تحقيقات أسبوعية

للنقاش | حتمية تفعيل مبدأ المعاملة بالمثل مع فرنسا

يحتل مبدأ المعاملة بالمثل مكانة مهمة في القانون الدولي ويقوم في الأساس على فكرة المساواة القانونية بين أشخاص القانون الدولي مع ما يكتنف تطبيقه فعليا من صعوبات نظرا للاختلاف الكبير بين الدول من حيث التقدم والرقي والقوة والاستقرار السياسي والديمقراطية، ووطأة التخلف والتبعية والضعف الاقتصادي والمؤسساتي، مما يجعل تطبيق هذا المبدأ صعبا بالنسبة للدول الضعيفة التي لا تقدر على مواجهة التحديات الخارجية فتختل الموازين وتكيل الدولة الاستعمارية بمكيالين وتنقلب القيم وتتغير المفاهيم.

بقلم: حسوني قدور بن موسى 

محامي بهيأة وجدة 

    يعتبر مبدأ المعاملة بالمثل أداة توازن بين أشخاص القانون الدولي باعتباره يهدف إلى إقامة علاقة بين الحقوق والالتزامات، أي المحافظة على التوازن الواجب تقريره بين الدول، ويشير المفهوم العام للمعاملة بالمثل في إطار القانون الدولي إلى التصرف الذي يستجيب به الشخص الدولي حسب ما يتعرض له من معاملات حسنة أو سيئة، ويعني مقابلة الخير بالخير والشر بالشر، وهذا معناه أن تلجأ الدولة إلى اتخاذ تدابير قهرية تقع بالمخالفة للقواعد العادية للقانون الدولي  بهدف إجبار الدولة المعتدية التي لا تحترم أخلاقيات وقواعد العلاقات الدولية على احترام القانون وتعويض الدولة التي وقع الاعتداء عليها عما لحق بها من أضرار مادية ومعنوية.

وفي هذا الصدد، يجب التذكير بسكوت المغرب وعدم رده بالمثل على طرد آلاف المغاربة المقيمين في الجزائر عام 1975 في يوم عيد الأضحى دون اتخاذ أي إجراء مماثل، وكان عدد المغاربة المطرودين يساوي العدد الذي حركه المغرب في “المسيرة الخضراء”، وفي المقابل أطلق عليها هواري بومدين اسم “المسيرة الكحلة”، ومما لا شك فيه، أن هذا التصرف يعتبر مساسا خطيرا بالسيادة المغربية، بالإضافة إلى ما ينتج عنه من مشاكل اقتصادية واجتماعية خطيرة،  وهذا معناه أن الدولة المغربية أصبحت ملزمة بتوفير الطعام والسكن والعلاج وجميع متطلبات الحياة لـ 350000 مغربي مطرودين من الجزائر، الأمر الذي كلف ميزانية الدولة نفقات هائلة، ورغم جسامة الطرد الجماعي الذي تعرضوا له ومصادرة منازلهم وممتلكاتهم، لم يطبق المغرب مبدأ المعاملة بالمثل، وعندما يتعلق الأمر بالسيادة الوطنية، فلا مجال لاعتبارات الجوار أو “الأخوة”.

كما أن المغرب لم يطبق هذا المبدأ مع فرنسا التي تفرض “الفيزا” على المواطنين المغاربة منذ سنوات عديدة دون اعتبار لما يقدمه المغرب من تسهيلات لفرنسا في المجالات السياسية والاقتصادية والسياحية، حيث تكلف إجراءات “التأشيرة” مصاريف مالية يتحملها طالبوها، هذا زيادة على المس بكرامتهم وإهانتهم وإذلالهم من طرف القنصلية الفرنسية من جراء رفض طلب التأشيرة دون إعطاء أي سبب، كما لا تقبل منهم لا شكاية ولا احتجاج، بل أكثر من ذلك، لا ترد إليهم الأموال التي توصلت بها للحصول على “الفيزا”، ويعتبر هذا التصرف إثراء بلا سبب على حساب المغاربة، كما يوصف في القانون الجنائي بالنصب والاحتيال، في حين يسمح للرعايا الفرنسيين بالدخول إلى التراب الوطني بلا قيود ولا شروط ودون معرفة سوابقهم وسجلاتهم العدلية، بينما نلاحظ أن دولا عديدة ردت بالمثل على فرنسا وفرضت “الفيزا” على الفرنسيين الذين ليسوا أفضل من جميع بني البشر، في هذه الحالة، تظهر مدى قوة الدولة وعظمتها وحرصها على الدفاع عن كرامة وعزة مواطنيها في الداخل والخارج، بالرد على من ينتهك حرمتها بالمثل.. فعندما يتعلق الأمر بالسيادة الوطنية وإهانة كرامة المواطنين، فلا مجال في هذه الحالة لمراعاة حسن الجوار أو الصداقة أو “الأخوة”، وهناك حالات مماثلة يظهر فيها المغرب بمظهر الضعف والخضوع للقوى الأجنبية، عندما يسكت ولا يرد بالمثل على المعاملات الدولية الضارة بمصالح المواطنين المغاربة التي تمس حقوقهم وكرامتهم ومشاعرهم الوطنية، وعند تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل تظهر قوة الدولة في مواجهة العدوان الخارجي ومدى حرصها على كرامة مواطنيها في الداخل والخارج، لأن المواطن لا يحيى فقط بالخبز، بل بالكرامة وعزة النفس، وكذلك بالإحساس بكونه يعيش في دولة قوية ذات سيادة.

إن مبدأ المعاملة بالمثل معترف به للدولة المعتدى عليها، ويعني أن ترد عليه باعتداء مماثل بهدف إجبار الدولة المعتدية على احترام القانون، وعلى تعويض الضرر المترتب عن مخالفته، ولكن عندما تلتزم الدولة الصمت ولا ترد على الاعتداء الموجه ضد مواطنيها، فهذا يعني أنها دولة ضعيفة تابعة للدولة المعتدية.

فمبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات الدولية والتعامل الدبلوماسي بين مختلف الدول والكيانات أو من يمثلونها، هو ذلك المبدأ الذي يُفترض بمقتضاه أن يعامل كل طرف الطرف الآخر بالطريقة نفسها التي يتعامل هذا الآخر بها معه، ذلك أن السلوك الدبلوماسي، وخصوصا في مجاله المراسيمي أو الاحتفائي بالتحديد، هو في نهاية المطاف شكل من أشكال التعبير الرمزي القابل للتفسير لما ينطوي عليه، إما من احترام وتقدير واعتبار، أو احتقار وإذلال واستخفاف واستهانة من جهة أخرى، ولا شك أن مبدأ المعاملة بالمثل له علاقة وطيدة بجملة من القيم والمبادئ الإنسانية العامة التي تنظم جميع الثقافات والمجتمعات الإنسانية، وذلك من قبيل الحرص على احترام الذات والإحساس بالمساواة بين بني البشر من حيث محض الآدمية والاستعداد لصون كرامة النفس وعزتها والثأر ممن يسعى عمدا لاحتقار تلك العزة والكرامة الإنسانية، وبالمقابل، الميل إلى التعبير عن الشكر والعرفان والوفاء ورد الجميل بالجميل، ومقابلة الاحترام والتقدير بمثلهما.. إلى آخر ذلك من أوجه التعبير عن الرضا أو الرفض الذي يجب أن تتعامل به الدولة القوية.

إن مفهوم المواطنة هو الشعور بالانتماء والدفء والإحساس بالكرامة والعزة وهي علاقة متبادلة بين الأفراد والدولة التي ينتمون إليها ويقدمون لها الولاء ليحصلوا على مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي المقابل، من بين واجبات الدولة: حماية حقوق ومصالح مواطنيها من الاعتداءات والانتهاكات التي يتعرضون لها في الداخل والخارج، فالإنسان يعيش كفيفا مرفوع الرأس بعزة وكرامة أفضل من أن يعيش مكسور العزة والكرامة، فهو لا يرث الكرامة ولا المهانة، بل يصنعها بنفسه، والكرامة يصنعها الإنسان بنفسه ولا تهدى إليه.

ففرنسا التي تفرض علينا سياستها الاستعمارية في جميع مجالات الحياة، تعيش دائما على الإرث الاستعماري والنفوذ الفرنسي في المغرب وفي القارة الإفريقية، وقد تأسس هذا الإرث على ركائز أساسية أهمها: الإدارة السياسية والتحكم الاقتصادي والاستيلاب الثقافي والفكري، وهي لا زالت تعيش على الماضي الاستعماري الذي امتد حقبة من الزمن والذي بدأ عمليا مع ما يعرف بالحقبة الاستعمارية الفرنسية التي رافقت هزائم الإمبراطور نابوليون بونابارت داخل أوروبا وهزيمته أيضا في الشرق الأوسط، مما جعل فرنسا الاستعمارية تتجه جنوبا نحو القارة الإفريقية، واتسعت خارطة المستعمرات الفرنسية التي شملت دول المغرب العربي، حيث استطاعت فرنسا في بداية القرن العشرين بسط نفوذها العسكري والاقتصادي على حوالي 35 % من أراضي القارة السمراء، وامتد سلطانها على بلدان متعددة منها المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا وجنوبا السنغال ومالي والبينين والطوغو والكاميرون وجزيرة ألبيريدا في غامبيا، ولقد عرف الاحتلال الفرنسي بقسوته وبشاعته وجرائمه المتعددة في مناطق واسعة من القارة وعرف هذا التاريخ الدموي بالمجازر التي راح ضحيتها آلاف المواطنين والنخب في إفريقيا.

وبسطت فرنسا هيمنتها الاستعمارية على الدول الإفريقية لتحريك اقتصادها الهش، وهكذا فإن الأورانيوم في النيجر والذهب في مالي والمصادر الزراعية في السنغال والسمك والحديد في موريتانيا الذي شيدت به معالمها التاريخية مثل برج إيفل، ظلت فرنسا تنهب هذه الخيرات طيلة سنوات ما قبل الاستقلال، وبعد الاستقلال تحول هذا النهب إلى سرقة مقنعة عبر الشركات الفرنسية العملاقة التي واصلت نفس النهج الاستعماري مثل شركة “توتال” أبرز ذراع لنهب وسرقة مصادر الطاقة والتحكم في السياسة النفطية والغازية في غرب ووسط إفريقيا، وبدون إفريقيا ستكون فرنسا دولة فقيرة هامشية في جميع المجالات، وهذا ما تخاف منه اليوم وما عبر عنه صراحة الرئيس الفرنسي جاك شيراك في إحدى المناسبات.

ولقد تحول مؤتمر “إفريقيا وفرنسا” في نسخته المنظمة بباريس في 6 كتوبر 2021، إلى محاكمة علنية قوية المرافعات والأحكام ضد فرنسا الاستعمارية، حيث أن الشباب الإفريقي المشارك واجه الرئيس إيمانويل ماكرون بتهم على شكل محاكمة علنية قوية ضد فرنسا الاستعمارية، حيث اعترف الرئيس بأن “العلاقة بين باريس والدول الإفريقية يجب أن تأخذ وجها جديدا، وأن فيها أخطاء كثيرة..”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى