للنقاش | الذكاء الاصطناعي في مواجهة خوارزميات العقل الإنساني


يشهد العالم في الآونة الأخيرة ذهولا على إثر الانعطاف الحاد الذي عرفه مسار التحول الرقمي نحو الذكاء الاصطناعي، كان من آخر مؤشراته نظام ChatGpt الذي أطلقته شركة OpenAI الأمريكية في شهر نونبر 2022، ونظام Ernie Bot التابع لشركة Baidu الصينية، التي أعلنت عن إطلاقه في الشهور القادمة من سنة 2023، بالإضافة إلى أنظمة أخرى شبيهة.. انعطاف مُتسم بتنافسية ووتيرة سريعة بين الشركات الرائدة في المجال الرقمي وكأن الأمر متعلق بسباق التسلح بقوى ناعمة لكسب رهان قيادة مسار الذكاء الاصطناعي.
فالذكاء الاصطناعي على الرغم من كونه مفهوما واسعا، إلا أنه يمكن تبسيطه باعتباره مجموعة من المحاولات تسعى لاستنساخ نظام الذكاء البشري باستخدام علوم الحاسوب مع الاستناد على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذلك بصناعة أجهزة إلكترونية وربوتات تشتغل بأنظمة وبرامج معلوماتية من المفترض أن تكون لخدمة الإنسان في جميع مناحي حياته، مثلا نظامChatGpt ، ليس هو المنتوج الأول في الذكاء الاصطناعي، فقد سبقته، ومنذ سنوات، أنظمة أخرى كنظام Ernie Bot وغيرها، فهو يعتمد (ChatGpt) في برمجته على خوارزميات التعلم الألي – خوارزميات اشتغلت عليها ولسنوات عدة مراكز علمية بحثية دولية، ومنها مراكز متعددة الجنسيات لاستخدامها في حلول معلوماتية مختلفة كأتمتة عمليات الترجمة – لتمكين الحاسوب من تخزين القواعد وأنماط البيانات المدخلة له بشكل يشبه الطريقة التي يتعلم بها الإنسان، كخوارزمية الشبكات العصبية التي تُستخدم للتعرف على الصور والكلام والنصوص وتعتمد على محاكاة الطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري، وخوارزمية الصنف الأقرب، تُستخدم لتصنيف البيانات الجديدة بناء على أقرب البيانات المتاحة في المجموعة المدربة، بالإضافة إلى خوارزميات أخرى، وخلال برمجةChatGpt ، يخضع لعدة تجارب واحتمالات، بإدخال كم هائل من المعطيات وتدريب شبكاته العصبية الاصطناعية على تركيب الكلمات وإعدادها كأجوبة لمختلف الأسئلة التي يتم تدريبه عليها، وبالتالي، فخوارزميات البرمجة وإدخال المعطيات والتدريب والمحاكاة.. كلها عمليات بشرية، فما ينتجه نظام ChatGpt وغيره من حلول الذكاء الاصطناعي، هي بفعل ذكاء وجهد إنساني.
إن المستوى الذي وصل إليه اليوم الذكاء الاصطناعي بتقنياته وأدواته التوليدية (generative)، خلق العديد من التفاعلات المتسمة بالإعجاب والتردد والقلق، وكذلك باستيعاب استحالة الرجوع لما قبل الذكاء الاصطناعي، فكل من إيلون ماسك رئيس شركة “تويتر” ومارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا” قررا المواكبة بصناعة نظام شبيه لنظام ChatGpt تابع لشركتيهما، وبيل غيتس مؤسس “مايكروسفت”، قال بأنه في حياته رأى عرضين للتكنولوجيا يعتقد أنهما رائدين، كانت المرة الأولى في عام 1980 عندما تعرف على واجهة مستخدم رسومية، وأنه جاءت المفاجأة الكبيرة الثانية العام الماضي، يقصد سنة 2022، سنة إصدار ChatGpt، مضيفا أن هذا الأخير قادر على تغيير العالم.
كما تفاعلت دول عديدة وبقرارات مختلفة، فقد أصدرت هيئة مراقبة حماية البيانات الإيطالية قرار حظر نظام ChatGpt نهاية شهر مارس والتوقف عن معالجة بيانات سكان إيطاليا بدعوى انتهاك لائحة حماية البيانات العامة للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي استجابت له شركةOpenAI على تراب إيطاليا، ووضعت هيئة المراقبة فيما بعد شروطا أمام شركة “أوبن إيه آي” من أجل رفع ذلك الحظر، وفي البيت الأبيض اجتمع الرئيس الأمريكي جو بايدن ونائبته كامالا هاريس، يوم 5 ماي 2023، مع رؤساء “غوغل” و”مايكروسوفت” وOpenAI لمناقشة “المخاطر الحالية وقريبة المدى المتعلقة بتطورات الذكاء الاصطناعي، وكيفية التخفيف منها، وطرق العمل معا لضمان استفادة الشعب الأمريكي من هذه التطورات مع حمايته من الأذى، كذلك اتفق الوزراء المعنيون بالرقمنة لمجموعة السبع في 30 أبريل 2023، على الاستخدام السليم للذكاء الاصطناعي وفق المبادئ الخمسة التالية: قواعد القانون، المعالجة المناسبة، الامتثال لمعايير الديمقراطية، احترام حقوق الإنسان، واستخدام قدرات الذكاء الاصطناعي للابتكار.
قُدرت أنظمة الذكاء الاصطناعي للقيام بأنشطة تعتبر من الأنشطة الاعتيادية للبشر، مما أدى إلى بعث قلق مشروع عن مستقبل بعض المهن وعن بعض الشعب التكوينية ومآل مناصب سوق الشغل التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشغلها، هذا القلق يجب أن يواجه بواقعية، لأنه من الأجدر أن لا يستمر الإنسان بوظائف روتينية ومتكررة كالإجابة عن أسئلة تكاد تكون نفسها طيلة اليوم بمراكز النداء، أو أن يقوم بأعمال شاقة تضر بصحته وغيرها، وأن يتوجه إلى دراسات جامعية وشعب تكوينية مهنية وإلى حرف وأعمال تجيب عن الحاجيات الجديدة لسوق الشغل وتتناسب مع متطلبات العصر، فخلال مختلف الطفرات الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية، خصوصا مع الثورة الزراعية والصناعية، كان سؤال العمل وأدواته مطروحا، حيث اختفت مهن وظهرت أخرى، وبالطبع أثّر على ما ينبغي تعلمه من مهارات وحرف، إلا أن هذا الأمر في عصر الذكاء الاصطناعي يتم بسرعة وعلى نطاق جغرافي موسع، مما يقترح مواجهته برصد للواقع وتنسيق مسبق ومواكبة سريعة لتحقيق التكامل بين خدمات الإنسان وخدمات الذكاء الاصطناعي التي من المفترض أنها صنعت لخدمة ودعم الإنسان نفسه.
وتبعا لكل هذه المعطيات والحقائق، فقد ولى زمن التحول الرقمي وأصبحنا نعيش اليوم في بيئة الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يحتم بناء مجتمع قادر على التأقلم مع مناخ هذه البيئة والتفاعل الإيجابي معها، فمن بين الأساسيات لذلك، بناء إنسان بعقلية رقمية قادر على تقدير ذكائه أمام الذكاء الاصطناعي، الذي هو نتاج برمجة وتدريب صنعته مجموعة من العقول البشرية متعددة الاختصاصات والجنسيات واللغات، ومن مرجعيات فكرية مختلفة، وبعقلية رقمية يستحضر في تفاعله الأبعاد القيمية والقانونية والخوارزمية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، المساهم في تطوير الذكاء الاصطناعي وواع باستثمار قيمه المضافة وناقد لسلبياته.
ومن الأساسيات كذلك، حماية الدول لمجتمعاتها من مخاطر الذكاء الاصطناعي بتشريعات ملائمة تضمن لهم حق الاستعمال الآمن والعادل والسليم لهذه الأنظمة الذكية، بالإضافة الى أساسية أخرى، تتجلى في أهمية إنشاء مراكز البحث العلمي والابتكار لمواكبة التطور السريع للذكاء الاصطناعي لرصد وتحليل أثاره الإيجابية والسلبية في جميع مناحي حياة المواطنين مع تقديم حلول مبتكرة لتحقيق التنمية المستدامة.