أسرار التعليم | تحويل التعليم الجامعي إلى تعليم ثانوي
التعليم العالي يئن من فرط التناقضات التي تئن من وطئتها المنظومة التعليمية للبلاد ككل، حيث يسود القلب المثير للمفاهيم إلى الحد الذي تحولت معه المؤسسات التعليمية إلى فضاء للهدر المدرسي بامتياز. امتلاك اللغة، آلية التواصل تم تضييعه حيث يجب، خلال التعليم الابتدائي. نفور كل من المعلم والمتعلم على السواء، كل بطريقته، من العملية التعليمية وما يمس لها بصلة، نظرا للتضخم المعرفي الكمي والنوعي المهول الذي أعجز كلاهما، من طور التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي التأهيلي. ثم، في هذه البيئة التربوية الموبوءة نمت وتفشت ظاهرة الغش بكل ألوان الطيف، بحيث تحولت إلى منظومة ثقافية تلقي بظلالها على كل المستويات. التلاميذ الذين شبوا في هذا المناخ والذين يرون في الغش حقا مكتسبا حطوا الرحال بالجامعة، فأصبح ما يسمى بالطالب يعمل على فرض أجندته على الأستاذ الجامعي الذي لم يعد يدري كيف يتعامل مع هذا الوضع المنافي لأبجديات التعلم والتكوين.
قلب المفاهيم يتجلى كذلك في تحويل التعليم العالي والجامعي إلى تعليم ثانوي متقدم، بل تم قلب المعادلة رأسا على عقب. تم تقليص مدة تكوين الطلاب من 4 إلى 3 سنوات وتم تخفيض ساعات التكوين الأسبوعية وحصص الأعمال التطبيقية إلى النصف في مقابل إرهاق التلاميذ عقليا وجسديا إرهاقا شديدا بمقررات دسمة عسيرة على الاستيعاب. بالموازاة، فقد تم تمييع التكوين الجامعي المقزم ببرمجة وحدات من قبيل “الأنشطة المدرسية الموازية” وتعلم اللغة. يتم التعامل مع التلميذ الصغير كطالب متمرس بينما تم تحويل الطالب إلى تلميذ مبتدئ لا يحسن مراجعة دروسه وتنظيم وقته، بحيث يتم التعامل معه بالمقاربات البيداغوجية الخاصة بالصغار.
والسؤال الملح الذي يطرح نفسه على اللجنة الوطنية لتنسيق التعليم العالي (CNCES) يتعلق بهذه التناقضات الصارخة التي تنخر صرح المنظومة التربوية والتعليمية للبلاد. بداية لا يجب أن ينحصر دور اللجنةفقط في “تنسيق التعليم العالي” لأن كل أطوار التعليم مترابطة فيما بينها؛ فلا بد من التعامل مع وضع منظومتنا التربوية بمقاربة شمولية تعيد الأمور إلى نصابها، إلى ما كانت عليه الأوضاع فيما قبل، من ترابط وتناسق وتكامل بين الأطوار. ثم، هل يعقل أن يتم تبني إصلاح بيداغوجي بنكهة “جامعة النجاح”، خلال الدخول الجامعي المقبل (على غرار مدرسة النجاح)، يفضي إلى إنجاح حتى الأميين من “الطلبة” ليتم الإلقاء بهم في أخر المطاف بالشوارع للإكثار من طوابير المعطلين المرابطين بها؟ ثم ما القيمة التكوينية المضافة لبرمجة وحدات من قبيل “الأنشطة المدرسية الموازية” وتعلم اللغة التي تم الإجهاز على تعلمها حيث يجب، في الوقت الذي يتطلب الأمر العمل على تدارك ما يمكن تداركه من اختلالات بنيوية وهيكلية في النسق والنسيج المعرفي لأبنائنا؟ فهل يعقل القبول بهذا القلب المثير لأبسط المبادئ البيداغوجية في زمن التنظيرات التربوية والبيداغوجية العتيدة التي تملأ الآفاق صخبا؟
فيما يتعلق باستحداث المسالك والوحدات من منظور الهندسة البيداغوجية، هل المعايير والمقاييس المعتمدة لقبولها علمية ومقننة بكيفية محكمة، أم يتعلق الأمر بمنظور وهواجس كل عضو من أعضاء اللجنة الوطنية؟ نعم، يتم قبول اعتماد مسلك ما، بعد قبول الأستاذ المنسق بتوصيات وملاحظات اللجنة، لكن المثير في الأمر أن يتم فيما بعد تقديم توصيات معاكسة تماما للتي تم تقديمها من قبل. ثم، لماذا لا يتم استفسار المصالح الجامعية المختصة بخصوص إمكانية الاستجابة للمتطلبات المادية والتجهيزات الخاصة، وفي الآجال المحددة، لإنجاز مسلك ما تم قبوله من طرف اللجنة الوطنية بعد استجابة المنسق لتوصياتها قصد تهيئة الظروف المواتية للتكوين كما هو مسطر له؟
أ. د. عبد الله لخلوفي
رئيس مركز الدراسات والأبحاث والتقييم للتربية والتكوين