تحت الأضواء | بنبركة اقترح الانقلاب على محمد الخامس و”بنحمو” رفض طاعة أوفقير
المقاوم عبد الرحيم الورديغي في مذكرات صادمة:
الرباط. الأسبوع
كنت طالبا وعمري 17 سنة بثانوية مولاي يوسف بالرباط سنة 1954، وكنت أتعاطى خفية إلى المقاومة المسلحة بالرباط، ولم أمس بضرر من قبل الشرطة الفرنسية، لكن رفقائي، منهم من مات في ساحة الوغى ومنهم من هرب إلى الريف للانخراط في جيش التحرير آنذاك، الذي كان يقوده المسمى ندير أبوزار المكنى بعبد القادر، لكن عندما لجأت قيادته إلى دار عمي المرحوم الحاج مصطفى الورديغي، بحي العكاري، لفتح مفاوضات سياسية سرية ما بين ندير أبوزار بالخصوص، والاستقلالي المهدي بنبركة، الغاية منها تأسيس جيش وطني في المغرب، وذلك بعجالة نظرا لوجود الجيش الفرنسي في كل ثكنات المغرب، فاقترح الاستقلالي المهدي بنبركة (الذي أصبح رئيس مجلس استشاري) على ندير أبوزار، إزاحة السلطان محمد بن يوسف عاجلا من عرشه ثم إنشاء جيش شعبي على شاكلة الدول الاشتراكية، لكن أثناء عشاء في منزل دار عمي، صاح ندير أبوزار بملء فمه على بنبركة، بأنه لا يتقاسم أفكار المهدي بنبركة، فخرج هذا الأخير غاضبا ثم عول حالا على تصفية دموية لندير أبوزار عن طريق زميله المقاوم محمد البصري المكنى بالفقيه.
سمع أبوزار بتهديد بنبركة، فهرب هو ورفقاؤه إلى والماس بعمالة الخميسات، حيث كان هناك ثلة من المحاربين في جيش التحرير كان يرأسهم المرحوم بلميلودي، فأخبره بالأمر، فجمع حالا كل رؤساء جيش التحرير وأخبرهم بالموضوع، وكنت شخصيا قد رافقته من الرباط إلى زمور، وهو في حالة غضب شديد وذعر من القرار الخطير للمهدي بنبركة الذي كان رئيس مجلس استشاري، شبه برلمان معين لا منتخب وأغلبيته استقلالية.
وفي خضم هذه الاتصالات، تعرفت من بين القادة بزمور، على شخص شجاع اسمه محمد بنحمو أيت سعيد، من قبيلة آيت أورير، فهذا المغربي الشجاع كان “أجودان” سابق بالجيش الفرنسي، رفض بنحمو كليا أن يندمج في الجيش الملكي المغربي (كونه بسرعة ولي العهد الحسن الثاني بإعانة فرنسا)، وطلب مني مساعدته بالخرائط والوثائق، وأن أساعده ليتم تحرير المغرب، بإرجاع الصحراء الغربية التي احتلتها إسبانيا، معتبرا أن مهمته التحريرية لم تكتمل، فلما حضر لدرب بالخميسات ثلة من الزموريين (قوامهم 200 فرد)، قبلت أن أذهب معه في اتجاه كولمين الجنوبية، فالتقى خفية (حسب ما ذكر لي) مع السلطان محمد الخامس، الذي وافق على ذهابه عاجلا ليحرر الصحراء وموريتانيا من مخالب فرنسا وإسبانيا.
ذهبت صباحا في شاحنة عسكرية رفقة السي بنحمو في اتجاه كولمين ونحن مسلحين برشاشات من نوع أمريكي، وتتبعنا شاحنات أخرى، قضينا زهاء اثنتى عشر ساعة للوصول إلى ثكنة صغيرة بكولمين، وفي الغد، اجتمعنا زهاء عشرة أفراد، وضعت لهم نسخا من خرائط جنوب المغرب اقتنيتها من المعهد الجغرافي، وقررنا الهجوم ليلا على قرية العيون وعلى ثكنتها، وفي صباح باكر على الساعة السادسة، دخلنا الثكنة التي كان يوجد بها خمسون جنديا إسبانيا، وكان مسؤولا عنهم إسباني من درجة عقيد يعرف باسم أنطونيو، أراد توا مقابلتنا، فدخلت أنا وبنحمو إلى بيته العتيق، فأراد أنطونيو أن يضع لنا قهوة فرفضناها، وذكر لنا وهو يرتجف شيئا منا، بأنه سيرينا مراسلات إدارية بالإسبانية، رسائل موجهة شخصيا إلى رئيس الحكومة الإسبانية بنفسه، العسكري فرانشيسكو فرانكو، القائم بمدريد، يسير شبه حكومة عسكرية بعد انقلابه على القوات الشيوعية والاشتراكية، كل الرسائل تتحدث بإسهاب عن تاريخ تسليم كل الصحراء إلى حكومة جلالة الملك محمد الخامس بعد التوقيع على استقلال المغرب، وذكر بأنه لم يتوصل بأي جواب إيجابي من فرانكو.
ففي يوم اللقاء مع العقيد الإسباني، ورد علينا قرابة مائة شيخ مصحوب بعضهم بأبنائهم للتجنيد معنا، كانوا يصيحون طول النهار بأعلى صوتهم: “يحيا الملك” وهم يحملون الرايات المغربية، رحب بهم جيشنا الصغير الذي ما فتئ ينمو كل يوم بالانخراطات، فأخذنا طرفا من الأسلحة الإسبانية، ثم قررنا أن نتوجه في الأسبوع إلى موريتانيا على ظهر الجمال، على شكل قوافل صغيرة لئلا تثير انتباه الفرنسيين، ومعلوم أن الطريق ما بين العيون وأطار الموريتانية تحسب لها 1150 كيلومترا، كانت تسمى طريق “الأمل” مارة من صوب موريتانيا إلى مدينة أطار، قضينا مدة أسبوع للوصول إليها، فالتقى بنا شيوخها حاملين صور الملك محمد الخامس والأعلام المغربية، وكذلك صورة أمير الترارزة فال ولد عمير، المعين من السلاطين العلويين، لكن عند رجوعنا، طاردتنا طائرات فرنسية عديدة، خرجت من القرب من أطار وبإيعاز من الديكتاتور الإسباني فرانشيسكو فرانكو، قتلت وجرحت عددا هاما من جنودنا، فاختفينا أياما وأسابيع في اتجاه طريق الحدود المغربية إلى أن وصلنا بصعوبة إلى مدينة كولمين، وبها رحب بنا الجيش المغربي ووضع رهن إشارة رئيسنا، العقيد بنحمو أيت سعيد حيث ذهب يوما إلى قصر السلطان محمد الخامس واستقبله، وحسب ما ذكر لي بنحمو، فإنه أمر بإرجاع جيشه للانخراط في الجيش الملكي، قائلا له بأنه سيقوم بمبادرة مفاوضات مع مدريد التي تحالفت مع فرنسا الاستعمارية، فقبل بنحمو وطلب انخراط جيشه في الجيش الملكي، باستثناء هو وأنا، فبنحمو طلب مساعدة مالية محدودة في منحه رخصة نقل كبير، فكان له النصيب المستحق، أما أنا، فطلبت الالتحاق بالمدرسة الإدارية المغربية، ووعد محمد الخامس بنحمو بأنه سيسلمه درجة عقيد بالجيش الملكي، لكنه رفض، وقال بأنه لا يستطيع طاعة ضباط فرنسا وعلى رأسهم العقيد محمد أوفقير، واقتنع برخصة للنقل ليعيش بها، أما أنا، فقد ولجت المدرسة الوطنية الإدارية وقضيت فيها 3 سنوات مقابل منحة شهرية قدرها 300 درهم، فتخرجت منها بدرجة متصرف عينت بها قائدا ممتازا بوزارة الداخلية وألحقت بمدينة بركان، التي كانت فيها اضطرابات سياسية بين الحركة الشعبية وحزب الاستقلال، وتوفقت في إخمادها بتنظيم انتخابات، وسر على ذلك المنوال.
لما خرجت المسيرة الخضراء سنة 1975، نودي على محمد بنحمو من البيضاء ليذهب إلى الصحراء فيلتقي بشيوخ أهل الصحراء، لكن صوابه خذل، عندما وجد من مات ومن عاش بعضهم، وذهب أولادهم بالخيبة للالتحاق بجيش البوليساريو وعلى رأسهم الوالي محمد ابن الشيخ، كان في جيش تحريرنا، وذكر لي بنحمو أن المغرب سيخوض معركة طويلة من أجل الصحراء، وكان على صواب، فتوفى سنة 2010 بالدار البيضاء ولم يهتم به أحد كما لا يهتم أحد بشخصي إلى كتابة هذه السطور.