للنقاش | لماذا فشلت أحزاب اليسار المغربية ؟

مما لا شك فيه، أن اليسار العربي بصفة عامة بأشكاله وتنوع مرجعياته، شيوعي واشتراكي وقومي، نجح تاريخيا – بالشراكة مع قوى أخرى – في تحقيق بعض المكاسب والإنجازات على أرض الواقع، فكان من بينها مقاومة الاستعمار الأجنبي وبناء حركة وعي جمعوي من أجل تحرير الوطن العربي من قيود الاستعمار الأجنبي من المحيط إلى الخليج، وبناء حراك سياسي وثقافي كان بداية لبلورة مجتمع عصري مثقف متحرك ومدرك للتحولات العالمية والإقليمية، وأهمها المؤامرة الاستعمارية على أرض فلسطين وزرع كيان صهيوني في قلب الوطن العربي وتقسيم وتشتيت الوطن العربي إلى دويلات مصطنعة عن طريق اتفاقية “سايكس- بيكو” المشؤومة، التي خططت لها بريطانيا وفرنسا لإضعاف الدول العربية، ومن ثمة نهب وسرقة خيراتها الطبيعية.

محامي بهيأة وجدة
امتدت الحركة اليسارية إلى الوطن العربي من الفلسفة الشيوعية، التي شهدت عدة دورات للفعل الاجتماعي ذي الطابع الثوري أو الانقلابي، وفي كل دورة تاريخية لهذا الفعل الاجتماعي، كانت القوى الاجتماعية الفاعلة فيه تستظل برؤية ثورية صاغتها طموحات الملايين من المظلومين والمضطهدين والفقراء والفلاحين والعمال والطلبة في شتى أنحاء العالم، نتيجة تأثير الأفكار الطلائعية للمفكرين والفلاسفة والمثقفين أمثال فولتير، وهو رمز عالمي من رموز الحرية والتنوير ومن أعظم المفكرين الذين دافعوا عن حقوق الإنسان وكرامته، وأيضا جان جاك روسو، الفيلسوف السويسري الذي أثرت أفكاره الثورية في الثورة الفرنسية وفي تطوير الاشتراكية، والحقيقة أن هذا الإنجاز الفكري والسياسي للثورات البورجوازية، لم يلبث أن اصطدم بعد أقل من قرن من الزمان، بوقائع وأوضاع جديدة فرضت من جديد رؤية جديدة تمثلت في “المنيفيستو الشيوعي” عام 1848 وما أعقبه من ثورات عمالية متكررة في مختلف الدول الأوروبية الصناعية، ونجحت في استيلاء البلاشفة على السلطة في روسيا القيصرية وإقامة أول ديكتاتورية بروليتارية في التاريخ الحديث تحت راية الماركسية اللينينية، واستمرت في الزحف على الصين وبقية دول شرق أوروبا وآسيا مهددة كامل النظام الرأسمالي العالمي بالسقوط، إلا أن تناقضات النموذج الجديد من ناحية وحجم الصراع الضاري الذي دار بينه وبين الحلف الإمبريالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أدى به إلى الانهيار والتفسخ، والحقيقة، أن مشكلات هذا النموذج كانت محل جدل فكري واسع بين مختلف تيارات الحركة الشيوعية العالمية، فبينما أيدته دون تحفظ الأحزاب الشيوعية المنضمة إلى “الكومنترن” وتعني الأممية الشيوعية، ومنها الأحزاب الشيوعية في الدول العربية، فإن هناك تنظيمات شيوعية أخرى كانت لها بعض الملاحظات النقدية تجاه النموذج السوفياتي وفاعليته الإنسانية وعلى عكس الحركة التروتسكية العالمية (الأممية الرابعة)، التي صاغت منذ كتابات تروتسكي النقدية وحتى أرنست مندل، رؤية نقدية متكاملة إزاء هذه التجربة التي وصفها أحيانا بالعمالية أو البيروقراطية الاستبدادية الستالينية، وتوقعت انهيارها تحت معاول ثورة اشتراكية جديدة، ولم يكن من المتوقع الانهيار المروع بمثل هذه الصورة ولصالح إقامة نظام أكثر تخلفا إنسانيا وحضاريا، وهي “الكمبرادورية”، وتعني في المصطلح السياسي: الطبقة البرجوازية المتحالفة مع الرأسمال الأجنبي، قصد الاستيلاء على السوق الوطنية” وكذلك المافيا وقيادات المؤسسة العسكرية وناهبي الشركات والمفسدين والسماسرة..
ويعود تراجع اليسار في الوطن العربي وسقوطه، إلى موافقة أحزاب شيوعية في العراق ولبنان والأردن على قرار تقسيم فلسطين عام 1948، وتأييدها للاتحاد السوفياتي في تلك الخطوة، معتبرين أن الوقوف في وجه التقسيم ومنع قيام دولة لليهود في فلسطين ليس إلا مؤامرة يديرها الاستعمار الأنجلو-أمريكي، ورغم أن القوى اليسارية في الوطن العربي كانت تهتم بشكل كبير بالقضية الفلسطينية عقب هزيمة يونيو 1967، فقد ظهر جيل جديد يساري في العالم العربي له دراية بالتحولات الدولية مثل الشبيبة التونسية واللبنانية والفلسطينية، والتي اكتسبت تجارب خارج الوطن العربي، إلا أن اتفاقية “كامب ديفيد” سنة 1978، وقيام الثورة الإيرانية عام 1979، وصعود التنظيمات الإسلامية مثل “حماس” في فلسطين وحركة “الاتجاه الإسلامي” في تونس، وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، أدى إلى تدهور اليسار في الوطن العربي، وحال دون تحول اليسار إلى تيارات فاعلة في الحياة السياسية العربية بشكل عام، ولم تستطع الأحزاب اليسارية المشاركة في الحكم، وهذا ما أدى إلى فراغ سياسي نضالي، وبالتالي، إلى ظهور هيمنة رجال المال والأعمال كما هو الحال في المغرب.
((في سنة 1969، ظهرت في المغرب حركة تنتمي إلى الخط الماوي، تدعو إلى القيام بثورة شعبية ضد النظام، وتنتقد التوجه العام للحزب الذي كان منحازا للاتحاد السوفياتي.. هذه المنظمة ظلت تعمل في سرية تامة حتى أعلنت عن نفسها سنة 1972 تحت اسم “منظمة إلى الأمام” بزعامة المناضل أبراهام السرفاتي وعبد اللطيف اللعبي، وعرفت علاقتها بالحزب الأم عداوة شديدة، خاصة بعد الدعوات التي وجهها علي يعته لتحرير الصحراء في إطار مسلسل استكمال الوحدة الترابية للمملكة، متهمة إياه بخيانة الخط الطبقي وترجيح الخيار الوطني الشوفيني، والارتماء في أحضان النظام قصد الحصول على الشرعية، وتعرضت منذ البداية لقمع شديد على غرار باقي التنظيمات الماركسية اللينينية المغربية، وزج بمعظم أعضائها في غياهب السجون، كما قدمت شهداء كسعيدة المنبهي وعبد اللطيف زروال وأمين التهاني)) (المصدر: “تاريخ اليسار في المغرب” لرشيد طلحة).
إن النتائج المترتبة عن هذا الوضع انعكست على الأحزاب الاشتراكية في الدول العربية ومن بينها الأحزاب اليسارية في المغرب، وهناك عوامل عديدة كانت وراء فشل هذه الأحزاب، نذكر منها بروز نظرية انتهازية دخيلة على الفكر الاشتراكي لتدويخ المواطنين، وهي نظرية “التغيير من الداخل”، وتعني قبول المشاركة في اللعبة السياسية مع أحزاب رأسمالية ليبرالية وإسلامية معادية للفكر الاشتراكي، وذلك قصد توزيع كعكة الانتخابات، وبالتالي، التخلي عن المبادئ الثورية الاشتراكية وهدم ما تم بناؤه منذ بداية الستينيات وإعادة بناء هياكل الأحزاب الاشتراكية من جديد، ومراجعة فلسفتها ونظرياتها ومناهجها السياسية، وبهذا أسقطت هذه الأحزاب من قاموسها السياسي فكرة الصراع مع النظام الرأسمالي الليبرالي المتوحش، وهذه الوضعية تعبر عن الأزمة الفكرية والتنظيمية داخل اليسار السياسي في المغرب بمبادرة من جناح عبد الرحمان اليوسفي، لتضييق الخناق على الحركة اليسارية الاشتراكية بقيادة أحمد بنجلون والنقيب عبد الرحمان بنعمرو، وذلك عن طريق التآمر عليهما وإدخالهما السجن لإسكات صوت هذه الحركة اليسارية الاشتراكية، إلى أن وصلنا إلى المهزلة السياسية، وهي قبول مشاركة الاتحاد الاشتراكي في الحكومة الليبرالية الرأسمالية.. فمن محاولة قلب النظام إلى العيش في قلب النظام، وهكذا تحولت الأحزاب الاشتراكية إلى بقرة حلوب يستطيع زعماؤها جمع الثروات والاستحواذ على الأراضي الفلاحية وشراء العقارات.. وانتهت هذه الأحزاب من المهمة الأساسية التي وجدت من أجلها، ويتعلق الأمر بالدفاع عن حقوق وكرامة المواطنين وتوزيع ثروات البلاد بطريقة عادلة، وبهذا الانهيار المتسارع والمتوالي للأحزاب الاشتراكية في المغرب، بدا وكأن التاريخ قد توقف عند الرأسمالية المتوحشة وكأنها راية المفسدين الآن ومستقبلا وإلى الأبد، وتبخرت طموحات وآمال الشعب المغربي، وبرزت ظاهرة هيمنة وسيطرة وتربع قوة وحيدة مسيطرة على شؤون المغاربة ومقدراتهم، وهي ظاهرة رجال المال والأعمال أو ما يسمى بأصحاب “الشكارة”، وتعني شراء أصوات الناخبين عن طريق المال الحرام في الانتخابات المهنية والجماعية والبرلمانية، حيث لا أحد يستطيع التصدي لهذه الظاهرة الكريهة المتعفنة والمخيفة التي تعصف بجميع آمال وطموحات الشعب المغربي، وتؤدي به إلى الهلاك والانهيار الكامل، خاصة وأن بلادنا تتعرض حاليا لهجمات شرسة خارجية معادية لوحدتنا الترابية لا يمكن التصدي لها إلا عن طريق وجود مؤسسات منتخبة بطريقة ديمقراطية وأحزاب سياسية جماهيرية قوية ونظام قضائي مستقل نزيه وعادل وشعب كريم عزيز النفس لا يمد يده للصدقات حتى يكون قادرا على مواجهة العدوان الخارجي بكل قوة وحزم.
وتثبت لنا التجارب، أن الدولة الضعيفة التي لا تتوفر على مؤسسات شرعية منتخبة بطريقة ديمقراطية، وليست لها أحزاب سياسية جماهيرية ديمقراطية قوية، لا تقدر أبدا على مواجهة المخاطر والتحديات والهجمات الخارجية، لأن مؤسساتها تكون ضعيفة قد تنهار بسرعة مثل حائط الرمال عند وقوع الصدمات الخارجية، كل هذه التراكمات والعوامل خلقت نوعا من خيبة الأمل والإحباط في نفوس المواطنين المغاربة، خاصة الشباب الذين يطمحون إلى التغيير، أما المفسدين الذين يتقاتلون بشتى الوسائل على مجرد كرسي في البرلمان أو منصب حكومي وحب الشهرة والمال.. فلا يمكن لهؤلاء أن يعتمد عليهم الشعب المغربي في أوقات الشدة والأزمات والحروب، لأن التجارب شاهدة على أنه في الدول العربية التي اندلعت فيها الحروب والأزمات، مثل سوريا ولبنان والعراق واليمن، فإن المفسدين فروا هاربين من البلاد إلى دول أوروبية حيث يتمتعون هناك بالأموال الطائلة التي سرقوها من الشعب والمودعة في البنوك وتركوا الفقراء والمساكين والضعفاء يواجهون لوحدهم مخاطر الأزمات والحروب والدمار والمجاعة والمرض، كما أن التجارب السياسية تؤكد لنا أن أي تغيير سياسي بصوره المختلفة الثورية أو الديمقراطية، ينبغي أن تتوافر فيه ثلاثة عوامل أساسية متكاملة وهي: وجود مناخ سياسي اجتماعي يدفع إلى التغيير، ووجود قوى سياسية وطنية راغبة في التغيير قادرة عليه، ووجود برنامج وطني يحوز القبول العام ويشكل أساسا لتكتل اجتماعي وسياسي واسع النطاق، وكذلك يجب إبعاد المفسدين من الساحة السياسية، لأنهم يساهمون في انهيار المجتمع وتدمير الدولة، لكن الفجوة أصبحت اليوم كبيرة بين الأحزاب السياسية على اختلاف اتجاهاتها وبين المواطنين، فنفضت الجماهير الشعبية يدها من هذه الأحزاب الانتهازية التي تفتح أبواب دكاكينها في فترة الانتخابات لشراء أصوات المواطنين، وبعد حصولها على الغنيمة الانتخابية، تدير ظهرها للمواطنين خاصة الشباب الذين يحتاجون إلى تأطير سياسي وثقافي واجتماعي، ولهذا كانت نسبة المشاركة في انتخابات 8 شتنبر 2021 جد ضعيفة لا تعبر عن رأي أغلبية المواطنين، وظل الشعب المغربي يدور في حلقة مفرغة يعاني من البطالة وجميع أشكال التخلف، الأمر الذي جعل بعض الشباب المغاربة يختارون الهجرة إلى الخارج هربا من الفقر والحرمان في الوقت الذي يتمتع فيه المفسدون بثروات وخيرات البلاد.
ما هي مكامن العطب الذي أصاب اليسار في المغرب ؟
إن اليسار المغربي يعاني من أزمة فكرية وتنظيمية وهيكلية أضعفت فاعليته واندماجه الجماهيري، فمشكلته الكبرى تكمن في عدم الفهم الدقيق لهذا الشعب الذي خرج إلى الشوارع بالملايين من أجل الاحتفال بانتصار في كرة القدم رغم أنها مجرد لعبة لا تعبر عن مستوى التقدم في مجال التعليم والصحة والعلاج والسكن والدخل الفردي، ولم يخرج إلى الشارع بنفس العدد الهائل للاحتجاج ضد غلاء المعيشة والارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل الزيت والسكر والدقيق وفواتير الماء والكهرباء والضرائب التي تثقل كاهله، لكن المفسدين أدركوا أن المواطنين غير مؤطرين سياسيا، ولهذا يسهل تدويخهم واستغفالهم واستغلال احتياجاتهم وشراء أصواتهم للوصول إلى كراسي السلطة.