للنقاش

للنقاش | مأساة القراءة.. في زمن معرض الكتاب

بعيدا عن الأرقام الخاصة بعدد العارضين المغاربة والأجانب بالمعرض الدولي للكتاب، وعدد الزوار والضيوف، وبعيدا عن برنامج وزارة الثقافة المليء بالندوات وحفلات توقيعات الكتب، وبرامج باقي القطاعات العمومية والخاصة والهيئات الوطنية والدولية والجامعات والمعاهد، فإن المتتبع للحركية اليومية الداخلية، يلمس ندرة المهتمين بفضاءات وأروقة اللقاءات والندوات الثقافية وحفلات توقيع الكتب، وكذا قلة الزوار المنشغلين بالبحث والتنقيب عن كتب ومراجع لدعم أبحاثهم العلمية والأدبية والثقافية.

بقلم: بوشعيب حمراوي

من يؤرخ لأحداث الزمن المعاصر ؟

    كثيرا ما أقضي الساعات الطوال أتساءل عن مستقبل هذا العالم الذي باتت أنفاسه تنفث الدخان والجمر، وعن مصير الطبيعة والحياة في ظل تواجد وتوالد هذا الكائن البشري الرافض للقراءة والتعليم.. الكائن المصاب بجنون العظمة وسعار الانتقام، فأجدني أصطف إلى جانب من يعتقدون بقرب نهاية العالم، بل أتمنى تلك النهاية، وأقبل بأدلة وحجج وقرائن المنجمين والمتدينين والمتطفلين، والتي يستدلون بها للتأكيد على قرب الزوال طمعا في وقف مسلسل الحروب والاستنزاف المجاني للدماء بسبب تفشي الجهل، فما يبدو واضحا بجلاء، أن لا أحد بات يفكر في مصير الأجيال القادمة، وأن الإنسان ضغط على زر التدمير الذاتي وجلس يعد الدقائق والساعات في انتظار الرحيل الأكبر، وأجدني حائرا في نوعية البشر الذي يستبيح ذبح بني فصيلته، ويقضي السنوات في البحث عن الطرق والأساليب والآليات الكفيلة بتوسيع المجازر البشرية، عوض الدفع في اتجاه التسامح والتصالح والتآخي.

وسط هؤلاء أبحث عن هوية المؤرخات والمؤرخين النزهاء والشرفاء المرتقبين، الذين بإمكانهم كتابة تاريخ العالم المعاصر بكل صدق وأمانة، وصيانته من التحريف والتلفيف والتضليل، وتخطي الدمار الشامل الجاري بعدة مناطق بالعالم، وحمايته من الكساد الأخلاقي، والصمود أمام ملايين الكتاب والمدونين والمغردين ورواد الأجهزة والهيئات السرية والعلنية التي تسوق بعشوائية وخبث للأحداث والوقائع في العالمين الافتراضي والواقعي، وتدعي المعرفة الكاملة والقناعة التامة بكل تفاصيلها وأسبابها وتداعياتها.. أتساءل هل لهم القدرة للوصول إلى حقائق الأمور في ظل تلوينات الكذب وتجلياته وتضاعف عدد محترفيه في عالم بات يسكنه آدميون مخلصون للإجرام ومتواعدون على التنكيل بالبشرية؟ أتساءل كيف يمكن لمؤرخ أن يستقي الخبر الصحيح والإحاطة بكل تفاصيله وسط عالم بات قادرا على أن يقر ويثبت أن الخبر صحيح وزائف في آن واحد، وأنه لا ثقة في الأدلة والقرائن والمصادر الرسمية؟ وكيف يمكنه إقناع الأجيال القادمة بصدق وصحة رواياته وسط آلاف الروايات التي يتم تسويقها في كتب ومجلدات ومواقع إلكترونية واجتماعية، من طرف من برعوا في الإقناع والإغواء في عالم لا يتردد في منح جوائز السلام لمجرمي الحروب والتوثيق لمنجزات ومبادرات خيالية نسجت بخيوط الوهم والتضليل؟

فلم نكن يوما مقتنعين بما جادت به كتب التاريخ والجغرافية والفلسفة والأدب والسياسة والدين، ولم نكن أبدا على وفاق مع كل مضامين تركة هؤلاء المؤلفين والمؤرخين والفقهاء رغم ما رسخ في عقولنا بالمدارس والثانويات والجامعات، لسبب بسيط، يكمن في أن معظم هؤلاء المؤرخين لم يكونوا يوما من عامة الشعوب، ولا ممن عايشوا أبناءها وأنصتوا لنبضات قلوبهم.. فقد كانوا يكتبون بالمقابل المادي والمعنوي، وفق التعليمات والمصالح التي تخدم الحكام والزعماء والقادة ورواد التطرف والاختلاف العرقي والعقائدي، وكانوا لا يجدون حرجا في حذف المعلومات الصحيحة أو تغييرها بأخرى مغلوطة، أو حتى إحراق كتبهم إرضاء لأولياء نعمهم، لكن الشعوب كانت تكذب الكثير مما دونته أقلامهم، وظلت لعدة عقود ولازالت، تختزن الأسرار والحقائق داخل العقول والقلوب والمنازل والمسالك والشعاب، وعلى أجزاء مختلفة من أجساد أبنائها، والكثير من تلك الأسرار والحقائق التي لازالت تتناقلها الأجيال، تؤكد زيف بعض المؤرخين وادعاءاتهم الباطلة، وظلمهم لتاريخ الشعوب وأمجاد رموزه الحقيقيين.

نحن إذن، أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما القبول بخيار الاحتضار القائم، وانتظار نهاية العالم الوشيكة، والتي ليست في حاجة للتنجيم أو الفقه أو الدجل من أجل تبيانها، أو خيار الإسراع بترسيخ روح الإنسانية في جسد كل بشري حاقد، أو منتقم، وجعله يرفع أصبعه عن زر التدمير الذاتي للحياة، وفتح المجال للمؤرخين من عامة الشعوب لكتابة التاريخ المعاصر وتصحيح ما أمكن من تفاهات الماضي المسيئة للآباء والأجداد، والمحبطة للأبناء والأحفاد، فالشعوب لن ترتقي في ظل تواجد تاريخ مغلوط لا ينصفها، والأجيال لن تنهض في ظل غياب القدوة الصحيح والقائد الصريح، ونزاهة الأنظمة ونهضة الشعوب تقاس بمدى مصداقية تاريخها.

العربية.. لغة في مواجهة اللغو

    حتى لا ننساق وراء كل طرح أو سياق يراد منه خدمة أجندات خارجية، بإهمال لغاتنا الرسمية (العربية والأمازيغية)، وحتى نستوعب أن الصحيح لن يصح إلا ببصمة وطعم الجذور والبذور العربية الأصيلة، وأنه لا يمكن تحقيق التواصل الحقيقي والصادق إلا باعتماد اللغات الأم التي تستريح لها الألسن، وتدركها الأحاسيس، علينا مراجعة قراراتنا وقناعاتنا بخصوص الاهتمام الزائد بلغات الغرب، كالفرنسية، التي لم تعد تغذي حتى شعوبها، ولم تعد منتجة للعلوم والتكنولوجيا، فلابد إذن، من مراجعة وتقييم انحرافنا اللغوي، والتصدي لما يصدر من لغو وغوغاء وتهجم أضر ويضر باللغة العربية.

بالأمس، كانت حروف وكلمات اللغة العربية تستمد شرعيتها ومرجعيتها من القرآن الكريم، وكانت تغذي العرب والعجم، مما جاد به أدباءها وباحثوها وعلماءها وفقهائها، واليوم تنكر لها روادها، فركبت على حروفها كل دواب الأرض، وألبست لباس العجز والقصور والتقادم، وأطعمت بكلمات دخيلة ومفاهيم عليلة، وخصوصا بعد أن غاب الحرص الشديد على حركات كلماتها (الفتحة، الضمة، الكسرة، السكون)، وتلويناتها ومشتقاتها ومصادرها، وبعد أن بدأت تطل علينا كائنات حية من أعلى مناصب المسؤولية في البلاد، لا تفقه شيئا في اللغة العربية، بعضها في مراتب سامية (وزير أو سفير أو..)، لا تخجل من الحديث بلغات أجنبية في المحافل الوطنية والدولية، وهذا يشعرنا باليأس والإحباط والغبن والإهانة.

وقد سبق أن عرضت الحكومة مشروعا بمجلس النواب المنتهية ولايته، من أجل إنعاش وترسيخ اللغة العربية في الحياة العامة للمغاربة، وحمايتها من الكلمات الدخيلة، وتحدث المشروع عن ضرورة إحداث أكاديمية ومعاهد وشعب تعليمية وتكوينية باللغة العربية، وتخيل القارئ بين سطور أهداف ومرامي المشروع، أن الأمر يتعلق بلغة جديدة دخيلة على المغرب، إذ أن رواد هذا المشروع كانوا يطمحون إلى “وجوب تعليم اللغة العربية لكل الأطفال المغاربة في كل المؤسسات التربوية” وكأن هناك مؤسسات تعليمية لا تستعمل العربية في برامجها التعليمية، علما أن كل المدارس والثانويات تعتمد اللغة العربية كلغة رسمية أولى، وهي في حاجة إلى تقنين اللغة العربية والبرامج التربوية والمناهج التعليمية والكتب المدرسية التي تنزف عنفا وهراء وعبثا بعقول التلاميذ الأبرياء، وتحرج المدرسين المرغمين على الالتزام بمحتوياتها، فهذا “المشروع” اقترح كذلك فتح شعب اختيارية معربة للتعليم العلمي والتقني والبيداغوجي، تمهد لتعريب جامعي شامل، يعني أنه في حاجة إلى فئة من الطلبة الجامعيين والأساتذة، كـ”فئران تجارب” لمشروعها الذي قد ينتهي به الأمر في القمامة، فتبخر المشروع وبرزت مكانه دعوة واضحة إلى فرنسة المواد العلمية داخل المؤسسات التعليمية.

عندما أقرأ الفصل الخامس من دستور 2011، الذي يؤكد أن “العربية تظل اللغة الرسمية للدولة، وأنه من واجب هذه الأخيرة العمل على حماية لغة الضاد وتطويرها، وتنمية استعمالها”، أجزم أن من يتولون زمام أمورنا، لا يقيمون اعتبارا لدستور البلاد، وأنهم يدبرون شؤون البلاد وفق قوانينهم الخاصة، وعندما أرى كيف أن هؤلاء (حكومة وبرلمان) يظهرون حبا وولعا مزيفين للغة العربية، بالدعوة إلى الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية (18 دجنبر)، أزداد تأكيدا أنه لا مستقبل للغة العربية في ظل تواجدهم في مناصب المسؤولية، فكيف يعقل أن ينتظر العرب موعدا حدده الغرب من أجل التحسيس والتوعية بضرورة الرقي بلغتهم العربية وتقديم المشاريع والمخططات والتصريحات الفضفاضة؟ يوم أقره المجلس الاستشاري لليونسكو لأول مرة سنة 2012، بطلب من السعودية والمغرب، الذي أقر سنة 1962 أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، وعاشت وتعيش مؤسساته التعليمية والتكوينية وإداراته العمومية والخاصة، تقتات من وجبات اللغة الفرنسية وروادها الفرنسيين الذين أفرجوا عن أرضنا واستمروا في احتلال عقولنا ومساراتنا.

فالجمعية العامة للأمم المتحدة هي التي تفضلت يوم 18 دجنبر 1973، وأنعمت على لغتنا بوسام “الرسمية” بإصدار القرار رقم 3190 الذي قضت بموجبه بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية، ولغات العمل داخل رفوفها ومكاتبها الأممية.. ألم نع بعد أن حضارات الشعوب ترتقي بارتقاء وسمو وطهارة لغاتها، وأن جسر التواصل الحقيقي، الذي بإمكانه تأمين تمرير كل العلوم والفنون والآداب والثقافات والحضارات، لن يتم باستعمال لهجات (الدارجة بالمغرب مثلا…)، تتغذى يوميا بكلمات وجمل ينفثها الشارع، ولن يتم باستعمال لغات أجنبية عن الشعوب، لأنه عند الترجمة تضيع الأفكار والمعاني؟

إنها فعلا مأساة تعيشها اللغة العربية مع اللغو العربي.

مأساة الثقافة مع المثقفين بالفطرة

    مشكلتنا مع أناس يدعون الثقافة والمعرفة في كل شيء، متشبعون بأنانية مفرطة إلى درجة أن بعضهم يرون في أنفسهم الكمال والسمو فوق كل العقول.. مشكلتنا مع كائنات بشرية نمت كالفطر، لا علاقة لها بالمواطنة والوطنية، يغردون خارج سرب الإنسانية وما يدور في فلكها من قيم وعلم وأخلاقيات تتميز بها عن باقي الكائنات الحية، هؤلاء الذين لا يتركون أي قضية أو موضوع إلا وحشروا أنوفهم في دواليبها، ناقشوا وحللوا وعلقوا وأفتوا في كيفية معالجتها، بل وطالبوا بفرض آرائهم الشخصية واختياراتهم، ورفضوا كل رأي معارض حتى ولو كان صاحبه هو الأحق والأجدر.. مواطنون عاديون يقضون أيامهم في التلويح بأقلامهم الحمراء هنا وهناك، يتباهون بنشر “غسيلهم المتسخ والمتعفن”، يرفضون الاعتراف بضعفهم وجهلهم وتطاولهم وأنانيتهم، ويرفضون التخلي على وسائلهم وآلياتهم البدائية، التي لن تجد لها موقعا في سجل تاريخ البلد ولا حتى في كتب الطرائف والسخرية، يصححون الصحيح، ويزعمون امتلاكهم للمعرفة والكفاءة أكثر من المهنيين ذوي التخصصات وحاملي الشواهد العليا والدبلومات، وأكثر من الباحثين والعلماء والفقهاء، هؤلاء الفاشلون دراسيا وتكوينيا، مرضى بداء الأنانية، فقط يسعون وراء الظهور والتموقع و”الزعامة”، ضمنهم منتخبون جاهلون يسطرون برامج ومخططات فاشلة، ويبرمجون مشاريع عشوائية غير قابلة للتطبيق دون أدنى استشارة من ذوي الاختصاصات بعيدا عما لديهم من موارد بشرية (مهندسين، تقنيين…)، يقررون على هواهم في كل عمليات تدبير الشأن المحلي، ولا يجدون حرجا في العمل حتى خارج إطار القانون تلبية لنزوات بعضهم، معتمدين على عمليات التصويت، وفرض قرارات الأغلبية وكأن المجالس المنتخبة دويلات مستقلة لها دساتيرها الخاصة، وضمنهم ممثلو قطاعات مهنية، يفرضون العمل بـ”العرف”، إما لأن بعض بنود القانون لا تخدم مصالحهم، أو لأنهم يجهلونها أصلا، ويخجلون من الكشف عنها لمن صوتوا عليهم، وهناك مسؤولون بقطاعات عمومية وخاصة، تولوا تلك المسؤوليات عن طريق الزبونية والمحسوبية، وبات لزاما عليهم الظهور بمظاهر العالمين القادرين على تدبير شؤون إداراتهم.

لقد بات لزاما الحد من سياسة الزعامة والتموقع السائد، وتزايد عدد المتدخلين والمستشارين الذين يحشرون أنوفهم في كل ما يجري ويدور بالبلاد، والبحث في هوية وماهية روادها المثقفين بالوراثة والفطرة، فلم يعد بإمكان الباحث في مجال التربية والتعليم، الغوص في عمق أسباب ومسببات الفشل الدراسي من أجل الاهتداء إلى العلل والمعيقات، ولم يعد مضطرا لتقييم نتائج الامتحانات الإشهادية، ولا البحث في الظواهر التربوية التي أفسدت التربية والتعليم، بعد أن تفشت داخل المؤسسات التعليمية، من غش وشغب وعنف انحراف وهدر مدرسي، لأن أخطار الأخطاء التربوية والتعليمية بارزة في كل مناحي الحياة، روادها هؤلاء المثقفين بالفطرة، الذين يؤكدون لنا يوميا أنهم من سلالة المتثقفين فطريا أو بالوراثة.

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى