تقرير | مؤشرات فشل المجلس الأعلى للحسابات في محاربة الفساد

يصدر المجلس الأعلى للحسابات، الذي تترأسه زينب العدوي، تقارير سنوية تتعلق بتدبير المال العام داخل المؤسسات الحكومية والعمومية، والصناديق السوداء، التي لا تخضع للمراقبة والتتبع، بالإضافة إلى وضعية مختلف القطاعات الحكومية والجماعات والمجالس المنتخبة، والتصريح بالممتلكات، والخدمات وعلاقة الإدارة بالمواطنين، وغيرها من الأمور ذات الارتباط بالشأن العام.
إعداد: خالد الغازي
يتساءل العديد من المواطنين والفاعلين السياسيين والحقوقيين، عن الإضافة التي تقدمها تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية في تخليق الحياة العامة ومكافحة الفساد والإثراء غير المشروع، لاسيما وأن هذه التقارير تكشف عن العديد من الاختلالات والخروقات والمخالفات المرتكبة في تدبير بعض المؤسسات العمومية، لذلك يظل السؤال المطروح: لماذا لم تغير تقارير مجالس الحسابات الواقع السيء الذي يعرفه تدبير الشأن العام فيما يتعلق بمؤشر الفساد والرشوة ونهب المال العام، خاصة وأن التقارير الجهوية ترصد العديد من الحالات على صعيد المجالس الجماعية؟
بهذا الخصوص، يرى محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، أن “تقارير المجلس الأعلى للحسابات تبقى آلية من آليات مراقبة صرف المال العمومي، وافتحاص الأموال المخصصة للعديد من البرامج، والجماعات الترابية، والمؤسسات العمومية وغيرها، المشمولة بقانون مدونة المحاكم المالية، فهذه التقارير التي يصدرها المجلس سنوية، وإصدارها ونشرها يعتبر مسألة إيجابية، وهناك من يسعى جاهدا للتصدي لمسألة نشر التقارير، لأنها تسبب إحراجا للمعنيين بها من الناحية الأخلاقية والأدبية، وتشكل من ناحية أخرى نوعا من إشاعة ثقافة المحاسبة على الأقل داخل المجتمع”، وأضاف: “صدور هذه التقارير ليس كافيا في حد ذاته، إذ الأمر يتعلق بآلية من آليات المحاسبة، والمجتمع يرغب وينتظر ويتمنى أن تتحول هذه التقارير لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ليس لأن المجتمع متعطش لثقافة الزجر والعقاب، ولكنه يطمح لأن يكون القانون فوق الجميع، ولأن يرى العدالة لا تستثني أحدا مهما كانت درجة المسؤول ومرتبته في سلم السلطة وسلم التدبير العمومي، فالأمر يقتضي أن يقدم فاتورة الحساب خلال تدبيره لمرفق من المرافق العمومية، لأن هناك تقارير يصدر في شأنها المجلس الأعلى للحسابات أحكاما تتعلق بغرامات وينفذ هذه الأحكام ويستخلص تلك المبالغ، وفي نفس الوقت، هناك تقارير أخرى تكتسي صبغة جنائية، أي أنها ذات طبيعة جرمية، بمعنى أن القضاء الجنائي هو المختص في هذه الحالة، وبالتالي، لابد من إحالتها على الجهات المعنية”.
وأوضح الغلوسي، أن التقارير التي تحال على الجهات القضائية، لا تأخذ مجراها الطبيعي، وتستغرق وقتا طويلا، وفي نفس الوقت غالبا ما نرى المعنيين بالمتابعة الجنائية هم إما رؤساء جماعات، أو بعض المقاولين والموظفين، في حين أن بعض الأشخاص الآخرين رغم أنهم يتمتعون بقدر كبير من القرار العمومي ولهم مسؤولية مشتركة مع هؤلاء السياسيين في تدبير الشأن العام، وأخص بالذكر الولاة والعمال، لازالوا بعيدين عن آلية المساءلة والمحاسبة، ومن تم، فالتقارير الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات رغم نشرها، وأهمية حضورها في الساحة وأمام الرأي العام، إلا أن صدورها يظل غير كاف ما دام أنها لا تتحول إلى آلية لتفعيل المحاسبة وتطبيق القانون على الجميع، وأن يكون الناس سواسية في دولة الحق والقانون، إذ لا يعقل أن الناس تشاهد ازدواجية في التعامل مع الأشخاص وفي تطبيق القانون، بحيث كلما تعلق الأمر بالصحفيين وبعض النشطاء وبعض الأشخاص العاديين في المجتمع إلا وكان القانون صارما وحازما في مواجهتهم، لكن حينما يتعلق الأمر بأشخاص لهم سلطة ونفوذ ويدبرون الشأن العام، فإن العدالة والقانون يأخذ مجرى آخر”، يقول الغلوسي، مشيرا إلى أن “بعض الملفات حتى وإن درجت أمام القضاء، فإنها تحصل في حالة سراح من جهة، ومن جهة ثانية، تستغرق وقتا طويلا ومنها من استغرق 20 سنة ولم يصدر فيها حكم لحدود الآن”.
فهذه الازدواجية تجعل الإفلات من العقاب والفساد مستمرا، والمجتمع هو من يؤدي تكلفة ذلك، إذ يستنزف قدرات المجتمع من الجانب الاقتصادي والاجتماعي، وحتى على مستوى الاستثمار، إذ لا يمكن التحدث عن الاستثمار ولا عن التنمية في ظل انتشار الفساد والريع والرشوة، كما لا يمكن التحدث عن التقدم الاقتصادي في وجود الفساد وسيادة الإفلات من العقاب، حيث أن قضية الفساد تظل معضلة حقيقية تتطلب إرادة سياسية لأجل مواجهتها، لذلك فإن جزء من “البلوكاج” الذي تواجهه تقارير مجلس الحسابات، له ارتباط بموازين القوى في المجتمع، باعتبار أن القوى الحية والديمقراطية والرأي العام المغربي، لازال دورها محدودا وضعيفا، وبالتالي، تبقى الجهات المستفيدة من الإفلات من العقاب ومن انتشار الريع والفساد هي التي تضغط لتعطيل المحاسبة وإعمال القانون وتحقيق العدالة، وهي من تضع “البلوكاج” أمام عدم تنفيذ قرارات المجلس وعدم تحويل تقاريره إلى آلية للمحاسبة، بتجريم الإثراء غير المشروع، ويزعجها أن يعاد النظر في قانون التصريح بالممتلكات، وكافة المنظومة القانونية الرامية إلى تخليق الحياة العامة.
فهذه الجهات – يقول رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام – هي نفسها التي تجد صدى لها في بعض المراكز والمواقع، وتدعم وزير العدل الذي الآن يؤكد على تقييد دور المجتمع المدني في مجال مكافحة الفساد، والرفع من العقوبات ضد الوشاية الكاذبة، وكل هذا يأتي في إطار تغول المراكز والمواقع المستفيدة من الريع والفساد، والتي تعرقل كل الجهود المبذولة لتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وهي نفس الجهات تسعى إلى تقييد أدوار المجلس الأعلى للحسابات ومؤسسات الحكامة، وتحويلها إلى مجرد مؤسسات صورية فاقدة لأي سلطة”.
من جانبه، اعتبر محمد المسكاوي، رئيس شبكة حماية المال العام، أن التقارير السنوية للمجلس الأعلى للحسابات تبين المجهودات التي يختص بها هذا الجهاز الذي يعتبر الجهاز الأعلى للرقابة على المالية العمومية بالمغرب، نظرا لمكانته الدستورية واستقلاليته ودوره في تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية، حيث حافظ المجلس الأعلى منذ سنة 2008 على وتيرة إصدار تقاريره السنوية التي تتعلق بمراقبة القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، إلى جانب دوره في تقييم السياسات العمومية وتقديم الاستشارات للمؤسسة التشريعية وللحكومة، مضيفا أن الجهود المبذولة من قبل مجلس الحسابات تتم بإمكانيات مالية غير كافية، بسبب قلة الموارد البشرية وعلى رأسهم القضاة، مما يتطلب الزيادة في عدد المناصب المالية والوظائف في المجلس حتى يتمكن من رفع وتيرة الأداء والمساهمة في ترسيخ الحكامة ومحاربة الفساد، عبر تضييق هامش المخاطر والجزر والمحاسبة بالنسبة للاختلالات ذات الطابع الجنائي.
وأكد نفس المتحدث، أن الجهاز التنفيذي مطالب بمباشرة إصلاح الأخطاء الإدارية الواردة في تقارير المجلس الأعلى للحسابات، لتقليل مسارات الفساد، وعلى البرلمان سد الثغرات القانونية، بينما يبقى دور السلطة القضائية مهما في التسريع من وتيرة معالجة الملفات التي يكشفها المجلس والبت فيها، بالإضافة إلى التعجيل باستكمال هياكل مؤسسات الحكامة وتقييم تنزيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وزيادة منسوب عمل المجتمع المدني في التحسيس والرصد والكشف عبر آليات التشبيك، كشريك أساسي للدولة في مكافحة الفساد حسب نص المادة 13 من الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، غير أن الملاحظ هو استمرار وتيرة الفساد والرشوة من خلال التقارير الرسمية، إضافة إلى التدني المستمر لمرتبة المغرب في مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، حيث تراجع المغرب في الترتيب الأخير لسنة 2022 إلى الرتبة 94 عالميا بـ 38 نقطة، مسجلا تراجعه بـ 7 درجات وبنقطة واحدة، أي أننا ما زالنا نتواجد ضمن الدول ذات التصنيف الأقل من المتوسط، يضيف المسكاوي، متسائلا عن مآل تقارير المجلس الأعلى للحسابات وماذا بعدها، خاصة وأن المدونة الحالية للمحاكم المالية تنص على أن الملفات ذات الطابع الجنائي تستلزم الإحالة من طرف الوكيل العام لدى مجلس الحسابات على السلطة القضائية، في حين نطالب بإزالة هذا الشرط وتصبح الإحالة مباشرة للقضاء بعد دراستها من قبل السلطة القضائية، وخصوصا ذات الطابع الجنائي على أساس تفعيل الملفات لتصبح المتابعات أوتوماتيكية، موضحا أنه إذا لم يكن هناك تكامل للمجلس الأعلى للحسابات وباقي الأجهزة المتدخلة، سواء عمل السلطة التنفيذية أو عمل السلطة التشريعية في إطار التشريعات والمقترحات، فسنبقى حتما في مراتب متدنية ولن تكون هناك رؤية واضحة لمكافحة الفساد في بلادنا.