تحقيقات أسبوعية

للنقاش | مونديال قطـر.. استفتاء عربي وعالمي لنصرة فلسطين

منذ أن أعلنت “الفيفا” عن استضافة قطر لكأس العالم 2022، تحمس الفلسطينيون كما لو كانت على أرضهم، وبقيت أمنياتهم معلقة بإيصال قضيتهم عبر المدرجات القطرية وقت انطلاق المباريات، ولا تكاد مباراة أو حدث أو فعالية تشجيعية في مونديال قطر إلا وتواجد فيها علم فلسطين رغم أن منتخبها غير مشارك في البطولة، ولكن فلسطين حاضرة لأول مرة في التاريخ بكأس العالم بأعلامها وقضيتها التي سيرويها شباب يحملون على عاتقهم مسؤولية بيان عدالة القضية وإيصالها إلى العالم بمصداقية بعيدا عن الروايات الصهيونية.

بقلم: عبد الله النملي

    في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تعتقد أنها وضعت قدما بين الشعوب العربية وأصبح لها اهتمام في المنطقة، تفاجأت بأن فلسطين حاضرة بقوة في كأس العالم بينما هي منبوذة، حيث توشح العديد من المتفرجين بالكوفية والأعلام الفلسطينية، وقدم العديد من أفراد الجالية الفلسطينية والعربية الأعلام والكوفية الفلسطينية للجماهير القادمة من مختلف دول العالم.

ويرى فلسطينيون أن البطولة المُقامة للمرة الأولى في دولة عربية مسلمة، هي فرصة ذهبية بالفعل لتعريف العالم بقضيتهم، حيث يعيش أكثر من 250 ألف فلسطيني في قطر، وفيما يضع مشجعو الدول المشاركة أعلام بلادهم على أكتفاهم، يطغى العلم الفلسطيني الذي يحمله عشرات الفلسطينيين والعرب، وهو أبرز علم لدولة غائبة عن النهائيات، ولا تكاد تخلو مباراة من رفع الجماهير لعلم فلسطين والتوشح بالكوفية الفلسطينية التي تتميز بألوانها البيضاء والسوداء، وترديد الشعارات والهتافات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، ويلوح مشجعون قطريون بأعلام بلادهم والأعلام الفلسطينية من نوافذ سياراتهم، فيما تبثّ أغنية “علّي الكوفية” الفلسطينية الحماسية بانتظام في مناطق المشجعين، ووضع آخرون شارة عليها رسم الكوفية على أذرعهم.

ورفع المشجعون التونسيون علما ضخما يحمل عبارة “فلسطين حرة” بالتزامن مع الدقيقة 48 من مباراة تونس وأستراليا، وفعل المشجعون المغاربة الشيء نفسه في اليوم التالي خلال مباراة فريقهم ضد بلجيكا، ويمثل الرقم 48 ذكرى عام النكبة 1948 عندما قُتل أجدادهم وطردوا من وطنهم لإنشاء كيان الاحتلال، لذا يستخدم العديد من العرب هذا الرقم للتعبير عن حبهم ودعمهم للفلسطينيين.

وبالموازاة مع مباريات كرة القدم، هناك مونديال آخر يعبر فيه أحرار العالم من زوار قطر ومن جنسيات عديدة، عن رفضهم للمحتل وكل ما يمثله، رفض يجتاز صفقات التطبيع الحكومي الرسمي لبعض الأنظمة، وجاءت فكرة المبادرة بعد التعاطف الدولي مع حرب أوكرانيا إذ شهدت الملاعب الأوروبية رفع الأعلام الأوكرانية للتعبير عن احتجاجهم ضد الحرب الروسية، وهو ما لم تشهده الملاعب الرياضية من قبل خوفا من عقوبات “الفيفا” التي تمنع كل شخص يحمل الأعلام داخل الملاعب أو التطرق للقضايا السياسية خلال الأحداث الرياضية المتنوعة.

وتحمل مبادرة “فلسطين في المونديال” ارتداء شارة “كابتن” المنتخبات العربية المشاركة في البطولة بألوان علم فلسطين، ورفع أعلام فلسطين في المدرجات وحولها وفي الشوارع وفوق السيارات والبيوت، والهتاف لفلسطين والقضية في أرجاء الملاعب، قبل المباريات وخلالها وبعدها، وتشمل المبادرة أيضا فعاليات “سفراء فلسطين”، وهي عبارة عن انتشار مجموعة من الأشخاص طوال أيام المونديال وسط الجماهير القادمة من جميع أنحاء العالم، يتحدثون معهم عن القضية الفلسطينية، لتوضيح حقيقتها من خلال التواصل المباشر مع المشجعين، ودعت المبادرة المؤثرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومعلقي المباريات ومقدمي البرامج في التلفزيون، إلى تسليط الضوء على القضية الفلسطينية خلال تعليقهم على المباريات.

وانتشر هاشتاغ: “فلسطين_في_المونديال” بسرعة البرق على مواقع التواصل الاجتماعي، وتفاعل معه العديد من المؤثرين والشخصيات العامة ووسائل الإعلام، كما وزع مجموعة من الناشطين والجهات في دولة قطر أعلام فلسطين وقمصانا ولفحات تحمل العلم الفلسطيني، وتم إطلاق موقع يتحدث بثلاث لغات، يتوجه للجماهير العالمية لدخول الموقع وعرض القضية من خلاله، كما ناشد شباب “حركة قطر ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني” والداعم للقضية العربية الأم، كل أصحاب المحلات والمطاعم والمشاريع أثناء البطولة العالمية، أن يطبعوا الملصقات ضد الوجود الصهيوني في قطر لإظهار عدم ترحيبهم بالصهاينة على أرضهم.

وبالمقابل، لم يحظ الصحفيون الإسرائيليون بأي قبول، سواء عبر إجراء المقابلات الصحفية معهم، أو استقبالهم من قبل أصحاب المطاعم، وانتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي العديد من المشاهد التي أظهرت رفض الجماهير المتواجدة في قطر التحدث لوسائل الإعلام الإسرائيلية، في خطوة تساند فلسطين وقضيتها العادلة.

ويعيش الكيان الصهيوني أجواء مُحبطة ومُؤلمة وهم يرون على الهواء مباشرة انهيار مشروع الهرم التطبيعي الوهمي الذي شيدوه منذ سنوات على بعض رمال الخليج المتحركة، حيث سارع الاحتلال إلى مطالبة مواطنيه المتواجدين في الدوحة، بأن يكونوا “إسرائيليين بشكل أقل وضوحا في الأماكن العامة حفاظا على أمنهم الشخصي”.

وأفادت صحيفة “الغارديان” البريطانية، أن “فلسطين حاضرة بقوة في كأس العالم الذي ينظم في الشرق الأوسط للمرة الأولى مقابل حضور إسرائيلي ضعيف ومنبوذ، رغم أن الطرفين لا يلعبان في البطولة”، وأضافت: “إن مقاطع الفيديو التي انتشرت كالنار في الهشيم أظهرت مشاعر الكراهية ضد إسرائيل بين الجماهير العربية المشاركة في المونديال رغم أن الكثير من حكوماتهم قد أبرمت اتفاقيات للتطبيع، وبدأت في بناء علاقات تجارية، وأخرجت تعاونها الأمني إلى العلن، وفي المقابل، يتجنّب إسرائيليون، بناء على نصيحة سلطاتهم، إظهار ما يدل على هويتهم خلال تواجدهم في دولة لا تقيم علاقات دبلوماسية مع دولتهم، بينما يجد الإعلام الإسرائيلي صعوبة في التواصل مع المشجعين العرب على الأرض”.

وتبادل الفلسطينيون لقطات من لقاءات للفلسطينيين والعرب يواجهون بغضب المراسلين الإسرائيليين، مطلقين عبارات: “أنتم غير مرحب بكم هنا”، “أنتم قتلة الأطفال”، حيث أظهرت الجماهير العربية الرفض المطلق والتأكيد على أنه لا لوجود لدولة تُدعى إسرائيل، وبات الكثير من المشجعين العرب يتأكدون من هوية المحطات التي تطلب منهم الظهور على شاشاتها قبل الموافقة على الحديث، وفي هذا الصدد، رفض مشجع سعودي الرد عن سؤال لمراسل قناة “كان” الصهيونية، وصاح فيه بالإنجليزية: “ليس هناك إسرائيل، هناك فلسطين فقط”، وقال مراسلون إسرائيليون أنهم دُهشوا من أن عددا ممن رفضوا الحديث معهم ينتمون لدول عربية وقّعت اتفاقات تطبيع مع إسرائيل، وقال أحد المشجّعين الإسرائيليين الذين زاروا الدوحة: “أحضر رابع كأس عالم، لكنها المرة الأولى التي اضطررت فيها لعدم حمل علم إسرائيل معي.. أشعر أنني أتابع كأس العالم بالخفاء”، وغرد مراسل صحيفة “يديعوت أحرونوت”: “من المستحيل عدم إطلاعكم على ما نمر به هنا بعد عشرة أيام في الدوحة حول العداء، نحن غير مرحب بنا”، وغيرها من المواقف التي تعرض الإعلام الإسرائيلي في قطر.

لقد أثبتت كرة القدم أنها أقدر من السياسيين على تذكير العرب بانتمائهم لأمة واحدة، كما أن مونديال قطر شكل فرصة أخرى عبّرت من خلالها الشعوب العربية عن نبضها المشترك، وفرحها التلقائي بأي نصر، حيث بقيت فلسطين عنوانا لقضيتهم الرئيسية حتى وإن اختلفت حكوماتهم في التعامل معها، كما قدم المونديال منصة شعبية فريدة من نوعها، ساهمت في كشف عمق الفجوة بين المواقف الرسمية لبعض الدول وحقيقة المواقف الشعبية العالمية والعربية على وجه الخصوص، من القضية الفلسطينية، واستمرار رفض القاعدة الشعبية العربية من المحيط إلى الخليج، لمشروع تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أو قبولها كدولة احتلال خارجة عن القانون الدولي في الشرق الأوسط.

“فلسطين فازت بكأس العالم”.. هكذا وصف أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي الاحتفاء بالقضية الفلسطينية في مونديال قطر 2022، ويبدو أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تكاد تتفق مع وجهة النظر هذه، إذ أبدت صدمتها مما وصفته بالأهداف التي أحرزها المشجعون العرب والفلسطينيون ضد إسرائيل في البطولة، ويشعر الإسرائيليون وإعلامهم بالهزيمة خلال وجودهم بالدوحة، فحينما أعلنت “الفيفا” عن استضافة قطر لكأس العام 2022، شعر الفلسطينيون أنهم سيتوجون أبطالا للمونديال، لكن ليس بفريق رياضي، بل بحضور قضيتهم في المدرجات وبين الجماهير لما تمنحه قطر من مساحة كبيرة للقضية الفلسطينية والتعريف بها.. لم تلعب فلسطين بأحد عشر لاعبا كما فعلت بقية المنتخبات، وإنما تجاوز العدد الآلاف، وأنهت جميع مبارياتها بانتصار ساحق ضد الظلم والطغيان، إلا أنّ مباراتها لم تنته بعد ولن تنتهي بانتهاء هذا المونديال، ولكن، وبكل تأكيد أنّ هذا المونديال رشحها دون منازع لأخذ بطولة العالم في الصمود والثبات حتى الفوز بمباراتها النهائية التي لم يتم الإعلان عنها بعد، ودون شك ستكون على أراضيها، وبمشاركة كل حر لا يرضى بالظلم والعدوان.

يستحق مونديال قطر وبجدارة أن يحصل على لقب “المؤتمر الشعبي العالمي لنصرة فلسطين”، لقد جسد استفتاء عربيا وعالميا حقيقيا وسط جحافل المشجعين على عدالة القضية الفلسطينية، حيث تذوق الاحتلال في المونديال مرارة الهزيمة من خلال العزلة التي فرضها عليه المشجعون، والاندهاش لواقع الحال لدى الشعوب العربية التي اختلفت توجهاتها عن مسارات التطبيع، فرغم الجهود المحمومة والمتواصلة التي بذلتها وما زالت القيادات الغربية وبعض الأنظمة العربية الرسمية على كافة المسارات، السياسية، الاقتصادية والإعلامية، كنتاج لعقيدة خالصة في خدمة مصالح إسرائيل، أو تحت سياسة الضغط القصوى التي تمارسها واشنطن، منذ بداية عهد ترامب وصفقته المشؤومة، إلا أن الرد الشعبي العربي والعالمي من على منصة المونديال القطري، كان بقوة شمس صيف الخليج التي أحرقت هذه الجهود دفعة واحدة، معلنة بصوت واحد أن “إسرائيل بشكلها الاستعماري الحالي لا يمكن قبولها كدولة طبيعية في أوساطنا ما لم يحصل الفلسطينيون على استقلالهم التام وحقهم في تقرير المصير”.

إن سلوك الجماهير العربية في مونديال قطر ينسجم تماما وما أظهرته نتائج استطلاع الرأي الأخيرة التي أجراها معهد واشنطن الأمريكي للأبحاث، في مارس الماضي، والتي أظهرت نسبة معارضة كبيرة بين الجماهير العربية للتطبيع والقبول بإسرائيل، بواقع معارضة عالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى