متابعات

متابعات | كيف انتقلت المملكة من تأهيل الحقل الديني إلى محاربة فوضى الفتاوى في إفريقيا

شكل تأهيل الحقل الديني بالمغرب خارطة طريق الدولة نحو ضبط علاقة المغاربة بالدين الإسلامي والمذهب المالكي، وإنهاء الفوضى التي كانت تعرفها بعض الدول العربية بسبب تنامي التطرف والفكر المتشدد في صفوف الشباب، بالإضافة إلى انتشار تيارات متأثرة بخطاب المشرق والمذاهب الأخرى، وأيضا انتشار المد الشيعي.. لهذا السبب قررت الدولة تأهيل الحقل الديني وتجديده تحصينا للمملكة من التطرف والإرهاب، وحفاظا على الهوية المغربية المتميزة بالوسطية والاعتدال والتسامح.

إعداد: خالد الغازي

    نجحت سياسة تأهيل الحقل الديني بالمملكة المغربية في الحفاظ على الوحدة المذهبية للبلاد، والتشبث بالمرجعية التاريخية الواحدة للمذهب المالكي، وإصلاح المدارس العتيقة بتحصينها من كل استغلال أو انحراف يمس بالهوية المغربية، مع توفير مسالك وبرامج للتكوين تدمج طلبتها في المنظومة التربوية الوطنية وتجنب تخريج الفكر المنغلق وتشجع الانفتاح على مختلف الثقافات، إلى جانب تحييد المخاطر الأمنية المرتبطة بالفكر المتطرف وتسلله إلى المساجد، حيث كانت بعض الجهات والجماعات تستغل دور العبادة وغياب التأطير والإرشاد لاستقطاب الشباب والتأثير فيه دينيا وسياسيا، لذلك جاء قرار إعادة هيكلة المساجد وتنظيمها للقطع مع استغلال أماكن العبادة لأغراض سياسية وانتخابية.

فإصلاح الحقل الديني بالمملكة تم على عدة جوانب أساسية، واستنادا على الخصوصية العربية والإسلامية التي يحددها الدستور بين المشروعية السياسية والشرعية الدينية وسلطة الملك كأمير للمؤمنين، حيث أكد الملك محمد السادس في خطاب العرش لسنة 2003، أن ((علاقة الدولة بالدين محسومة في بلادنا في ظل تنصيص الدستور على أن المملكة المغربية دولة إسلامية، وأن الملك أمير المؤمنين مؤتمن على حماية الدين وضمان الحريات بما فيها حرية ممارسة شعائر الأديان السماوية الأخرى، وباعتبار أمير المؤمنين مرجعية دينية وحيدة للأمة المغربية، فلا مجال لوجود أحزاب أو جماعات تحتكر لنفسها التحدث باسم الإسلام أو الوصاية عليه، فالوظائف الدينية هي من اختصاص الإمامة العظمى المنوطة بنا بمساعدة مجلس أعلى ومجالس إقليمية للعلماء نحن مقبلون على تأهيلها وتجديدها وتفعيل أساليب عملها)).

ويعتبر الخطاب الملكي بالدار البيضاء أمام المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الإقليمية يوم 30 أبريل 2004، خارطة طريق حقيقية لمشروع إصلاح الحقل الديني، الذي وضع خطوطه العريضة في خطاب العرش 2003، فالملك محمد السادس في هذا الخطاب راهن على ((تمكين بلادنا من استراتيجية متناسقة كفيلة بتأهيلها لرفع كل التحديات في مجال الحقل الديني، بقيادة إمارة المؤمنين، باعتبارها موحدة للأمة ورائدة لتقدمها، بل أيضا بالإسهام العقلاني الهادف لتصحيح صورة الإسلام من ما لحقها من تشويه مغرض وحملات شرسة، بفعل تطرف الأوغاد الضالين، وإرهاب المعتدين، الذين لا وطن ولا دين لهم)).

وقد شمل مشروع تأهيل الحقل الديني بالمملكة خلال العشرين سنة الماضية، تحت رعاية الملك محمد السادس، إعادة هيكلة العديد من المؤسسات الدينية وإحداث أخرى جديدة، حيث بدأ المشروع بإعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من خلال إحداث مديرية المساجد، ومديرية للتعليم العتيق (22 أبريل 2004)، ثم هيكلة المجلس العلمي الأعلى (22 أبريل 2004)، فإحداث الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء (22 أبريل 2004)، وكذا إعادة هيكلة رابطة علماء المغرب بالرابطة المحمدية لعلماء المغرب (30 أبريل 2004)، كما تم خلق إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم (16 أكتوبر 2004)، وبعدها بسنة، تم إطلاق قناة محمد السادس للقرآن الكريم (2 نونبر 2005)، فضلا عن إعادة تنظيم مؤسسة دار الحديث الحسنية (24 غشت 2005)، ثم تأسيس مركز تأهيل وتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات (2005/2006)، فضلا عن إحداث المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة (6 نونبر 2008)، وإطلاق خطة ميثاق العلماء (29 أبريل 2009)، ثم إحداث مؤسسة محمد السادس لطبع المصحف الشريف (2010)، وإحداث مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين (2010)، وتأسيس مؤسسة العلماء الأفارقة (13 يوليوز 2015).

عبد الوهاب رفيقي

في هذا الإطار، يؤكد عبد الوهاب رفيقي، باحث متخصص في قضايا التطرف والإرهاب والإصلاح الديني، أن تأهيل الحقل الديني بالمملكة سياسة كانت كرد فعل على الأحداث الإرهابية التي عرفها المغرب، خصوصا أحداث 16 ماي 2003، إذ قررت الدولة بعدها إعادة تأهيل هذا الحقل وتنظيمه بما يحد من خطورة الإرهاب والتطرف، معتبرا أنها خطوة جبارة جدا لأن الدولة وجدت نفسها أمام فوضى دينية كبيرة جدا، وأمام نوع من التسيب الذي كانت نتيجته تأثر الكثير من الشباب بالفكر المتطرف، إلى جانب تحديات أخرى في أواخر التسعينات، على رأسها القنوات الفضائية، وظهور الأنترنيت.. وكلها ساهمت بشكل كبير في خلق حالة من الفوضى، مما تطلب مواجهتها باستراتيجية متكاملة الأبعاد.

وأوضح رفيقي أن “سياسة تأهيل الحقل الديني انطلقت في سنة 2004، معتمدة على عدد من المحاور، كمحور الفتوى، الذي كان أساسيا جدا بحكم أن سوق الفتوى عرفت فوضى كبيرة، بحيث كاد المغرب بسببها أن يفقد هويته الدينية، خاصة وأننا نعلم أنه في تلك الفترة سيطرت على المعرفة الدينية في المغرب تيارات مشرقية غريبة في طبيعة تدينها على التدين المغربي الأصيل الذي له عدد من المقومات والمعالم المعروفة، فكان من الضروري الاعتناء بمحور الفتوى ومأسستها من خلال المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، وأيضا محور الإعلام كان له دور أساسي في إنجاح هذه الاستراتيجية، سواء من خلال إطلاق إذاعة محمد السادس أو قناة محمد السادس الفضائية السادسة، التي لعبت دورا كبيرا جدا في إعادة التوهج لنموذج التدين المغربي، ومنافسته ومزاحمته للتدين المشرقي، ثم العمل على مستوى المساجد من حيث مراقبتها وتأطيرها، وتعيين الأئمة والخطباء، ثم مراقبة الخطاب الديني الصادر عن هذه المؤسسات الدينية لما تلعبه من دور كبير في تأطير المجتمع وتوجيهه دينيا، وقد بذل مجهود كبير جدا على مستوى المساجد، خاصة وأن الفترة التي بدأت فيها الاستراتيجية كانت تعرف فوضى كبيرة على مستوى المساجد كان الكثير منها حاضنا للفكر المتطرف”.

فالإصلاح الديني الذي عرفته المملكة خلال السنوات الماضية، حسب رفيقي، تطلب من الدولة مجهودا كبيرا جدا من خلال النهوض بالمؤسسات والمعاهد التي تؤطر المرشدين والمرشدات الدينيات، والخطباء، سواء من خلال الدورات التكوينية أو المتابعة والمراقبة، أو من خلال توفير مناصب شغل لهذه الفئات وتخصيص تعويضات مالية محفزة لهم للعمل في هذا المجال، إلى جانب مراقبة المنشورات والمطبوعات والكتب الدينية، ليتم فيما بعد تطوير هذه التجربة وتسويقها عبر مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة وعدد من المبادرات التي توجه خصوصا للبعد الإفريقي، نظرا للارتباط الروحي والتاريخي بين المغرب وإفريقيا، مضيفا أن هذه السياسات والاستراتيجيات لعبت دورا مهمات جدا في الحد من انتشار الفكر المتطرف، وفي إعادة الاعتبار للتدين المغربي الذي يتسم بالتسامح والاعتدال والانفتاح على الآخر بعيدا عن التشنجات التي عرفها النموذج المشرقي وما تولد عنه من كوارث وآفات.

واعتبر رفيقي أن محصلة تأهيل الحقل الديني إيجابية جدا وخطوة كان لابد منها، وهو ما أهلها لأن تصبح نموذجا للتسويق في الدول الإفريقية أو حتى في الدول الأوروبية، التي تلجأ في الكثير من المرات للخدمات الدينية المغربية للحد من التطرف في بلدانها، قائلا أن هناك تحديات ومستجدات طرأت بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وما جاءت به من فوضى على مستوى الفتاوى والخطاب الديني، والعولمة والانتشار السريع للمعلومة وكيفية تبادلها، وتغيير الاستراتيجيات التي تنهجها التنظيمات المتطرفة، سواء من حيث التأثير أو من حيث الاستقطاب، مبرزا أن هذه المستجدات تحديات أيضا لسياسة تأهيل الحقل الديني وقد تحتاج إلى وقت أكبر للتعامل معها، ونوعية من الفاعلين في هذا الميدان للتأقلم معها والوعي بها، خاصة وأن الأجيال الجديدة مختلفة في تكوينها وعقليتها عن الأجيال القديمة، ولها حاجيات مستجدة ومتطلبات حديثة متوافقة مع التحديات التي يفرضها العصر، وبالتالي، فصناعة الفتوى لا بد أن تكون منسجمة مع هذه التحولات التي تعرفها المجتمعات.

محمد الفيزازي

من جهته، قال الشيخ محمد الفيزازي، أن تأهيل الحقل الديني في المغرب قائم على ضوابط معينة، لأن الدولة حريصة على توحيد المذهب المالكي في كل المساجد وفي حياة المغاربة منذ عهد الحسن الثاني رحمه الله، لما في ذلك من فوائد في توحيد المغاربة على فقه واحد تجنبا للمشاكل الفقهية والخصومات، مثل ما يحدث في الشرق، حيث تجد جماعة من الناس في دولة واحدة وفي مسجد واحد يختلفون وينقسمون في المذاهب، مضيفا أن ميزة المذهب المالكي وحدت المغاربة على نوع من التدين السني المالكي، وجنب الشعب المغربي الكثير من الخلافات الفقهية وما تؤدي إليه تلك الخلافات من تشنجات وربما عداوات، لهذا بفضل توحيد المذهب، لم يعد هناك مكان لأي مذهب آخر حتى لو كان سنيا، رغم أن المذاهب الأخرى سنية ولا علاقة لها بالتشيع، لكن توحيد الشعب على مذهب واحد له فوائد كثيرة.

وأكد الفيزازي أن المملكة المغربية أصبحت نموذجا يحتذى به في مجال تأهيل الحقل الديني ومأسسة الفتوى، بحيث أنه ليس لها مفتي خاص يصدر الفتوى النهائية ويوقع على الأحكام بالإعدام، وإنما لدينا المجلس العلمي الأعلى المسؤول عن إصدار الفتاوى التي تخص الشأن العام والأمة المغربية، عكس الفتوى الخاصة التي يقولها أي فقيه أو عالم تتعلق بالعبادات الخاصة أو حول كيفية الصلاة، فليس من الضروري أن يسأل عنها المجلس الأعلى، فهي أمور يمكن أن يتحدث فيها كل فقيه أو داعية في إطار النصيحة، أو يذكر بالحكم الشرعي في موضوع معين، مبرزا أن الإفتاء يختص في النوازل وعندما تكون الفتوى خارجة عن إطار النص الشرعي، يكون فيها اجتهاد في نازلة معينة، أو إذا طرأ مستجد تحتاج الأمة النظر فيه، يوكل الأمر إلى المجلس العلمي الأعلى للإفتاء.

وأوضح الفيزازي، أن تجربة المغرب في الحقل الديني والإفتاء أصبحت يحتذى بها في العديد من الدول الإفريقية، لأنه نجح في ذلك، لاعتبارات متعددة: أولها، الجانب الفقهي، والاعتدال، والالتزام بالوسطية، ومحاربة الغلو والتطرف، والاعتبار الثاني، يكمن في التكامل مع المؤسسات الأمنية لأن محاربة الإرهاب لا تقتصر على وزارة أو مؤسسة دون أخرى، لأن هذه المقاربة مهمة للجميع، ولا يستثنى منها أحد، لاسيما المقاربة الأمنية والعلمية، لأن مقاربة لوحدها لا تكفي ولا بد من قطع جذور الإرهاب من الناحية الفكرية والعلمية من البداية، مشيرا إلى أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدورها تقوم بعمل كبير من خلال تأهيل الأئمة والمقرئين، وإرسال البعثات والمرشدين والقراء إلى الدول الأوروبية والإفريقية لتأطير أبناء المهاجرين المغاربة، قصد المساهمة في نبذ الفكر المتطرف، إلى جانب الدور الذي تقوم به المجالس العلمية المحلية التي تراقب المستوى الفقهي والعلمي لدى الأئمة والخطباء والتأطير والتعيين.

وقد قررت المملكة تعميم التجربة المغربية على مستوى تأهيل الحقل الديني، ومأسسة الفتوى على الصعيد الإفريقي، من خلال تنظيم العديد من المؤتمرات واللقاءات العلمية الدينية، وذلك بهدف دعم الدول الإفريقية في مواجهة التطرف والإرهاب ونشر الوسطية والاعتدال والتسامح، حيث يحرص المغرب على إيلاء أهمية كبيرة للجانب الديني تحت رعاية الملك محمد السادس، من خلال مد جسور التواصل مع المجتمعات الإفريقية المسلمة من خلال “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة”، التي نظمت مؤخرا مؤتمرا علميا حول “ضوابط الفتوى الشرعية في السياق التاريخي”، تميزت بمشاركة علماء أفارقة وأجانب ينتمون لعدة هيئات ومجالس إسلامية.

ودعا الملك محمد السادس في رسالة وجهها للمشاركين في هذه الندوة العلمية، إلى ((التأثير الإيجابي في الناس، وذلك بأن يبينوا لهم محاسن الوسطية والاعتدال، وأن يقوموا مقابل ذلك بنفي التأثير السلبي للأصناف المتطرفة الجاهلة في عقول الأبرياء، لاسيما وأن هؤلاء المنحرفين يدرجون جل كلامهم عن الدين في صنف الإفتاء والفتوى، لما لها من القدسية في أذهان الناس)).

وأكدت الرسالة الملكية التي تلاها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أن ((المملكة كانت سباقة إلى مأسسة الفتوى من خلال جعلها جماعية من ضمن اختصاصات المجلس العلمي الأعلى، الذي يستفتيه الناس في أمور الشأن العام ذات الصلة بالدين، بينما يقوم العلماء كأشخاص، بإرشاد الناس للأحكام الدينية التي لا تدخل في الفتوى ذات الصلة بالحياة العامة، ولربما كان هذا الشرط هو ما ينبغي الأخذ به في كل بلد من البلدان الإفريقية، وهو جعل الفتوى في الشأن العام موكولة لمؤسسة جماعية من العلماء العدول الوسطيين، الذين يلتزمون بثوابت بلدهم ومذهبهم الشرعي)).

كما أوصت الرسالة الملكية العلماء الأفارقة بـ((تجنب التطرف والتفرقة، وهو دعوة الناس دعوة ملحة إلى الاعتدال، والحرص على طمأنة ضمائر الناس فيما يتعلق بالخلاف في بعض الجزئيات، والعزم الأكيد على التعاون والتشاور الدوري بين العلماء على الصعيد الإفريقي، لمتابعة المستجدات في باب الطلب والاستجابة في باب الفتوى، وحرص المفتين على الاجتهاد لإدماج السلوكات الثقافية المحلية في دائرة المقبول الشرعي ما لم يكن فيها ما يناقض القطعيات)).

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى