الحـقــيقة الضــــائعة | الاحتفال بالذكرى المئوية لانطلاق الكونطرباند بالمغرب
يضيق صدري، ولا ينطق لساني، بل ويكاد يجف قلمي، كلما وصلت في كتاباتي إلى مواضيع تثير حساسيات.. أو أفكارا لا أعتقد أننا في المغرب أدركنا – بعد – مستوى طرحها.. نظرا لتعقيدات وتشعبات، تزيد من ضخاماتها هاته الفوضى العارمة، الضاربة عندنا، أطنابها، في كل حدب وصوب.
ولكن.. أليس من الإجرام في حق هذا الوطن، ترك الحبل على الغارب(…) وإغماض العين، مثلما هم مجرمون أولئك الذين يقولون بأن الدنيا بخير.. وأن الأزمة إنما هي في بعض العقول؟ بينما قرأنا مؤخرا تجهيز المخابرات بوسائل متطورة، للتصنت على كل المعارضين.
إن كل خلل في أي ميزان من الموازين(…)، سواء كان ميزان بائع الطماطم أو ميزان القوى، أو ميزان العقل، أو ميزان الجبن في حكاية الكاتب لافونطين، إنما يؤدي – ذلك الخلل – إلى السقوط(…)، ومادامت الهاويات كثيرة متعددة، كلها محاطة بأسيجة من النباتات التي قوتها مظاهر الخيرات المادية والمعنوية وجعلت الأحشاش الخضراء تحجب عن أعيننا كل الحافات(…) والهاويات، وكنا دائما نعتقد بأن تدوير الحركة(…) سيجلب معه الخيرات وسيسترد حماس البحث الجاد عن حل لأزمة المغرب، فها نحن نسمع أصداء الإنهاك الذي أصاب النوايا التي كانت هلوعة خائفة مما جاء في التقارير الدولية، وما اكتشفه الوزراء الأقوياء(…) في الحكومة الإسلامية لبن كيران من أسرار وأخبار، عن الأزمة التي قيل لبعض الناس إنها تقض مضاجع الكثير من الناس، وتجعلهم كالمفجوعين يخافون إغماض العين خوفا مما قد يقع في طرفة عين(…) أو أقل من ذلك(…)، فتأتي، ولا أقصد أفتاتي(..) وعود ننشغل بها مؤقتا، ثم يذهبون هم في سبات عميق.
وها هي الدعوة إلى الترخيص وتقنين الحشيش تحضر وتمهد للترخيص والاعتراف، بما هو أخطر من الحشيش، الذي كان منذ مائة سنة في المغرب يعرف بالكونطرباند.
الكونطرباند، الذي كان ليلة دخول الاستعمار للمغرب، هو السوسة التي نخرت عظام المغرب.
وقد تتبعت الصحف عندنا(…) متابعات المهربين، أو جزءا من المهربين، أو من أريد لهم أن يقدموا للرأي العام، نيابة عن المهربين، لتقض مضاجع فئة أخرى من النائمين، الذين صحوا على فكرة التغلب على التهريب بالسماح لجميع المغاربة أن يصبحوا مهربين “يشوفون الربيع(…)، ولا يشوفون الحافة” ليقربون رغم تباعدهم، وبعدهم، عن الاهتمامات الوطنية الكبرى، مادامت اهتماماتهم كلها، هي الفلوس، هم الذين ابتدعوا فتح الخزائن بالفلوس، واختراق الحدود بالفلوس، وخرق القانون بالفلوس، والذين سيقفون أمام المحاكم زيازين مقفولي الأفواه.. غير مفصحين عن شركائهم.. لأنهم هم ايضا سيقنعون بالوعود المبلغة إلى بعضهم عبر بعض المحامين، الذين كثيرا ما يكون بينهم شركاء، ليفلتوا.. وما اقوى الإحساس بالرغبة في الإفلات، عندما يكون الإنسان مورطا.. لأن الكونطرباند لا يستهدف إلا جمع الأموال، مثلما لتجار الحشيش ملايير في الأبناك الأروبية والأمريكية الجنوبية، وهم يضحكون عندما يسمعون وزير المالية، ينصحهم بإدخال أموالهم للمغرب.
طبعا وكما كل الطرق تؤدي إلى روما، فإن أخطر أنواع الفساد هو عندما تشيع لهفة كسب المال سواء بالحشيش أو الكونطرباند أو بأية طريقة أخرى، وتتحول إلى برامج حزبية، تقدم إلى البرلمان، بصيغة “إن الحشيش يسهم في تنمية الاقتصاد”.
يحكى أنه في سنة 1902، عندما كان الثائر بوحمارة، يصول ويجول في أطراف المغرب، ويتحالف مع القوات الأجنبية، كانت جيوش السلطان مولاي عبد العزيز تحاربه.. والدولة تضع كل إمكانياتها رهن إشارة الجيش لضرب الروكي بوحمارة، وكان قائد الجيش المحارب لبوحمارة، رجل حازم يسمى العمراني عبد السلام، يقول المؤرخون عنه أنه كان ابن عم السلطان، وكان يكلف بشؤون السياسة والمال، أخاه محمد العمراني، على وزن محمد كريم العمراني، ودائما الفلوس.
وفي أعقاب إحدى المعارك، وكان القائد العسكري العمراني – ولاشك أنه لم تكن له ناقة في الحرب ولا جمل – جالسا في خيمته عندما هاجمته فلول قطاع الطرق التابعون لبوحمارة.. ودخلوا عليه خيمته وأحرقوها فأفلت القايد العمراني بجلده وهرب.
وقد التقى في هروبه عندما رجع لبر الأمان ببعض الصحفيين، الذين نقلوا عنه تصريحاته، وكتبوها ولازالت مكتوبة إلى الآن.
كان قايد الجيش عبد السلام العمراني متحدثا عن الهزيمة، ولكنه لم يتحدث عن الخيمة التي دخلوا عليه فيها، ولا عن الضحايا من جنده الذين قتلوا أو جرحوا.. وإنما قال للصحفيين الذين كتبوا أنه كان يبكي: ((شيئان اثنان لم أصبر على فراقهما: كيس الفلوس، وعلبة فيها أدوية للهضم(…) أعطاها لي الدكتور الفرنسي فيردون)).
الفلوس إذن.. هي كل شيء..
فبالفلوس بيعت حدود المغرب ذات زمن من الأزمان، وبالفلوس أفلست كثير من مؤسسات الدولة في الحاضر من هذا الزمان.
وقبل مولاي عبد العزيز، وفي أيام العز والمجد، أيام السلطان الحسن الأول، كان التهريب، من أجل كسب الفلوس قد غزا المغرب.. وكانت أسواق المغرب مليئة بسلع الكونطرباند سنة 1895، مثلما كانت عليه سنة 1995 مائة عام من بعد.
ولو ترك الأمر، للراغبين في المزيد من الفلوس هذه الأيام، المطالبين بالترخيص للحشيش لاحتفلوا بالذكرى المئوية لازدهار تجارة الكونطرباند في المغرب، وقد جاءت تسمية هذه الظاهرة في كتب التاريخ المغربي منذ مائة عام، بنفس التسمية التي تنشرها بها صحف المغرب والعالم، وهي تعبير “الكونطرباند”.
وبعد أن أصبح الكونطرباند، سلاحا لتحطيم أمجاد السلطان الحسن الأول، كتب لرئيس حكومته بركاش، رسالة يستنكر فيها “الكونطرباند”، الذي غزا المراسي المغربية، وكان الإنجليزيون هم أقطاب إيصال السلع إلى الموانئ ليتولى المغاربة توزيعها.
وأمر السلطان وزيره بركاش بأن ينشر بلاغا عن قراره ((بمحاربة الكونطرباند))، إلا أن السفير البريطاني جاء عند السلطان يحتج على نشر تلك الأخبار في الصحف البريطانية.
ويقول صاحب “الاتحاف” المرحوم بن زيدان بأن السلطان مولاي الحسن، كتب لوزرائه بأن على ((المخزن أن يجعل الحراس في كل الموانئ ومن عثر عليه مشتغلا بالكونطرباند(…) أن يعتقل(…) ويدفع المشتغل به إذا كان أجنبيا لقونصوه ليجرى عليه الحكم)).
وفي رسالة أخرى مؤرخة بـ 7 ربيع الثاني 310-1883 يقول السلطان مولاي الحسن ((إن تلك التجارة مخالفة للقانون وقد كلفنا التاجر “فلمنك” أن ينشر في “كوازيط اللوندريز” صحف إنجلترا أن بعض الإنجليز يمارسون الكونطرباند في سواحل سوس.. وقد أعطينا أمرنا بأن يعتقل المتعاملون بالكونطرباند ويسلموا لقناصل دولهم)) (اتحاف الاعلام. ابن زيدان).
لو صحا الحسن الأول من قبره، لاكتشف أن الكونطرباند، أصبح في التجارة المغربية هو الأساس، والتجارة هي الاستثناء، نحن إذن نعيش الخراب الاقتصادي بشيوع تجارة الكونطرباند، وإذا ما أراد المطالبون بتحرير الحشيش أن يطالبوا أيضا بتحرير الكونطرباند، فإن هذه هي الفرصة للاحتفال، بعد مرور مائة عام على انطلاق تجارة الكونطرباند بالمغرب.