“لا إكراه في الدين” بين سوء الفهم والتأويل
بقلم.ادريس أبايا
كان من الأفيد أن أتناول بعض الملاحظات التي ألاحظها وأنا أستمع إلى إحدى القنوات الفضائية “نسمة” التونسية في إحدى الندوات التي تبثها في تأويل بعض الآيات القرآنية منها قوله تعالى꞉ “لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي” (البقرة، الآية: 256)، وممن شارك في هذه الندوة أحد العلماء من حفدة الراحل الطاهر بن عاشور الذي له تفسير في القرآن الكريم بعنوان: “التحرير والتنوير” والعلامة الطاهر بن عاشور غني عن التعريف بما له من دراسات ومحاضرات ومساهمات في الدروس الرمضانية التي كان يترأسها الملك الحسن الثاني رحمه الله، كما للطاهر بن عاشور تحقيق لديوان بشار بن برد في جزأين. وتفسيره المشار إليه من أهم التفاسير الحديثة التي جمعت بين اجتهاد المفسر ومقارنة ما كتبه وبما قد وجد في التفاسير القرآنية لابن كثير والجامع لإحكام القرآن للقرطبي، وتفسير النسائي، بالإضافة إلى ما انفرد به تفسير “التحرير والتنوير” من اجتهادات تخص بن عاشور كقوله في الآية: “لا إكراه في الدين” من أنها آية محكمة ولا نسخ فيها، بل هي ناسخة!!
ومن خلال ما وجدته في شرح الآية سَأُبَيِّنُ أن المفسر ابن عاشور في “التحرير والتنوير” نهج منهجا خالف فيه حتى كبار المفسرين للقرآن، مما جعل الذين يرجحون فقط مسوغات حرية “الاعتقاد الديني” من خلال المنطوق القرآني “لا إكراه في الدين”، يقول ابن كثير في قوله تعالى: “لا إكراه في الدين” أي لا تكرهوا أحد على الدخول في الدين الإسلامي فإنه بين واضح جلي، دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا، كما نجد للإمام الطبري تعريفا للآية بقوله꞉ الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله: “قد تبين الرشد من الغي” والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغيرهما ليس هذا موضعه، وإنما يجيء في تفسير قوله꞉ “إلا ما أكره” ومما رواه الإمام النسائي في تفسيره لهذه الآية قوله꞉ “كانت المرأة من الأنصار لا يكون لها ولد فتجعل على نفسها لئن كان لها ولد تهوده (أي تجعله يهوديا)، فلما أسلمت الأنصار قالوا꞉ كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية “لا إكراه في الدين” كما روى الإمام النسائي في الموضوع حديثا عن محمد بن بشار، عن ابن أبي عدي عن شعبة… قال: “كانت المرأة تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا꞉ لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”.
من خلال ما سردناه لا نلاحظ ما قاله حفيد بن عاشور أن الآية محكمة أو غير منسوخة، فمسألة النسخ لا يمكن الحكم عليها بمجرد عدم ذكرها بالنص وعمن يهتم بـ”الناسخ والمنسوخ” من المؤلفين في هذا الموضوع، فابن كثير يشير في تفسيره إلى أن الآية منسوخة، يقول ابن كثير: “بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام، فإن أبى أحد منهم الدخول ولم ينقد له أو يبذل الجزية قوتل حتى يقتل، وهذا معنى “لا إكراه”، قال الله تعالى: “ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون”، وقال تعالى: “يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم”، وقال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين”.
ومن المعلوم أن من سماحة الإسلام في مواجهة الكفار أنه لا يباغتهم في حربهم، بمعنى أن صحابة رسول الله والمبعوثين إلى الكفار يعرضون عليهم الدخول في دين الله، حتى إذا أبوا ذلك أعطوا الجزية – إن كانوا يتبعون دينا سماويا – بعد ذلك، وبعد أداء الجزية يصبحون هم وعيالهم وأولادهم في ذمة المسلمين ممن سيحاربهم من عبدة النار وغيرها من المخلوقات البشرية أو الحيوانية أو الطبيعية… إن حرية العقيدة أو الاعتقاد بالنسبة للكتابيين محمية من طرف الإسلام والمسلمين في الوقت الذي كان فيه الإسلام الحاكم بأمر الله في العصور الماضية قبل اضمحلال المسلمين وانفلات كل أسباب الحماية من أنفسهم ولغيرهم، وكذلك بما هيأه أعداء الإسلام من أسباب الغلبة وبما توفر لديهم من الأسلحة والتقنيات المستعملة في الفضاء والجو والبحار، بالإضافة إلى ما عرفته صفوف الإسلام والمسلمين من تمزق في وحدتهم وتشتت لشملهم.