تحقيقات أسبوعية

للنقـاش | كيف ساهم الجواسيس والمخبرون في استعمار المغرب

أفرزت الرأسمالية الأوروبية الجشعة إبان القرن التاسع عشر الميلادي، حركة إمبريالية استعمارية متلهفة للاحتلال والغزو، من أجل إيجاد أسواق جديدة لتصريف فائض الإنتاج الصناعي لديها، وتلبية حاجيات الصناعة من المواد الأولية، ومن هذا المنطلق، نفهم أن الإمبريالية كحركة توسعية، هي نتيجة حتمية وجدلية للتطور والتغول الرأسمالي.

ولتحقيق هذه الأهداف، شجعت الدول الأوروبية ومنها فرنسا، البعثات الاستكشافية والمغامرين والجواسيس إلى مختلف الأقاليم، لجمع المعلومات عنها، وبالتالي، تمهيد الطريق لغزوها، واستغلالها اقتصاديا واجتماعيا… إلخ، وقد نشطت الحركات التبشيرية في هذا السياق، حيث كان هؤلاء الجواسيس، علاوة على مهمة الجوسسة الموكلة إليهم، عملوا في الآن ذاته على نشر المسيحية بين القبائل التي يجتازونها، ونذكر هنا “الجاسوس والراهب شارل دوفوكو، الذي كان يصلي ويعمل ليهب المغرب للمسيح ولفرنسا في آن واحد”، ومن يقرأ النصوص والتقارير التي خلفها أمثال هؤلاء، يلمس فيها النزعة الصليبية التي كانت تغذي أفكارهم وكتاباتهم عن الشعوب التي سافروا إليها، وهذا ما أكده توماسي رائد الفكر الاستعماري بقوله: “من قبيل الخيال فعلا الاعتقاد بأن الإسلام لن يحرك ساكنا إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة كما نطمح دون أن يخوض معركته الأخيرة، فالمغرب يعد حصنه الخلفي في إفريقيا وأحد جيوشه الاحتياطية.. وستكون فرنسا مدعوة لتمثيل المسيحية فيه ولتحارب كأنها بطلة هذه الحضارة”.. ولهذا لم يكن الرحالة الأوروبي مجرد مسافر ومستكشف عادي يقوده الفضول العلمي والمعرفي وحب الاستكشاف والمغامرة، ولكنه قبل كل شيء، كان يحلم ويجاهد لخدمة بلده ورؤية علم بلاده يرفرف أينما حل.

إن التعصب العرقي وإيديولوجية التفوق الأوروبي التي تشبع بها الرحالة/ الجاسوس الأوروبي، حملته على تحمل كل الصعاب والعراقيل التي اعترضت طريقه وأهدافه، حيث كان التنكر آلية لإخفاء حقيقتهم وهويتهم عن القبائل، كما تعلموا العربية والتقاليد والعادات المحلية للقبائل ومبادئ الدين الإسلامي قبل سفرهم، ناهيك عن توظيف المال والرشاوى، للحصول على مرشدين ومساعدين من القبائل.

 

بقلم: ذ. محمد جباري

أستاذ باحث في التاريخ

 

كليشيهات وصور نمطية لخدمة نوايا استعمارية

    من المفيد الإشارة إلى أن الأدب الأوروبي/ الفرنسي خلال القرن الثامن عشر الميلادي، غلب عليه توجه إيديولوجي يعمل على تشويه واحتقار صورة العرب والإسلام في المجتمع الأوروبي، وقد ازداد هذا النشاط والنوع من “الأدب الفنتازي” خلال القرن اللاحق مع التوسع الاستعماري، ومحاولة تضخيم هذه الصورة المشوهة في اللاوعي الجماعي الأوروبي، دأبا على مخلفات الحروب الصليبية.

وفي هذا الصدد، كرست كتابات الرحالة والجواسيس الأوروبيين، صورا نمطية وكليشيهات عن المغرب والمغاربة كجزء من المنظومة العربية والإسلامية، وهي صورة “التوحش” و”التخلف” و”التكرار” مقابل حضارة “الإبداع والتقدم” الأوروبية.

ولفهم هذه الصورة، يجدر بنا، بطبيعة الحال، الوقوف على المسبقات والأطر المرجعية التي أطرت ووجهت نظرة الأوروبي إلى الآخر المغربي، وهي في الواقع، مسبقات دينية بالدرجة الأولى، ثم ثقافية اجتماعية مترسبة في المتخيل الجماعي الأوروبي منذ عهد الحروب الصليبية، كما تعود هذه المسبقات إلى الفكر اليوناني والروماني، الذي قسم شعوب العالم إلى: “مؤمن” (مسيحي) و”غير مؤمن” (غير مسيحي)، وهذا الصنف الأخير هو “المتوحش” و”الشرير” و”الهمجي”، وطبعا هو غير أوروبي، ولعل هذا ما جعل الفكر الأوروبي، كما أشار إلى ذلك الأستاذ سمير بوزويتة في كتابه “مكر الصورة”: “يوقنون بأن مجتمعات القارة العجوز تمثل أوج الرقي والنهاية المعقولة للتاريخ البشري، فعندما يتكلم الأوروبيون عن الحضارة، فإن الأمر يتعلق بطبيعة الحال بحضارتهم.. فهم يخضعون لغطرستهم، إذ ليس بمقدورهم تخيل وجود أحد يكون آخرا، وإذا وجد فإنه من الضروري أن يكون دونيا.. هذا العجز عن الشعور بأن الحياة تعرف التنوع، صار الفعل البدائي والأصلي لنشوء الأدب الغرائبي”.

إذن، فهذين المرتكزين كانا دافعين ومحركين للمد الاستعماري، وكانا عماد خلفية الفكر الغازي الرأسمالي، لتحقيق فكرة “الإمبراطورية الفرنسية الإفريقية”، في مسعى منها لاستعادة مجد وتراث الحضارة الرومانية بشمال إفريقيا كما زعم المستعمرون، ولنجاح هذه الفكرة، كانت استراتيجية تشويه صورة المغرب لدى الرأي العام الفرنسي قائمة وسارية، لدفع المواطن الفرنسي العادي إلى الانخراط في المشروع الاستعماري، باعتباره “رسالة تمدينية” تسعى إلى تحقيق “التقدم والرفاهية” للشعوب غير الأوروبية.. هذا فضلا عن دفع المغاربة في الآن ذاته، إلى الإحساس بالدونية والتأخر والهزيمة، وبالتالي، القبول بالاستعمار الفرنسي.

 

الجاسوس والراهب شارل دوفوكو

 

جاسوس إسباني في المغرب

    في إطار التوجه الأفريقاني، الذي نهجته السياسة الإسبانية لشغل الرأي العام المحلي عن هزائم إسبانيا في كوبا وغيرها من المستعمرات بأمريكا اللاتينية، نهجت المملكة الإيبيرية هذا التوجه الذي يهدف إلى التغلغل في إفريقيا، ومنها طبعا المغرب، وذلك من خلال الطرق السلمية، أي جمع المعلومات الجغرافية والسياسية عن المناطق المستهدفة بالاستعمار، وتنظيماتها الاجتماعية والقبلية وتكوينها الإثني… إلخ.

وفي هذا السياق، جهزت إسبانيا رحلة استكشافية استخباراتية إلى المغرب تحت قيادة خواكين غاثيل، دامت أربع سنوات (1861-1865م)، والمعلوم أن هذه الرحلة جاءت في ظرفية جد حساسة، أي في أعقاب حرب تطوان بين المغرب والإسبان، وكانت أولى الرحلات الإسبانية إلى المغرب إبان فترة التغلغل الإمبريالي.

فقد وصل غاثيل إلى طنجة يوم 12 مارس 1869م، وانخرط في الجيش المغربي بصفته خبيرا عسكريا، وقد أقدم على هذا التنكر ليكون قريبا من النخب المغربية، ويطلع على خفايا المؤسسة العسكرية المغربية، كما أنه ربط علاقات قوية مع كبار الشخصيات ورجالات الدولة، واجتهد في الترويج لنفسه بين القبائل المغربية بأنه خبير وقائد في الفن العسكري، وهو ما دعا قائد طنجة إلى دعوته، كما استقبله مولاي العباس شقيق السلطان.

وظف غاثيل كذلك، المال والهدايا للتغلغل في صفوف السكان وتوطيد مكانته بينهم، إذ كان يتظاهر بالتدين، ويذهب إلى المسجد أيام الجمعة، إذ يقول: ((في الصباح طلبت من الحلاق أن يحلق لي رأسي، وزينت لحيتي، وتعممت بعمامة كبيرة، ولبست خفا أخضر وبزة القناص الجزائري، ومن تلك الآونة تركت اسمي خواكين غاثيل، لأصبح “القائد إسماعيل”، وهو الأمر الذي خلعته بنفسي وعرفت به فيما بعد…)).

ورغم ذلك، لم يهدأ لهذا الجاسوس بال.. فقد ظل يحلم بالوصول إلى فاس العاصمة ولقاء السلطان، وبالفعل، فقد توجه إلى فاس والتقى هناك بقائد المدفعية، الذي نصحه بـ((احترام عوائد المغاربة ومشاعرهم الدينية إذا أراد أن يكسب ودهم))، ولما وصل إلى علم السلطان ما يتميز به “القائد إسماعيل” من خبرة عسكرية ومقدرة فنية وتكتيكية، عينه ملازما أول في المدفعية.

إبان مقامه بفاس، كون هذا الجاسوس صورة متكاملة عن المدينة، من جغرافيتها وسكانها وعوائدهم… إلخ، وقد تطور الأمر به إلى أن ترقى إلى منصب مدرب للمدفعية، وأخذ ينشئ الحصون لتركيب المدافع، واستطاع الجاسوس غاثيل بدهائه وصبره، كسب إعجاب السلطان، حيث استقبله رسميا بالقصر، وأفصح له عن نيته القيام بحملة عسكرية ضد القبائل المتمردة، يكون قائد المدفعية فيها، ولعل هذا ما سمح له بجمع معلومات وافرة عن كثب عن الجيش المغربي، وطرق مؤونته، والتكتيكات المعمولة… إلخ.

وفي المرحلة الثانية من المخطط، تقمص هذا الجاسوس الإسباني صفة طبيب، وتوجه إلى الرباط ثم إلى موغادور وبعدها إلى أكادير، وعلى الرغم من الصعاب التي اعترته في مهمته الاستخباراتية، إلا أنه أصر على الوصول إلى أبعد نقطة في المغرب، وهي الصحراء، التي لم يقدر أحد قبله على بلوغها.

هكذا يبدو أن الجاسوسية لعبت دورا مهما في خدمة الاستعمار الأوروبي، وتمهيد الطريق لغزو البلدان الإسلامية، واستغلال ثرواتها واستنزاف خيراتها، مقابل تفقير وتجويع أهاليها وإجبارهم على السخرة والخدمة في ضيعات المعمرين ومصانعهم، وقد قام بالجوسسة رحالة ومغامرون وضباط عسكريون وغيرهم، كرسوا حياتهم كعملاء للاستعمار، ومد الساسة بتقارير استخباراتية مهمة عن المجالات المستهدفة بالغزو، فالمقيم العام الفرنسي بالمغرب، ليوطي، كان يرى أن “طبيبا يعادل كتيبة عسكرية”، وعندما سأل أحد المثقفين المغاربة سيدة فرنسية كانت تعمل بالمصالح الثقافية الفرنسية بالرباط: “كيف سمح السيد دو فوكو لنفسه بالتنكر في لباس رِبِي قادم من موسكوفيا وهو النبيل والضابط في الجيش الفرنسي؟”، أجابت تلك السيدة ببرودة دم قائلة: “في تلك الأيام، الكل كان هينا ما دام الأمر يخدم مصالح فرنسا”، والمقصود بـ”تلك الأيام”: هي سنة 1870م، أي عقب هزيمة فرنسا أمام ألمانيا، فكانت بذلك تحاول البحث عن متنفس للخروج من صدمة وقوة الهزيمة على الرأي العام الفرنسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى