تحقيقات أسبوعية

للنقاش | عندما يُستعمل الدين لأغراض سياسية

العديد من المتزمتين والمستغلين للدين، يجعلون ما في الروايات الكثيرة التي ألفها أو تناقلها مرتزقة الخلفاء والسلاطين من رجال الدين، المرجع الوحيد في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإن ناقض الكثير منه القرآن أو ناقضت الروايات بعضها البعض، أو كان ما هو منقول ومتواتر منافيا لأحكام العقل والمنطق والفطرة الإنسانية، فبروز هذه الظاهرة المؤسفة كان دافعه الأساسي التاريخي هو السياسة والاستيلاء على السلطة عن طريق استعمال الدين، ولذلك فإن تلك الوضعية خدمت بالدرجة الأولى الحكام الطغاة ودعمت حكمهم الظالم وقدمت لهم المبررات الشرعية للتمادي في الظلم والقمع واضطهاد واستغلال الشعوب، وذلك منذ بدء حكم سلالة بني أمية واستفرادهم بالسلطة، وهذه الوضعية ممتدة إلى أيامنا هذه، حيث تتعاظم الجهود وتشتد في هذا المجال، بجعل الدين سبيلا ممهدا ومضمونا للاستيلاء على السلطة وكراسي الحكم وجمع المال والثروة والحصول على الطاعة العمياء والجاه، وعن طريق الدين كوسيلة رئيسية ذات فعالية من أجل تثبيت دعائم الحكم والاستحواذ كليا على ما فوق البلاد وما في باطنها عن طريق استخدام الدين وسيلة فعالة لتدويخ الشعوب بأفكار شيطانية.

 

إعداد: حسوني قدور بن موسى

محامي بهيأة وجدة

 

    لقد كان معاوية بن أبي سفيان أول من استغل الدين ورجال الدين بذكاء ودهاء ومنهجية، لإضفاء الشرعية على حكمه الذي اغتصبه بالحرب والمكر والمال، وعلى حكم ابنه يزيد وحكم أسرته بني أمية من بعدهما، وقد كان معاوية سياسيا محنكا وبعيد النظر، لذلك كان يتعامل مع الأمر كله من منظور استراتيجي شمولي، وهذا كان أمرا غير معتاد في تلك الأزمنة القديمة، وهكذا، فقد أصبح “تلقائيا” قدوة لمن أتوا من بعده من حكام المسلمين من خلفاء بني أمية باستثناء الخليفة عمر بن عبد العزيز ومن خلفاء بني العباس ومن سلاطين آل عثمان، وغيرهم من الحكام الجائرين الذين حكموا البلاد باسم الدين، ولا زال الدين قدوة للحكام في عصرنا الحالي، وقد أساء معاوية بذلك إلى الدين إساءة مزدوجة، حيث استخدم الدين لأطماعه السياسية في انتزاع الحكم وتثبيته من بعده، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، أساء إلى الدين بإبعاده عن جوهره وروحه الأصيلة وبتلويث صفائه وخلق الشكوك من داخله وإحداث البدع فيه، لعل أخطرها وأبشعها بدعة اعتماد التوريث أساسا لنقل السلطة بدلا من مبدأ الشورى.

إن ظاهرة استغلال الدين لا زالت موجودة في مجتمعنا المغربي، خاصة فيما  يتعلق بطريقة تعاطي رجال السياسة مع الدين، كما أن علاقة المجتمعات العربية والإسلامية عامة بالدين الإسلامي، وعلى امتداد أكثر من 14 قرنا، هي علاقة نفعية ومصلحية واستغلالية، سواء من طرف الأنظمة الحاكمة أو الأحزاب من أجل توظيف الدين في غير أهدافه ومقاصده في سوق السياسة والاقتصاد والصراعات المذهبية والطائفية، فكان أول توظيف سياسي للدين، مشهد رفع  المصاحف طلبا للتحكيم في الصراع بين علي ومعاوية، ليتطور بعد ذلك ليرفع الخوارج شعارهم “لا حكم إلا حكم الله” غطاءً شرعيا لرفضهم شرعية خلافة الإمام علي، وتأصل هذا التوظيف واستمر على يد خلفاء بني أمية وبني العباس وبني عثمان إلى سقوط نظام الخلافة على يد أتاتورك عام 1923، ولا زال “التسييس الديني” مستمرا إلى يومنا هذا، واستثمر خلفاء المسلمين الدين في توطيد حكمهم وإسباغ الصفة الشرعية عليه بهدف إخضاع الرعية لسلطتهم وقمع المعارضين السياسيين عبر استتباع “المؤسسة الدينية”، وتقريب مشايخ وعلماء السلاطين أفتوا وشرعنوا كثيرا من السياسات والتصرفات التي لا تتفق مع الأهداف الشرعية، وقد استغلت الأنظمة الحاكمة الفتاوى الدينية في قمع وتصفية المعارضين السياسيين من الساحة السياسية على مر التاريخ الإسلامي، واتهامهم ظلما بالبغي والخروج عن طاعة إمارة المؤمنين وإثارة الثورات والفتن وشق عصا الطاعة، وتعني الطاعة العمياء، واستمر هذا التوظيف النفعي المكيافيلي للدين إلى يومنا هذا على يد معظم الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج، عبر تحالفات خطيرة بينها وبين جماعات دينية تمارس السياسة النفعية بهدف كسب أصوات المواطنين المغفلين في الانتخابات ضد القوى الأخرى المنافسة لهم في مقابل دعم السلطات لها وتمكينها ماديا ومعنويا وإعلاميا.

مما لا شك فيه، أن العلاقة بين الدين والسياسة تعتبر إحدى أهم المواضيع التي تشغل بال المفكرين في المجالين الديني والسياسي، وقد احتدم الخلاف بين فئة داعية إلى الفصل التام بين الدين والسياسة وهم العلمانيون، وفئة أخرى تدعو إلى تطبيق الشريعة الدينية في النظام السياسي وتؤكد على ضرورة أن تكون الشريعة هي المصدر الأساسي للحكم والتشريع في الدولة وهم “السلفيون” أو “الأصوليون”.  
وكان لتطبيق العلمانية في دول الغرب أثر كبير في تحديث النظام السياسي وترسيخ أسس الدولة الوطنية وإشاعة الحريات الدينية على مختلف أشكالها، ولم تعد تؤثر فيه العقيدة الدينية حتى أن البعض بات يعتبر الإيمان بالله أسطورة ولّى زمانها، لكن إذا نظرنا إلى واقع الحال في الدول التي تطبق الشريعة الدينية، فإن الوضع هناك ليس أفضل حالا من الدول العلمانية. فالأنظمة التي تعتبر نفسها مطبقة للشريعة وإن ساهمت في ترسيخ بعض المبادئ الدينية السامية في المجتمع، فأنها قمعت الحريات الفردية والجماعية باسم الدين، واستغلت سلطان الدين من أجل فرض نمط معين من الحياة في البلاد، ووقفت في وجه كل محاولة لتغيير وإصلاح النظام السياسي، هذا فضلا عن انتشار الفساد والرشوة واستغلال النفوذ والاتجار في المخدرات وتزوير الانتخابات…

إذن، لا العلمانية على النمط الغربي هي الحل، ولا تطبيق الشريعة الدينية على النمط الإسلاموي الشرقي هو الحل أيضا.
إن تدبير الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية لها رجالها المتخصصون، لأن رجال الدين ليس لديهم ما يقدمونه في هذا العصر الذي يتجدد فيه كل شيء على الدوام وبسرعة بالغة، ذلك أن روايات رجال الدين لا تصلح في مجملها لحل الأزمات والمشاكل في هذا الزمان الذي يبطل فيه السحر ويسود فيه العلم والعقل سيادة شبه تامة وتطورت فيه التكنولوجيا والعلوم بشتى أنواعها.

توظيف الدين في السياسة أدى إلى الفتن والانشقاقات داخل الدين الواحد

    في تاريخ الديانات التوحيدية الثلاث، حصلت العديد من الانشقاقات التي أخذت طابعا دمويا، لارتباطها بقضايا التنافس والصراع على السلطة.

في مجتمعنا المغربي، هناك جماعات دينية تحاول العودة بنا إلى هذه العصور القديمة البائدة وإضفاء خرافة “ولي الله” على رئيس الحزب، لتدويخ المواطنين الذين يعيشون في دار غفلون حتى ينعم رئيس الجماعة ومن معه بالسلطة والمال ويظل من صوت عليهم وأوصلهم إلى كرسي الحكم يقبعون في الجوع والتعاسة والفقر والحرمان.

إن أهم معضلات الدولة العربية، توظيفاتها النفعية للدين، والتي تقوم على أهداف قصيرة وآنية المنفعة، الأمر الذي عمق مأزق شرعية الدولة، فكل محاولات الدولة العربية الاستعانة بالمعتدلين الإسلاميين لمواجهة جماعات متطرفة، لم يفرّخ إلا المزيد من القيادات المتطرفة كما في التجربتين المصرية والجزائرية، على أن الأمر الذي يجب إبرازه، هو أن الجماعات الدينية الناشطة هي الأكثر استثمارا للدين في سوق السياسة والمزايدات الحزبية، وهذا داء قديم ممتد عبر العصور التاريخية إلى يومنا هذا، إذ كان السلاح الأقوى بيد الجماعات الدينية المعارضة في صراعها ضد السلطة الحاكمة، هو سلاح “الدين”، بهدف نزع الصفة الشرعية عن السلطة واتهامها بأنها لا تطبق الشريعة العادلة، هكذا فعل الخوارج القدامى وكل الجماعات الدينية المعارضة من بعدهم، وهو ما تفعله الجماعات الدينية المعاصرة اليوم في خطابها التحريضي والابتزازي ضد الأنظمة الحاكمة، والذي مفاده أن عدم مشاركتها في الحكم سوف يغرق البلاد  في الفتنة والفوضى، وقد أضافت هذه الجماعات تهما جديدة ضد الأنظمة الحاكمة هي: أنها تتحالف مع الغرب الكافر “الصليبي الحاقد المتآمر على الإسلام”، وأنها تنفذ الأجندة الغربية ضد الإسلاميين بهدف “تغريب” المجتمعات الإسلامية وعلمنة الدولة معا، مما حوّل الصراع السياسي إلى صراع ديني “وهمي” يعرقل مشاريع التنمية والتحديث ويجمّد الأوضاع السياسية والاقتصادية ويعيد مجتمعاتنا إلى الوراء قرونا عديدة، وهذا هو الحاصل اليوم على يد “داعش” وكافة المجتمعات المسلحة المسيّسة في العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال وغيرها من الدول.

إن تسييس الدين هو “الآفة” الكبرى و”المعوِّق” الأخطر لتجاوز هُوّة التخلف، وأسوأ ما يمكن أن يصاب به أي مجتمع بشري، هو أن يتحوّل رجال الدين إلى علماء في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، يزاحمون السياسيين والاقتصاديين خريجي الجامعات والمعاهد، ويلعبون في ملاعبهم وهم غير مؤهلين للقيام بأمور الشأن العام، فهم بذلك يُفسدون الدين والسياسة، وما تعانيه مجتمعاتنا اليوم من التردي العام والاضطرابات وانعدام الأمن والفقر والحرمان، هو أحد تجليات الخلط بين السياسي والديني، وقد ساعد على هذا الخلط، أن مجتمعاتنا تستفتي الفقيه والشيخ في كل كبيرة وصغيرة في شؤونها، وتلتمس منهما حلولا لقضاياها المعاصرة، فما نراه على امتداد الوطن العربي من مشاهد عنف وإرهاب ومجازر ودماء وتهجير الملايين من البشر من ديارهم ما هو إلا ثمرة من ثمار هذا التوظيف السياسي السيء والخطير للدين، مع أن هذا الدين يقول للمسلمين: “أنتم أعلم بأمور دنياكم” في إشارة إلى ضرورة التمييز بين الديني والدنيوي وأن الخلط بينهما يفسدهما معا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى