تحقيقات أسبوعية

للنقاش |  بين التدخل في الشؤون الداخلية للدولة ومحاولة خلق دويلات وهمية..

في سنة 1916، عينت الحكومة الفرنسية قنصلها العام السابق في بيروت جورج بيكو، مندوبا ساميا لمتابعة شؤون الشرق الأدنى ومفاوضة الحكومة البريطانية حول مستقبل البلاد العربية، واجتمع بالمندوب السامي البريطاني مارك سايكس، المكلف بشؤون الشرق الأدنى، ومن ثم كانت اتفاقية “سايكس- بيكو” السرية لتقسيم الكعكة العربية بين الدول الاستعمارية، وأسفرت هذه المفاوضات عن تحديد مناطق نفوذ كل دولة حسب مصالحها السياسية والاقتصادية، فاستولت فرنسا على غرب سوريا ولبنان ومناطق أخرى واستولت بريطانيا على منطقة جنوب وأواسط العراق بما فيها مدينة بغداد وكذلك ميناء عكا وحيفا في فلسطين، واستيلاء روسيا على الولايات الأرمينية في تركيا وشمال كردستان، وأعلنت الاتفاقية عن حق روسيا في الدفاع عن مصالح الأرثوذكس بالأماكن المقدسة في فلسطين ويخضع الجزء الباقي من فلسطين لإدارة دولية.

بقلم: حسوني قدور بن موسى
محامي بهيأة وجدة

    لا زالت اتفاقية “سايكس- بيكو” تتفاعل طوال أكثر من قرن من الزمن، ففي عام 1915، قدمت لمجلس الوزراء البريطاني مذكرة سرية بعنوان: “مستقبل فلسطين”، كتبها أول يهودي صهيوني يصل إلى منصب وزير بريطاني اسمه هربرت صموئيل، جاء فيها ما يلي: “الحاضر ليس مناسبا لإنشاء دولة يهودية مستقلة، لذا يجب وضع فلسطين تحت السيطرة البريطانية لتعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي الفلسطينية وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة، وعلينا أن نزرع بين الفلسطينيين ثلاثة أو أربعة ملايين يهودي يجب تهجيرهم من أوروبا إلى فلسطين” وقال أيضا: “يجب علينا اضطهاد اليهود في أوروبا والدول العربية لإرغامهم على الهجرة إلى فلسطين، وشن حرب ضد الفلسطينيين لإرغامهم على الهجرة خارج بلادهم لاغتصاب أراضيهم”، وهذا ما يعرف بالهجرة المعاكسة التي خطط لها جهاز “الموساد” الصهيوني وتماشيا مع ما يقال عن تحميل “سايكس بيكو” مصائب وأزمات المنطقة العربية، يقول جان بول شانيولو، مؤرخ ومؤلف “أطلس الشرق الأوسط”: “على المستوى الرمزي، ترتبط اتفاقات سايكس- بيكو بفكرة قوية في الذاكرة الجماعية لشعوب المنطقة هي: الإهانة، إذ نجد بعد عقود، مشاكل مختلفة وعديدة توجد جذورها في اتفاقات سايكس- بيكو، تجمع أغلب الروايات على وضع تلك الاتفاقية في دائرة الاتهام والمساءلة، لما تشهده المنطقة العربية من تداعيات، إذ تم شق خريطة المنطقة إلى شطرين: يستحوذ كل بلد على شطر منها دون مراعاة منها لمواطني وأهالي هذه المناطق”، وفي الذكرى الأولى بعد المائة لهذه الاتفاقية، كتبت مجلة “ديلي بيست” الأمريكية قائلة: “على الجميع الاعتراف أن هذا الدمار الذي أصاب الشرق الأوسط في سوريا والعراق واليمن وليبيا.. ليس سببه الغزو الخارجي (الأمريكي البريطاني) أو التوترات الداخلية (ثورات الربيع العربي)، ولكن السبب الرئيسي هو تلك الخريطة التي تم بموجبها تقسيم الشرق الأوسط والتي أطلق عليها اسم سايكس- بيكو”، معتبرة أن “التقسيم جرى يومها على أساس طائفي، مما زرع بذور الصراعات الدموية في المنطقة العربية وفرضت تقسيمات تعسفية للأراضي، وتم تناسي قوميات، وقامت دول بلا شعوب وظهرت شعوب بلا دول”، في إشارة إلى فلسطين والأكراد.

لقد ارتبط حق تقرير المصير والاستفتاء في عهد الاستعمار التقليدي، بحق الشعوب المستعمرة في التحرر من الاستعمار الأوروبي والحصول على الاستقلال رغم التحذيرات من مغبة اللجوء إلى الاستفتاء، الذي ينطوي على مخاطر سياسية، وقد نظمت فرنسا في فاتح يوليوز 1962 استفتاء في الجزائر وفقا لاتفاقيات “إيفيان” أدى إلى استقلال الجزائر بعد 132 سنة من الاستعمار، غير أن أثاره لا زالت حاضرة في المشهد الفرنسي إلى اليوم.

ليس في القانون الدولي حق للانفصال بالنسبة لإقليم تابع للدولة الأم كما هو الحال بالنسبة للصحراء المغربية وإقليم كاتالونيا في إسبانيا وإقليم القبايل في الجزائر، لأن القانون الدولي لا يدعم الانفصال بل يضمن للشعوب حق تقرير مصيرها كما حدث في استفتاء الجزائر، فالقانون الدولي يضمن للدول وحدة أراضيها، لهذا فإن دعم انفصال إقليم دولة عن الوطن الأم له مخاطر كثيرة، فلا فرق إذن بين إبراهيم غالي وفرحات مهني، زعيم ما يعرف بحركة “الماك” في منطقة القبايل، وكارلوس بوجديمون زعيم إقليم كاتالونيا، فعندما دخل بوجديمون إلى ألمانيا سارعت السلطات إلى اعتقاله بناء على مذكرة اعتقال أوروبية، لأن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى وحدة الدول الأوروبية ولا يقبل بتقسيمها إلى دويلات مصطنعة، لكنه يسعى إلى تشتيت الدول العربية إلى دويلات ضعيفة حتى يتسنى له نهب خيراتها وتقسيم المقسم حتى لا يبقى شيء اسمه الوطن العربي، وفرنسا لا تقبل أبدا بانفصال إقليم كورسيكا صاحبة النزعة الانفصالية، وبولينزيا وغوادلوب ومارتينيك ومايوت البعيدة عنها بآلاف الكيلومترات والتي تعتبرها مقاطعات تابعة لها، كما أنه من المستحيل قبول انفصال ألمانيا الشرقية التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي عن الوطن الأم.

وأثناء الحماية، حاول الاستعمار الفرنسي تقسيم المغرب إلى مناطق أمازيغية وأخرى عربية لا زالت خالدة في ذاكرة الأجيال تعرف باسم الظهير البربري أو عام “اللطيف”، وكان هدف الحماية الفرنسية هو زرع التفرقة بين العرب والأمازيغ رغم أنهما يكونان جسما واحدا لا يقبل التجزئة.

ومن هنا، يجب معاملة أعداء المغرب بالمثل، لخلق التوازن بين أطراف العلاقات القانونية الدولية باعتباره يهدف إلى إقامة علاقة بين الحقوق والالتزامات، أي المحافظة على التوازن الواجب تقريره بين أشخاص القانون الدولي، ويشير هذا المفهوم إلى مقابلة الخير بالخير والشر بالشر، الذي يعتبر قانونا قديما منذ الأزل لكن عندما تقرر دولة تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، فإنها تقصد من وراء ذلك تحقيق نوع من التكافؤ أو التوازن بين ما لها من حقوق وما عليها من التزامات، ولهذا يجب على الدبلوماسي صاحب التجربة والممارسة، أن يكون عالما بمخاطر المعاملة بالمثل التي تعني أن يحرص الشخص الدولي على أن يجامل غيره من الأشخاص الدولية طمعا في أن ترد المجاملة بمجاملة مشابهة أو مماثلة، لكن بعض صحف الارتزاق المأجورة تجهل قواعد القانون الدولي وخطورة حق تقرير المصير وحق مبدأ المعاملة بالمثل الذي لا يمكن استعماله في جميع الحالات والأحوال، إذ يجب إدراك مدى تداعيات وخطورة تطبيق هذا المبدأ الذي قد ينعكس سلبا على بلاده، فكيف يمكن لدولة أن تقبل بمبدأ هو ضد مصالحها الوطنية؟

كاريكاتور يؤرخ لاتفاقية سايكس- بيكو

وعلى صعيد الوطن العربي، فشلت جامعة الدول العربية في حل الخلافات العربية وظلت فكرة تقسيم الدول العربية قائمة على الأوهام والانقسامات والخلافات والافتراء والأكاذيب والتهريج والاتهامات المتبادلة داخل اجتماعات جامعة الدول العربية، التي تكلف مصاريف باهظة تؤدى من جيوب المواطنين العرب وتنتهي بتوصيات لا تطبق على أرض الواقع ولم تقدم للمواطن العربي أي مشروع اقتصادي واجتماعي وسياسي، ولم تستطع إيقاف الحروب الدامية والنزاعات المسلحة بين الدول العربية، خاصة في العراق وسوريا وليبيا واليمن، ثم النزاع المفتعل بين المغرب والجزائر الذي طال أمده ولا يخدم المصلحة العربية، بل يساهم في تشتيت جهود الدول العربية.

تتأسس العلاقات بين الدول في القانون الدولي على ركن المساواة في السيادة بما يضمن لهذه الدول الاستقلالية في قراراتها السياسية والاقتصادية وغيرها من القرارات، ويجعلها محصنة من أي تدخل خارجي، ولقد ظهر هذا المبدأ بعد  الثورة الفرنسية عام 1789، حيث نص الدستور الفرنسي عام 1793 على أنه:  “يمنع على الشعب الفرنسي التدخل في شؤون حكومة دولة أخرى ولا يقبل أن تتدخل الحكومات الأخرى في شؤونها الداخلية”، كما أن أمريكا أخذت بمبدأ عدم التدخل بدء من رسالة الوداع التي وجهها رئيس الجمهورية، جورح واشنطن، إلى شعوب أمريكا بمناسبة انتهاء ولايته والتي حذر فيها من التدخل في الشؤون الأوروبية والاشتراك في المنازعات والاستفادة من حروب الغير، ولقد ظهر هذا المبدأ كذلك في سياسة الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عام 1823، والذي وقف بصرامة في وجه التدخل الأوروبي في شؤون القارة الأمريكية.

وفي 9 دجنبر 1981، صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 103/36 بمثابة إعلان عدم التدخل بجميع أنواعه في الشؤون الداخلية للدول حيث جاء فيه ما يلي: “.. تؤكد من جديد وفقا لميثاق الأمم المتحدة، أنه لا يحق لأي دولة أن تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر ولأي سبب كان في الشؤون الداخلية والخارجية لأي دولة أخرى”، كما أن الجمعية أكدت من جديد على المبدأ الأساسي للميثاق القائل بأن “من واجب جميع الدول ألا تهدد باستعمال القوة أو استعمالها ضد سيادة الدول الأخرى أو استقلالها السياسي أو سلامتها الإقليمية، وإذ تضع في اعتبارها أن عملية إحلال السلم والأمن الدوليين والمحافظة عليهما وتعزيزهما، تقوم على أساس الحرية والمساواة وتقرير المصير والاستقلال واحترام سيادة الدول، فضلا عن السيادة الدائمة للدول على مواردها الطبيعية بصرف النظر عن نظمها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو مستويات نموها”، كما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 36/103 المؤرخ في 9 دجنبر 1981، يؤكد من جديد وفقا لميثاق الأمم المتحدة على أنه “لا يحق لأي دولة أن تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر، ولأي سبب كان، في الشؤون الداخلية أو الخارجية لأي دولة أخرى، إذ تؤكد كذلك على المبدأ الأساسي للميثاق الذي ينص على واجب جميع الدول، ألا تهدد باستعمال القوة أو تستعملها ضد سيادة الدول الأخرى أو استقلالها السياسي أو سلامتها الإقليمية، وإذ تضع في اعتبارها أن عملية السلم والأمن الدوليين والمحافظة عليهما وتعزيزهما يقوم على أساس الحرية والمساواة وتقرير المصير والاستقلال واحترام سيادة الدول، فضلا عن السيادة الدائمة للدول على مواردها الطبيعية بصرف النظر عن نظمها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو مستويات نموها، وإذ ترى أن التقيد التام بمبدأ عدم التدخل بجميع أنواعه في الشؤون الداخلية للدول هو أمر ذو أهمية عظمى للمحافظة على الأمن والسلم الدوليين ولتحقيق مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة”.

تحكم العلاقات الدولية المعاصرة مجموعة من المبادئ المتوافق عليها عالميا، سواء عبر اتفاقيات ثنائية أو بين مجموعة من الدول أو أعراف دولية، وتمثل هذه المبادئ إطارا عاما للسياسة الخارجية للعديد من الدول في العالم بعد أن تبنت مثل هذه المبادئ، ويطرح السؤال: لماذا لا يحق لدولة التدخل في شؤون دولة أخرى؟ بعد تجربة عصبة الأمم، وهي أول منظمة دولية في العالم، تأسست في سنة 1919 واستمرت حتى العام 1946، أدركت دول العالم ضرورة ترسيخ مجموعة من المبادئ التي تحفظ الأمن والسلم والاستقرار في العالم بعد فشل أول تجربة لتجمع دولي كان هدفه هو حفظ السلم والأمن، وأصبح هذا المبدأ أولوية كبرى للقائمين على تأسيس هيأة الأمم المتحدة عام 1945، والتي أكدت على أن مبدأ عدم التدخل هو من المبادئ الأساسية في ميثاق الأمم المتحدة المنصوص عليه في المادة 2 الفقرة 7، كما أن ميثاق جامعة الدول العربية نص على نفس المبدأ في مادته 8 والتي جاء فيها ما يلي: “تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة، نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى وتعده حقا من حقوق هذه الدول، وتتعهد بألا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام”.

لكن في الواقع، فإن الجامعة العربية لا تملك صلاحيات وسلطات تعلو بها على الدول الأعضاء فيها، وبذلك، فإن قراراتها لا تملك صفة الإلزام والنفاذ التلقائي داخل إقليمها كما هو الحال بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة مختلفة في اللغة والعرق والثقافة، في حين ظلت الدول العربية متفرقة متنازعة ومتحاربة فيما بينها بالرغم من أنها تتمركز في منطقة جغرافية متقاربة وتجمعها قواسم مشتركة في اللغة والدين والتاريخ والثقافة والحضارة المتوارثة والمصالح المشتركة ورغبات الشعوب العربية التي تأمل تحقيق الوحدة العربية والحفاظ على القومية العربية، ورغم أن جامعة الدول العربية تعتبر من أقدم المنظمات الدولية، حيث تزامن تأسيسها مع نهاية الحرب العالمية الثانية عندما كانت معظم الدول العربية تحت وطأة الاستعمار الأجنبي وكانت تتطلع نحو الوحدة، فصاغ بعض القوميين ميثاقا عربيا أكد على وحدة الوطن العربي، إلا أن كل تلك الطموحات والآمال تبخرت وسادت التفرقة والحروب الدموية بين هذه الدول.

إن أهم أسباب النزاعات والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، هو التوسع الجغرافي والأطماع في البحث عن الموارد الطبيعية وأهمها المعادن والغاز والنفط مصدر الثروة والمال.. فمتى أرادت أي دولة توسيع نفوذها الجغرافي والاقتصادي والسياسي، فإنها تتدخل بأي شكل من الأشكال في الشؤون الداخلية للدولة المستهدفة، فتتحول العلاقات الدبلوماسية إلى توتر وحرب إعلامية معادية إلى أن يصبح نزاعا مسلحا وتصبح شبكة العلاقات معقدة بين الطرفين، ويجب على من يتحمل دور الوساطة، أن يكون عالما بخبايا النزاع وتداخلاته وأن يستوعب نطاق مصالح الطرفين المتعددة الأوجه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى