تحقيقات أسبوعية

للنقاش | القضية الفلسطينية وملامح السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

منذ نكبة 1948 والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تقوم على مبدأ مساندة إسرائيل ودعمها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وهي واثقة من أنها قادرة على السيطرة على الوضع الحالي الذي تسيطر فيه إسرائيل على الأراضي الفلسطينية واحتواء الدول المجاورة عن طريق التطبيع، كما أن سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الشرقية أبرز سيطرة أمريكا وانفرادها بزعامة العالم، الأمر الذي أتاح لها فرصة التدخل العسكري في العديد من الدول في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، وفي هذا الاتجاه، تأتي زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة بعد فترة من الجمود، ومحاولة منها لاسترجاع زعامتها لقطب النظام العالمي الأوحد وهي التي كانت زعيمة الائتلاف الدولي المنتصر في حرب الخليج، لحماية مصالحها المرتبطة بالنفط وضمان وصول إمداداته إلى الدول الصناعية المتقدمة من دون انقطاع، خاصة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية التي تسببت في أزمة الطاقة والغذاء..

 

بقلم: حسوني قدور بن موسى

محامي بهيأة وجدة

 

    منذ الخمسينات وضعت الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا، ترتيبات أمنية تواكب مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، اتخذت شكل أحلاف عسكرية، لكنها اصطدمت بقوى شعبية رافضة رغم تحالف أنظمة عربية خائنة للقضية الفلسطينية وللوحدة العربية، وما نشاهده اليوم من رفض شعبي في فلسطين واليمن وسوريا وباقي الشعوب في الدول العربية للسياسة الأمريكية الرامية إلى السيطرة على المنطقة بكاملها، والمقصود من التواجد الأمريكي في المنطقة هو ضرب الطوق على دول الخليج وخاصة إيران والعراق واليمن، لمنعها من لعب أي دور في المنطقة، لكن أمريكا تغيب عنها حقيقة ثابتة وهي أن حصار دول المنطقة وسرقة خيراتها البترولية سيكون مكلفا، حيث أن تدخلاتها في كثير من دول العالم كلفتها خسائر بشرية ومادية جسيمة واجهتها منظمات حقوقية وشعبية في العالم وفي أمريكا نفسها باحتجاجات قوية رافضة للتدخل العسكري الأمريكي كما وقع أثناء التدخل في العراق وإعدام الرئيس صدام حسين، وكانت أمريكا تبرر تدخلها العسكري في العراق بمنعه من امتلاك الأسلحة النووية ومحاربة الإرهاب، لكن الحقيقة أن ذلك التدخل كان بهدف إضعاف قدرات العراق العسكرية والاقتصادية وحماية أمن إسرائيل، كما كان يهدف إلى وضع اليد على ثروة العراق النفطية الهائلة من طرف مسؤولي شركات نفط أمريكية كبيرة من بينها مجموعة “هاليبرتون النفطية” التي كان نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني، يتولى إدارتها، والدليل على ذلك، أن وزارة الدفاع الأمريكية منحت شركة النفط الأمريكية عقدين مختلفين: الأول بسبع مليارات دولار لإعادة البنى التحتية النفطية العراقية والتزويد بالمنتجات النفطية المكررة في العراق، والثاني لتقديم دعم لوجستي للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بقيمة 8.6 مليارات دولار، كما أكدت وثائق سرية حكومية بريطانية وجود علاقة قوية بين شركات ومؤسسات نفطية وبين عملية غزو العراق، وقالت أن خططا لاستغلال الاحتياطي النفطي العراقي تمت مناقشتها بين مسؤولين حكوميين بين كبريات الشركات النفطية العالمية، وخاصة البريطانية منها شركة “شال” قبل عام من تاريخ غزو العراق، وهذا يدل على أن التخطيط للغزو العسكري كان بمشاركة شركات البترول الكبرى، وكشفت وثائق سرية أن الشركات البريطانية ستكون لها حصتها من الاحتياطات العراقية الهائلة من النفط والغاز مقابل التزامها سياسيا، وذلك مكافأة لها على الدور الذي ستقوم به بريطانيا عسكريا لإسقاط النظام العراقي، وهذه العملية تذكرنا بأفلام “رعاة البقر” الذين يتفقون على سرقة ونهب مؤسسة بنكية لاقتسام الغنيمة بينهم، وهذا العدوان، مع الأسف، شارك فيه بعض الحكام العرب اعتقادا منهم بأن الرئيس صدام حسين يهدد الأمن والسلم في المنطقة، وفي مطلع يناير 2003، أعلن الرئيس جورج بوش أن بلاده جاهزة وعلى استعداد عسكريا للتدخل في العراق إذا رفض العراق نزع أسلحة الدمار الشامل التي يملكها، وبذلك تكون أمريكا قد خدعت في عدوانها على العراق عشرين دولة استخدمتها لغزو هذا البلد، بالإضافة إلى قوى المعارضة بكردستان التابعة للحزبين الرئيسيين “البشمركة” العراقية والتنظيمات المقيمة بالمهجر، والأحزاب الشيعية اللاجئة، وشخصيات تعيش في أوروبا. كل هذا من أجل حبك خيوط عملية الغزو لإضفاء الشرعية على عملية عسكرية غير شرعية تم تنفيذها دون موافقة مجلس الأمن، لكن الغزو العسكري الأمريكي الذي قام على أساس أن العراق يهدد دول المنطقة عن طريق أسلحة الدمار الشامل، ما هو إلا ذريعة وخدعة هدفها سيطرة أمريكا وحلفائها على منابع النفط والغاز العراقي، وأمريكا التي اتهمت العراق بإنتاج أسلحة نووية هي نفسها أول دولة طورت أسلحتها النووية وأنظمة إيصال الأسلحة بعيدة المدى وأجرت أكثر من 1000 تجربة نووية وأنفقت أكثر من 8.75 تريليون دولار لتطوير الأسلحة النووية، واستعملت العنف ودمرت دولا عديدة عن طريق التدخل العسكري في كوبا وغواتيمالا والدومينكان وكامبوديا وأفغانستان وليبيا والصومال ورواندا وهايتي، ودولا أخرى ذات سيادة، وكان التدخل العسكري الأمريكي في العراق بتأييد من بعض الدول العربية الخليجية التابعة لأمريكا خلافا للمادة 7 من ميثاق الأمم المتحدة التي تسمح باتخاذ تدابير زجرية كلما وقع تهديد للأمن والسلم الدوليين.

فأمريكا التي اتهمت العراق بامتلاك أسلحة الدمار الشامل هي نفسها التي أنتجت 70000 رأس نووي منذ سنة 1945 استعدادا لهجوم نووي محتمل، وللتذكير، فإن قوات حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا، أثناء الحرب العالمية الثانية، استخدمت القصف الجوي على المدن والمدنيين ذهب ضحيته أكثر من مليونين ونصف المليون قتيل، وارتكبت مجازر رهيبة ضد الإنسانية وجرائم حرب بشعة وقتل الأسرى في ألمانيا واليابان، ولم يتم التحقيق فيها إلى يومنا هذا، وقد أكدتها دراسات مثل كتاب “معركة نورماندي دي- داي”، وكانت أمريكا تنظر إلى أسرى الحرب على أنهم غير آدميين، وبلغ عدد قتلى جرائم الحرب التي ارتكبتها أمريكا والموثقة لدى البنتاغون من ضمنها مجزرة “ماي ماي” في الفيتنام الجنوبية، 504347 مدني أغلبهم من النساء والأطفال الأبرياء، حيث استخدمت السلاح النووي والرش الكيماوي البرتقالي والأزرق والأخضر لتدمير وحرق وإتلاف البشر والحقول والقرى.

وتعتبر القضية الفلسطينية أشهر وأبرز القضايا التي لعبت فيها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية متزعمة حقوق الإنسان في العالم، دورا شيطانيا خبيثا، إذ ساهمت في اقتلاع شعب بأكمله من أرضه ربما لأول مرة في التاريخ الحديث، ليحل محله كيان صهيوني تهافت على أرض فلسطين من جميع أنحاء العالم امتثالا لدعوة الحركة الصهيونية العنصرية التوسعية بزعامة مؤسسها تيودور هيرتزل، المهندس والأب الروحي للصهيونية.

فبميلاد الأمم المتحدة عام 1948، ساندت أمريكا الصهاينة على احتلال القدس وأجزاء كبيرة من فلسطين بدعوى حق مزعوم لليهود فيها، وبعثت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة خاصة لاستطلاع رأي السكان لتقدير الموقف، وبضغط من أمريكا وضعت الحركة الصهيونية ما يسمى بـ”خطة أكثرية” لتقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية وتدويل مدينة القدس، ورغم إدانة إسرائيل عشرات المرات في مجلس الأمن وآلاف المرات في لجان الهدنة، بسبب أعمال العدوان المستمر ضد الشعب الفلسطيني، إلا أن الأمم المتحدة دوما تعجز عن إدانة العدوان الإسرائيلي، وظلت أمريكا تدعم إسرائيل وتساندها عسكريا وسياسيا واقتصاديا إلى يومنا هذا..

ولا ننسى أن الدول الغربية التي أصدرت إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789، هي التي احتلت مصر بقيادة نابليون، وقسموا الوطن العربي إلى دويلات مصطنعة صغيرة لإضعاف القدرات العربية ولتسهيل عملية نهب وسرقة خيراتها الطبيعية أهمها النفط والغاز، ولا ننسى كذلك أن هيئة الأمم المتحدة التي أصدرت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، اعترفت بدولة إسرائيل وأنكرت حق الشعب الفلسطيني في الوجود، وأمريكا التي تتزعم اليوم الدفاع عن أوكرانيا التي كانت حقيقة جزء من الاتحاد السوفياتي، هي التي اعترفت بالكيان الصهيوني 5 دقائق بعد إعلان قيام إسرائيل في 14 ماي 1948، وكانت سببا في النكبة منتهكة بذلك العرف الدولي بخصوص الاعتراف بالدول الجديدة، وأمريكا التي أزعجها استعمال روسيا لحق “الفيتو” داخل مجلس الأمن، هي التي استعملت هذا الحق عشرات المرات لعرقلة قراراته الصادرة ضد إسرائيل، كما ظهر تواطؤها مع إسرائيل عندما عارضت في 19 مارس 1948 صدور قرار عن مجلس الأمن يتضمن اتخاذ الإجراءات التنفيذية لضمان حقوق الشعب الفلسطيني ضد سياسة التوسع أثناء حرب 5 يونيو 1967، فأعلنت أمريكا عن مساندتها لإسرائيل وأعطتها الضوء الأخضر لكي تبدأ الحرب وقال الرئيس كلينتون أمام الكنيست الإسرائيلي في 27 أكتوبر 1994: “رحلتكم هي رحلتنا وأمريكا إلى جانبكم الآن وعلى الدوام”.

وتقوم السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، على عزل ومنع أي دولة عربية من لعب أي دور سياسي أو عسكري، حتى تبقى إسرائيل هي المتفوقة والبقاء على الحدود المرسومة حسب اتفاقية “سايكس بيكو” المشؤومة التي قسمت الوطن العربي إلى دويلات مصطنعة، لإضعافها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، ولإبقائها دوما مرتعا للشركات الأمريكية والأوروبية، وكانت إسرائيل – منذ نشأتها – تسعى بشتى السبل والوسائل كي تقيم علاقات علنية مع الدول العربية والإسلامية، ليس من أجل التعاون، بل من أجل احتوائها والسيطرة عليها سياسيا واقتصاديا مستغلة في ذلك التغيرات الإقليمية والعالمية، خاصة بعد توقيع مصر والأردن لاتفاقيتي “كامب ديفيد” عام 1977 و”وادي عربة” عام 1994، ومما شجع إسرائيل على التطبيع هو تساقط أنظمة مركزية، وصراع دول الخليج مع إيران، الأمر الذي جعلها تحصد ثمارا دبلوماسية هي في الحقيقة اتفاقات تطبيع مع بعض دول الخليج، وفي هذا الاتجاه تأتي زيارة جو بايدن إلى المنطقة العربية، لتثبيت أقدام أمريكا في المنطقة بعد اهتزازات كان لها أثر سلبي على العلاقات الأمريكية الخليجية، وهي لا تسعى إلى إقامة أنظمة ديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان كما تزعم، بل من أجل حماية مصالح أمريكا الاقتصادية والسياسية برعاية إسرائيل، حارسها في المنطقة العربية، وظل الرئيس السابق دونالد ترامب يدافع عن المملكة السعودية لكنه تساءل عن استمرار أمريكا في الدفاع عن النفط السعودي الذي يباع للصين والدول الآسيوية وليس لأمريكا وأوروبا، وبدأ التفكير في إعادة النظر في الأموال التي تنفق والجنود الذين تذهب أرواحهم للدفاع عن مملكة دينية لا تتوافق مع القيم الأمريكية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى