت تقلقها، والتي كان يعارضها الحسن الثاني، وكذلك نظرا لموقعه في الجيش كأقوى شخصية في هذا الجهاز الذي يحكم المغرب، ولكنه رغم ذلك، أكد لرؤسائه أنه على أمريكا أن تكون حذرة في التعامل مع هذا العرض على الرغم من أهميته، لأن أوفقير ليس الرجل الأكثر شعبية في المغرب ككل، بل الأكثر دموية.

لم يكن للقادة الأمريكان اهتمام بشعبية الرجل الذي يختارونه لقيادة البلاد التي أصبح ملكها لا يراعي مصالحها، بل كان الرجل الذي يريدون أن يحكم البلاد ويجب أن يكون له تاريخ أسود ومتحكم في الجيش بدرجة كبيرة، لأن الجيش بالنسبة لهم هو كل شيء، ولما أكد لهم سفير أمريكا بالمغرب أن أوفقير ليس الرجل الأكثر شعبية في المغرب ككل، بل الأكثر دموية، فقد رأوا أنه الرجل المناسب في المكان المناسب بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وعلى هذا الأساس قدموا دعمهم للرجل الذي كان ينتظر الفرصة المواتية، وقبل شهر من المحاولة الانقلابية، أي في شهر يوليوز، عين الكولونيل أمقران قائد القاعدة الجوية بالقنيطرة، قائدا ثانيا للقوات الجوية الملكية، وعين الكومندار اكويرة قائدا للقاعدة، ووضع هذا الثلاثي خطة انقلاب عسكري ستكون انطلاقته بالهجوم على الطائرة الملكية.

كان يجب على أربع طائرات مجهزة بالقنابل والقذائف أن تحط بمطار طنجة في انتظار “قطع الطريق” على الملك في السماء قبل توجهه إلى أوروبا، لكن في آخر لحظة، قرر الحسن الثاني ترك الطائرة وسلك طريقا مفاجئا: استقل القطار إلى طنجة ثم أخذ الباخرة إلى إسبانيا، ولم يدخل المياه الإقليمية الإسبانية، بل بقي في المياه الدولية حتى الوصول إلى الجنوب الفرنسي، ومن هناك إلى مقر إقامته، لأن العلاقات المغربية الإسبانية كانت متوترة نوعا ما على خلفية ملف الصحراء، وكان الملك ينوي قضاء قرابة شهر من العطلة في فرنسا، لكن بعد رحلة استغرقت 3 أسابيع، أخبرته المخابرات الفرنسية بتحركات في الجيش، فقرر العودة مسرعا، وتوقف في إسبانيا بمطار برشلونة، برفقة حاشيته على متن طائرة “بوينغ 727″، وعقد لقاء مع وزير الخارجية لوبيث برافو، وتوجه بعدها إلى طائرته، وكان الأمريكان يراقبون ما يحدث عن كثب، ويتمنون نهاية الرجل الذي أصبح يشكل تهديدا حقيقيا لمصالحهم.

وصباح الاستعدادات، كان هناك اجتماع طارئ من الساعة الثامنة إلى الثانية زوالا بمقر قيادة القوات المسلحة الملكية بالرباط، يوم 16 غشت، وقد أشرف عليه الكولونيل حسن اليوسي، ليصادق على التعيينات التكتيكية التي تم اختيارها بسرعة قبيل الانقلاب.. فبعد أن ترقى أمقران وأصبح رسميا الرجل الثاني في الجيش، عوضه اكويرة على رأس القاعدة الجوية بالقنيطرة، وهذه التغييرات التي اتخذت بسرعة كان الهدف منها التحكم في الضباط، ومنع باقي القواعد الجوية من التدخل أثناء الانقلاب.

وانطلقت المحاولة الانقلابية يوم 16 غشت 1972، وكانت لدى أمريكا ثقة كبرى في أن تنجح المحاولة هذه المرة، لأن الرجل كان في السماء ومجرد سقوطه معناه الموت المحتم الذي لا مفر منه، غير أن الألطاف الإلهية وقفت إلى جانب الحسن الثاني، وفشل أوفقير في مسعاه، وفشلت معه أمريكا.

 

حنكة الحسن الثاني في التعامل مع أمريكا بعد المحاولة الانقلابية

    لقد أحس الأمريكان بأنهم فشلوا، وكشف أمرهم بتورطهم مع أوفقير في المحاولة الانقلابية، خاصة وأن بعض الصحف البريطانية القوية أشارت إلى تورط أمريكا في المحاولة الانقلابية، ودخلوا في حيرة من أمرهم، كيف سيتعاملون مع الحسن الثاني بعدما علم الكل أنهم متورطون إلى درجة كبيرة في المحاولة الانقلابية، وبعد حوالي خمسة أشهر، رفع وليام روجرز، وزير الخارجية الأمريكي (يناير 1969- شتنبر 1973) مذكرة للرئيس الأمريكي نيكسون، جاء فيها أن “الحسن الثاني منذ المحاولة الانقلابية التي وقعت ضده في غشت 1972، وهو يعيش على وقع التهديدات الداخلية والخارجية، الأمر الذي نتج عنه مشكلان يتطلبان اهتمام أمريكا بصفة أساسية، فالمشكلة الأولى تكمن في أن الحسن الثاني سار يخشى أمريكا أكثر من أي وقت مضى، وله شكوك في أنها متورطة في المحاولة الانقلابية الثانية، أما المشكلة الثانية، فتتمثل في كون الحسن الثاني بدافع إطفاء الغليان الداخلي، طلب إعادة النظر في الوجود الأمريكي بالمغرب من خلال طلب سحب القواعد الأمريكية من بلاده”.

وشدد وزير الخارجية الأمريكي – من خلال مذكرته – على أن الحسن الثاني بالنسبة لأمريكا يشكل الاتجاه المعتدل، وهو الخيار الوحيد المتاح لها، لأنها لم تعد ترغب في المغامرة والتكهن بقوة سياسية لا تعرف توجهها، ولكي تعبر عن حسن نواياها تجاهه وتجدد الثقة فيه، أكدت المذكرة على ضرورة إرسال مبعوث أمريكي خاص للملك، وأبدى روبرت مورفي (وهو الذي يعرف الحسن الثاني منذ أيام الإنزال الأمريكي في المغرب) استعداده للذهاب إلى الملك لنقل تأكيد أمريكا على دعمها له، وقد أكدت المذكرة على ضرورة إرسال المبعوث إلى الملك في منتصف يناير من نفس السنة، أي بعد عشرة أيام من تاريخ رفع المذكرة.

قام مورفي بزيارة غير رسمية للمغرب فعلا، بين يومي 28 و29 يناير 1973، وكان هدفه هو جس نبض الحسن الثاني ومعرفة موقفه من أمريكا، خاصة وأن العالم كله كان يتحدث عن تورطها في المحاولة الانقلابية سنة 1972، غير أن رد فعل الحسن الثاني كان مفاجئا تماما.. فقد أكد أنه لا يشك أبدا في دور أمريكا في المحاولة الانقلابية، وبخصوص هذا اللقاء، قال مورفي إنه كان حبيا، وأكد الملك أن علاقته مع أمريكا جيدة، وأنه لا يشك في أنها دعمت الانقلاب عليه. وكان ذلك مجرد تمويه من الحسن الثاني الذي لم يكن يرغب في قطع العلاقات مع أمريكا على الرغم من كونها دعمت الانقلاب عليه، ويعود السبب في ذلك، إلى أنه أحس بحاجته لها في مشكلة كبرى، وهي قضية الصحراء المغربية.

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى