خاص

بورتريه | رحيل المنقذ الدستوري للمملكة

يعد المستشار الملكي الراحل محمد المعتصم، من أبرز رجال الدولة و”المخزن” الذين نقشوا اسمهم في التاريخ الدستوري والذاكرة السياسية، إذ ظهر اسمه بشكل بارز خلال فترة الربيع العربي، والتي عرفت احتجاجات على الصعيد العربي والوطني للمطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية.

 

إعداد: خالد الغازي

 

    شكل الخطاب الملكي يوم 9 مارس 2011، نقطة ضوء جديدة بالمملكة، عبر فتح المجال أمام إجراء تعديلات دستورية بالتشاور مع جميع المكونات في المجتمع المغربي، أحزاب وهيئات نقابية، وجمعيات ومنظمات حقوقية وشبابية، وتم تكليف الفقيه الدستوري الراحل محمد المعتصم، من طرف الملك محمد السادس لترأس اللجنة الدستورية المكلفة بمهمة إجراء هذه المشاورات واللقاءات مع مختلف الفاعلين.

وقد قرر الملك محمد السادس إحداث آلية سياسية للتتبع والتشاور وتبادل الرأي حول مراجعة الدستور، أسندت رئاستها للمستشار الملكي والفقيه الدستوري، الراحل محمد معتصم، الذي أشرف على إجراء المقابلات واللقاءات مع مختلف الفاعلين في المجتمع المغربي، إلى جانب تكليفه بمهمة تنسيق العمل مع اللجنة المكلفة بإعداد الدستور الجديد، حيث ضمت الآلية السياسية بالخصوص رؤساء الهيئات السياسية والنقابية، وتمثلت مهمتها في ضمان التتبع والتشاور وتبادل الرأي حول المراجعة المقترحة للدستور.

وبالرغم من الدور الذي لعبه محمد المعتصم في مرحلة مهمة من تاريخ المملكة، تتمثل في الإصلاح الدستوري وتجنب مرحلة الربيع العربي، التي شكلت محطة سياسية واجتماعية مهمة في تاريخ المغرب منذ الاستقلال، فقد كانت مسؤولية المستشار الملكي محمد المعتصم كبيرة، نظرا للضغط الذي مارسه الشارع وحركة 20 فبراير، والهيئات والمنظمات، وصعوبة التقريب بين مختلف الآراء ووجهات النظر المختلفة بين الفرقاء السياسيين والحقوقيين والمدنيين، قصد الوصول إلى دستور يستجيب لتطلعات جميع مكونات الشعب المغربي وفق ثوابت المملكة، مع تطوير العملية الديمقراطية وتعزيز صلاحيات الحكومة والبرلمان، حيث تمكن الرجل، بالرغم من الانتقادات التي وجهت إليه من قبل البعض، من التوفيق والنجاح في مهمته بعدما استمع وجلس مع العديد من الهيئات والمكونات، ورحب بجميع المذكرات والمقترحات، قبل عرض مقتضيات الدستور الجديد.

ومن هذا الموقع، كانت له جلسات مطولة مع قادة الأحزاب السياسية لمناقشة تصوراتها ومقترحاتها لتعديل الدستور عقب أحداث الربيع العربي، وأنيطت به مهمة تلاوة تعديلات الدستور المتوافق عليها أمام شاشة التلفزة، لكن منذ صدور الدستور والتصويت عليه في استفتاء يوليوز 2011، اختفى المعتصم عن الأنظار بعدما كان رجل المرحلة السياسية، ولم يعد له ظهور في الساحة الوطنية والسياسية لأسباب غير معروفة، إلا أن هناك من يقول بأن مهندس دستور 2011 تعرض لضغوطات من جهات ما كانت غير راضية على طريقة تدبيره للمشاورات السياسية وتحضير الوثيقة الدستورية، وبين من يقول أن الرجل أصيب بوعكة صحية ومرض اضطر على إثره الابتعاد عن الساحة السياسية والإعلامية.

وقد تولى محمد معتصم منصب مستشار الملك في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وكان له دور كبير في بداية العهد الجديد وخلال مرحلة حكومة التناوب، وهو أستاذ جامعي بكليتي الحقوق في الدار البيضاء والرباط متخصص في القانون الدستوري، وهو مؤسس الجمعية المغربية للعلاقات الدولية، إلى جانب ذلك، كان الراحل مكلفا بملف العدل وقضايا الجالية المغربية بالخارج، ومختصا في كتابة الخطب الملكية، وكان له دور في كتابة الخطاب الملكي في نونبر 2005، الذي خصصه الملك محمد السادس لحقوق الجالية ومشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاستثمارية، إذ تم بعد ذلك إحداث المجلس الاستشاري للجالية.

وولد محمد المعتصم سنة 1956 بمدينة سطات، وتابع دراسته الابتدائية والثانوية في مسقط رأسه، وفي سنة 1977، حصل على الإجازة في العلوم السياسية من كلية الحقوق بالرباط، كما حصل على شهادتين للدراسات العليا من نفس الكلية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وفي سنة 1983، حصل على دبلوم الدراسات العليا من كلية الحقوق بالدار البيضاء، كما ناقش أطروحته لنيل دكتوراه الدولة في العلوم السياسية عام 1988 حول موضوع: “التطور التقليداني للقانون الدستوري المغربي”، ليصبح المعتصم مرجعا في الفقه الدستوري المغربي وبصفته الأكاديمية.

وتمكن ابن سطات من استقطاب الأنظار، ليدخل عالم السياسة، حيث أصبح وزيرا قبل أن يعين مستشارا ملكيا.. فقد عين وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول مكلفا بالعلاقات مع البرلمان في الحكومتين اللتين شكلتا في 11 نونبر 1993 برئاسة الوزير الأول عبد الكريم العمراني و7 يونيو 1994 برئاسة عبد اللطيف الفيلالي، كما عين في 25 فبراير 1995 مكلفا بمهمة في الديوان الملكي ونال وسام العرش من درجة فارس، ثم عين مستشارا ملكيا سنة 1999.

ورغم أن وظيفته بالديوان الملكي هي التي عرفته للمتابعين للشأن السياسي المغربي، إلا أن الرجل تولى حقائب وزارية في حكومات سابقة واشتهر على المستوى الأكاديمي بالتنظير القانوني، كما يملك عضوية في كل من المجلس الدستوري ما بين عامي 1999 و2002 والمجلس الوطني لحقوق الإنسان ما بين 2007 و2011.

وقد صدرت للمعتصم عدة مقالات مرجعية في القانون الدستوري ومؤلفات مختلفة في العلوم السياسية، من بينها “النظام السياسي المغربي”، “الحياة السياسية المغربية: 1962-1992″، “النظرية العامة للقانون الدستوري”، “الأنظمة السياسية المعاصرة”، و”التجربة البرلمانية في المغرب”، كما له دراسات ومقالات في مجال القانون العام والعلوم السياسية نشرت في مجلات ومنشورات علمية وأكاديمية متخصصة.

وحسب الكاتب الباحث في العلوم السياسية، مصطفى عنترة، فإن “كفاءة محمد المعتصم ومؤهلاته الفكرية والأكاديمية، كانت وراء دخوله للقصر، خاصة وأن أطروحته الجامعية حول التقليدانية الدستورية تعد مرجعا أساسيا لكل باحث ودارس في القانون الدستوري وعلم السياسة”، مضيفا أنه “إذا كان ثمة شيء فرض تعيينه في المناصب التي تقلدها وتقلب فيها، فبفضل حنكته وكفاءته العالية، ذلك أن الملك الراحل اتسم في سنوات التسعينات من القرن الماضي، ببحثه عن أطر ذات جدارة علمية لا عن أطر ذات حسب ونسب.. فكان موضوعيا أن يجد ابن سطات لنفسه مكانا يملئه من الأماكن التي ظلت فارغة بعد أن غاب أصحابها الذين كانوا بمثابة وجوه بارزة في الدائرة الملكية، أمثال السلاوي، اكديرة، وعباس القيسي، وغيرهم..”.

وأشاد الملك محمد السادس في برقية تعزية لأسرة المرحوم محمد معتصم، بمساره الوطني، قائلا: ((بكل تقدير وإجلال، ما كان يتحلى به الراحل الكبير من حميد الخصال، ومن غيرة وطنية مشهود بها، وسعة أفق فكرية وأكاديمية رفيعة، وحنكة سياسية ودستورية بالغة، جسدها في مختلف المناصب السامية التي تقلدها بكل كفاية واقتدار، وولاء لعرشنا وثوابتنا الخالدة، سواء في عهد والدنا المنعم الملك الحسن الثاني، أو كمستشار مخلص))، مضيفا أن رحيل المعتصم ((خسارة لوطنه الذي فقد برحيله أحد خدامه الكبار الأوفياء الذي سخر حياته لخدمته بكل تفان ونكران ذات في تعلق متين بأهداب العرش العلوي المجيد، وتشبث مكين بثوابت الأمة ومقدساتها)).

وحسب متتبعين للشأن السياسي المغربي، فقد فقدت الدولة أحد خدامها الأوفياء الكبار ومهندس دستور 2011، الذي تسلق مراتب المسؤوليات بشكل تدريجي منذ أن عين كأصغر وزير عن سن 38 سنة في عهد حكومة العمراني، وترك بصمته في الساحة السياسية الوطنية بشهادة جميع الأحزاب السياسية والنقابات وهيئات المجتمع المدني، وقد كان له دور أساسي في صياغة دستور 2011 الذي شكل نقلة نوعية في التاريخ الدستوري بالمملكة، بحيث حمل الدستور الجديد للمملكة تحولا نوعيا في اختصاصات رئيس الحكومة، وهي التسمية التي حلت محل الوزير الأول بمقتضى هذا الدستور.

الجميع يتفق أن المستشار الملكي الفقيد محمد المعتصم، يظل من خيرة رجال الدولة، بفضل حنكته وكفاءته ومقاربته السياسية والدستورية لأهم مرحلة تاريخية في المملكة، والتي نجح فيها وساهم فيها في إعداد دستور مثالي ومتطور، شكل مرحلة انتقالية مهمة للمشهد السياسي المغربي، حيث يقول المعتصم في مقال بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” (عدد 14 فبراير 1992): ((لا يقنن إلا مجال الملكية الدستورية بالمغرب، حيث يتواجد ملك دستوري وحكومة وبرلمان وفاعلون سياسيون، من أحزاب ونقابات وجمعيات، أما مجال الإرث التاريخي المختصر في الفصل 19 بما يحيل على مشروعية دينية، إمارة المؤمنين، وتمثيل أسمى للأمة وصلاحيات ملكية ثلاثية دينية وسياسية وطنية، فإنه يخضع للقواعد المكتوبة وغير المدونة لأحد عشر قرنا من الممارسة السلطانية للحكم)).

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى