
لا حديث اليوم في كواليس المختبرات العلمية ودواليب أنظمة الدول العظمى، إلا عن هذا المولود الجديد “الذكاء الاصطناعي”، وما قد يفرزه من ظواهر إجرامية وإرهابية خطيرة، بسبب سوء الاستعمال البشري، تفوق بكثير جرائم الأنترنيت التي أصبحت متعددة الأشكال والمظاهر، لهذا، لا يفتأ زعماء وقادة العوالم الرقمية ومعهم زعماء الأنظمة الاقتصادية والسياسية، يطلقون صفارات الإنذار في كل مناسبة علمية أو خطاب للشعوب، ويؤكدون تخوفاتهم من أن يستعمل “الذكاء الاصطناعي” في العمليات الإرهابية، وأن يتم من خلاله تجنيد الإرهابيين ورسم الخطط وتضليل أجهزة الأمن الخاصة بالدول، والهيئات الدولية المكلفة بحماية الشعوب وإنصافها، وفرض التوازنات الدولية.

بات من الضروري الإسراع بإخراج قانون دولي منظم لكيفية استعمال الذكاء الاصطناعي، بآليات واضحة وصريحة ودقيقة تمنع كل تجاوز أو انفلات رقمي قد يضر بالشعوب، أمما وأفرادا، أو يزعزع استقرار الدول والأنظمة، وفي مقدمة من قرعوا أجراس التحذير، المنتظم الأوروبي الذي يدعو إلى الإسراع بوضع تشريع شامل للذكاء الاصطناعي، والرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي لا يترك فرصة إعلامية دون التحذير مما قد يترتب عن سوء استعمال الذكاء الاصطناعي.
فإذا كانت المختبرات والأنظمة المصدرة للعلوم والمبتكرة لـ”الذكاء العاطفي” تعيش يوميا رعب ما أفرزت عقولها، وتعاني من شبح انفلات هذا الذكاء الذي لا قلب ولا روح له، فكيف يمكن حماية باقي الأنظمة والشعوب التي أدمنت على تبذير الأموال وثرواتها البشرية والطبيعية من أجل الاستهلاك فقط؟
العوالم الافتراضية تحكم الشعوب
يبدو أن مصير الشعوب بات مرتبطا بمدى مناعتها تجاه وباء الشبكة العنكبوتية، وقدرتها على كيفية التعايش مع أنظمة العوالم الافتراضية وقراصنتها وشبكاتها الإجرامية، وأن الحروب الحقيقية التي تهدد أمنها واستقرارها ووجودها، لن تستعمل فيها الأسلحة النارية والنووية والجرثومية والكيماوية وغيرها من مدمرات الحياة، بل هي تلك الحروب التي تدار داخل العوالم الافتراضية، والجارية حاليا بواسطة الحواسيب والهواتف، حيث الآلاف من الزعماء الافتراضيين والملايين من الجنود من كل الفئات والأجناس، ضمنهم المجندون دون علمهم، مسلحون بأسلحة الدمار الشامل للعقول النامية، يزيدهم الذكاء الاصطناعي عنفا وشراسة، شغلهم الشاغل تسويق الإشاعة والقرصنة و”الفوتوشوب” والنصب والاحتيال وانتحال الصفات، وغيرها من الوسائل التي يواظبون بواسطتها يوميا على تدمير القيم والأخلاق والهمم، وتفكيك الترابط والتلاحم داخل الأسر والمجتمعات، منشغلون بفرض وترسيخ عدم الثقة في نفوس الأطفال اليافعين والشباب، وتحقير القرارات والمبادرات وتيئيس المسؤولين وتبخيس المسؤوليات.. زعماء وجنود يتقاضون أجورهم بكل العملات الأجنبية، في خدمة الأنظمة ذات النفوذ العالمي المالي والتقريري.. تلك الأنظمة التي تصدر شبح الديمقراطية ووهم حقوق الإنسان لسكان العالم، علما أنها هي أول من يطعن في قلب الديمقراطية ويستبيح حقوق الشعوب، وهي من تتغذى من هموم ومعاناة البشر، لا تجد حرجا في تسليح الشعوب للتناحر والتقاتل فيما بينها، واستعمال حق “الفيتو” داخل مقر الأمم المتحدة من أجل وقف قرار إنصاف شعب مظلوم أو تأديب نظام حليف لها، وهي تعلم علم اليقين أن “الفيتو” هو أكبر جريمة ترتكب عالميا في حق الديمقراطية، حيث أجهضت حقوق شعوب وبخرت أحلاما مستحقة، لذلك، على الشعوب أن تبادر إلى اقتحام تلك العوالم الافتراضية ولعب أدوار القيادة والريادة داخلها، وتنقيتها وتطهيرها من تلك الكائنات البشرية التي تقضي الساعات في تعبئة وشحن الأطفال واليافعين والشباب بالحقد والكراهية والانتقام والانسلاخ عن الهوية والعقيدة وحب الوطن، وتلويث أفكارهم ورؤاهم بسلوكات مستوردة، كما عليها أن تحولها إلى منابر للتربية والتعليم والتكوين وتبادل التجارب والخبرات والتواصل الإيجابي.
إن الشعوب النامية تؤدي ضرائب إدمانها على توظيف برامج وآليات وتكنولوجيات مستوردة في حياتها اليومية بدون أدنى دراسة أو تقييم لمدى صلاحيتها وملاءمتها لواقعها العلمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والعقائدي، ضرائب يؤديها الشعب المغربي إلى جانب باقي الشعوب العربية، بسبب سوء استعماله للإعلام البديل، وعجز حكومته على تقنين القطاع الذي بات شغل من لا شغل له، وبسبب عدم توفرها على مفاتيح أبواب عوالم افتراضية باتت تسكن معظم المغاربة إلى درجة المس والإدمان، وفي مقدمتها العالم الأزرق “الفايسبوك”، أكبر جريدة إلكترونية غير مرخصة، حيث كل المغاربة من وزيرهم إلى غفيرهم، هم مراسلون لها بدون بطاقات مهنية ولا حتى بطاقات صحافية موقعة من طرف صاحبه الأمريكي مارك زوكربيرغ، بالإضافة إلى باقي العوالم: “تويتر”، “الواتساب”، “اليوتيوب”… والتي فتحت أبوابها ونوافذها ومجاريها لكل الكائنات البشرية، لتتحول إلى أسواق عشوائية تعرض السلع الصالحة والفاسدة.. عوالم يراكم أصحابها الأموال في كل ثانية، وتتسبب في انحطاط المجتمع وتدمير عقول مواطنيه، ولم يلتزم المغربي بالمثل الدارجي الشهير “لبس قدك يواتيك”، الذي سوقه الآباء والأجداد، بعد أن انساق وراء ما تنتجه تلك العوالم، وأدمن على مسايرتها بالتدوينات والتغريدات والتعليقات دون أدنى بحث أو تدقيق لذلك المنتوج الإعلامي، علما أن معظم من يعرضون تلك المنتجات يجسدون عن ظهر قلب المثل المغربي “تيبيع القرد ويضحك على اللي شراه”، وأنهم لا يهتمون لأمر البلاد والعباد بقدر ما يهتمون بالمقابل المادي الذي يحصلون عليه مقابل تسفيه الحياة بالمغرب.. حروب قذرة معلنة على الشعب والحكومة والنظام انطلاقا من العالم الأزرق الأكثر ولوجا من طرف المغاربة، حيث وجد فيه الانفصاليون والمعارضون والمبعدون، موطنا لهم، ومهدا لانطلاق هجماتهم وتهجماتهم إلى درجة أن “الفايسبوكيين” بدأوا يفقدون الثقة في كل ما ينشر ويذاع بعالمهم الأزرق، وفقدوا معه الثقة في الإعلام البديل برمته، وكذا رابط التواصل بينهم وبين ما يجري ويدور في بلدهم.
ولجنا عوالم رقمية ولم نتسلح بعد بما يلزم لضمان العيش داخلها، ويمكن أن يتم تجريدنا من كل ثرواتنا وقيمنا والإلقاء بنا في مطارح ومتاهات يصعب الخروج منها.. فرجاء لا تتسرعوا في التخلص من الأرشيف الورقي لأنكم لا تمتلكون مفاتيح العوالم الرقمية، فشتان بين كتاب أو ملف أو ورقة نحضنها بين ذراعينا، وبين صفحات منصات رقمية تمتلكها شركات تفتحها بالمقابل ووفق شروط، لها وحدها حرية تحديدها وتغييرها..
الثقافة الرقمية وشبح الميوعة
قد لا ندرك جيدا أننا سجناء سفينة اسمها “الحياة العصرية”، تسير بدون توقف وبسرعة قصوى للاكتشاف والغوص في العوالم البديلة، والانتفاع بمواردها المادية والبشرية، وهذا ما يجعلنا عالقين تائهين في بطنها، نحس وكأنها جاثمة راسية في مكانها.. سفينة لم تعد تبحر أو تغوص فقط في المحيطات والبحار، بل أصبحت بفضل أجنحتها الرقمية، تسبح في كل الفضاءات الكونية، تنقل روادها إلى حيث يمكن إفراز الجديد المتجدد بآليات أقرب منها إلى السحر والخيال من الحقيقة.
قد لا ندرك أن فكرنا المنشغل بالتفاهة ونشر الإشاعة وتسخير العوالم الرقمية في اللعب واللهو والتراشق اللفظي والخوض في الحيوات الخاصة للأشخاص، حولنا إلى مجرد أمتعة وعتاد تقليدي زائد، يحد من حراك ورشاقة السفينة، ويزعج روادها المنشغلين بالإبداع والتنمية والعطاء.
لم نستوعب بعد أننا في وضع يرغمنا على الإسراع بفك القيود والتحرر وخوض معارك الصمود والإبداع في كل العوالم الحقيقية والافتراضية.. وضع يفرض علينا التفاعل والتجاوب والتنافس من أجل الرقي بثقافتنا الرقمية وجعلها آلية للتنمية، حتى لا نضيع في زحمة التنافس على القيادة والريادة، وفي زمن لم تعد فيه أدنى قيمة للسوائل البشرية من دموع ودماء وعرق.
نصنع الأزمات ونغذي البؤس ونزرع اليأس
بات الذكاء الاصطناعي يرعب العالم ورواده البشريين، لأننا – وللأسف – تعلمنا كيف نصنع الأزمات ونغذي البؤس ونزرع اليأس والإحباط هنا وهناك، ونسينا أن نوفر جزء من جهدنا وأراضينا لبناء الكرامة وتشييد السعادة وزرع المحبة. تعلمنا أن نقبل بكره العين قبل العقل وقبل القلب، وأن نسترق السمع في أمور لا تعنينا ونغوص سلبا في مشاكل غيرنا لنزيد من معضلاتها، تعلمنا أن نحضن الغريب قبل القريب، وأن نتركه بلا حسيب ولا رقيب.. تلك قيمنا تصيب وتخيب، لكن في ظل تناسل الخونة والمتربصين بالوطن، وجب التدقيق والبحث والتنقيب، نسينا ونحن نزداد غلا وحقدا تجاه بعضنا البعض، أن نوفر من غلنا وحقدنا قسطا ضئيلا لمواجهة أعدائنا، ونمنح لبعضنا الوقت والمجال من أجل التسامح والتلاحم والتفاهم.. نسينا أن نجعل من سمومنا أسلحة فتاكة تقوينا وتحمينا وترهب خصومنا بدل أن نوظفها للتخلص من بعضنا البعض وإضعافنا وتشتتنا.. نسينا أن لمة الشعب هي الضمان وصمام الأمان لكل مشاريعنا، وأنه علينا إعادة تمتينها وشحن أنفسنا لنوقف زحف الفساد والاستبداد، فلنغير إذن، ما بأنفسنا، لأنه السبيل الوحيد إلى التغيير نحو الأفضل.. نسينا أن رضى الله لا يوجد فقط بالمساجد، وإنما هناك في الأحياء الهامشية والقرى النائية، هناك حيث البعض يئنون من قساوة الحياة وظلم البشر، أبواب مفتوحة ليل نهار تنتظر من يقتحمها ليغير حياة من بداخلها.. نسينا أن الحياة وإن تجاوزت القرن لا تغدو أن تكون أحلاما وكوابيس في لحظة غفوة أو غفلة، وأن بين الحقيقة والأحلام ستارة داخل العين تحكمها ذرة في الدماغ، ترمي بهياكلنا وأجسادنا هنا وهناك..
مشكلتنا مع أناس يدعون الثقافة والمعرفة في كل شيء، متشبعون بأنانية مفرطة إلى درجة أن بعضهم يرون في أنفسهم الكمال والسمو فوق كل العقول، مشكلتنا مع كائنات بشرية نمت كالفطر لا علاقة لها بالمواطنة والوطنية، بشريون يغردون خارج سرب الإنسانية وما يدور في فلكها من قيم وعلم وأخلاقيات تتميز بها عن باقي الكائنات الحية، هؤلاء الذين لا يتركون أي قضية أو موضوع إلا وحشروا أنوفهم في دواليبها، ناقشوا وحللوا وعلقوا وأفتوا في كيفية معالجتها، بل وطالبوا بفرض آرائهم الشخصية واختياراتهم، ورفضوا كل رأي معارض حتى ولو كان صاحبه هو الأحق والأجدر، مواطنون عاديون يقضون أيامهم في التلويح بأقلامهم الحمراء هنا وهناك، يتباهون بـ”نشر غسيلهم المتسخ والمتعفن”، ويرفضون الاعتراف بضعفهم وجهلهم وتطاولهم وأنانيتهم، يرفضون التخلي عن وسائلهم وآلياتهم البدائية التي لا أكل الظهر منها ولا شرب، والتي لن تجد لها موقعا في سجل تاريخ البلد، ولا حتى في كتب الطرائف والسخرية.. بشريون يصححون الصحيح ويزعمون امتلاكهم للمعرفة والكفاءة أكثر من المهنيين ذوي التخصصات وحاملي الشواهد العليا والدبلومات، وأكثر من الباحثين والعلماء والفقهاء، هؤلاء الفاشلون دراسيا وتكوينيا، مرضى بداء الأنانية، ومنشغلون بقضاء مصالحهم الشخصية، يسعون فقط وراء الظهور والتموقع والزعامة.
تلكم أخطاؤنا التافهة التي لا يمكن تصنيفها ضمن خانة الكبائر، أخطاء من السهل تداركها وتصحيح مسارنا وتحصين وطننا، لم يكن يوما العقل مرشدنا وراعينا في كل خطواتنا، ولم نعلم بعد كيف نتقبل قدر السماء المحتوم كان ممطرا أو مجرد سحاب بلا غيوم، كل عام وأنتم تصححون أخطاءكم وتخففون من ذنوبكم لتلقوا الخالق برصيد من الحسنات يؤمن لكم تأشيرة الجنة، وأوصيكم بالشرف لأنه مفتاح لكل أبواب الغرف، وضامن بإبعاد هذا القرف، وأدعوكم إلى اللمة من أجل وطن في القمة ومن أجل حياة راقية تحمل شعار كلنا مغاربة وكلنا عرب وكلنا مسلمون، وتمعنوا كثيرا في هذين البيتين الشعريين اللذين كتبتهما في شبابي:
سمة العقل الشرف إن غاب عنه انحرف
ذبل الحق وانجرف وعاش الباطل في ترف