تحقيقات أسبوعية

دراسة | أهمية تنزيل القانون الجنائي وقانون المسطرة المدنية في احترام الدستور ورفع الظلم

من أجل عدالة ناجزة

تكون العدالة بطيئة، حينما يفوق حجم القضايا المعروضة على المحاكم قدرة هذه الأخيرة على البت فيها داخل أجل معقول، بحيث ينتج تراكم للقضايا ومخلف يثقل كاهل العدالة ويعوق سيرها وجودة أدائها.. فليس هناك ظلم أشد من عدالة بطيئة كما عبر عن ذلك الفيلسوف الروماني سينيكا منذ 2000 سنة، وهي مقولة تنطبق في الوقت الحاضر على العديد من الأنظمة القضائية التي أصبحت تلهث وراء تحقيق الكم المحكوم عوض أداء رسالتها السامية المتمثلة في حل نزاعات بشرية بطريقة منصفة ومبسطة وفي زمان معقول.. فما هي أسباب هذا الداء؟ وما هي سبل مواجهته؟

بقلم: حسن مزوزي
من هيئة المحامين بالقنيطرة

    أسباب بطء العدالة جد معقدة ومتعددة الأبعاد، إلا أنها لا تخرج عن التركيز المبالغ فيه في الشكليات المسطرية التي تقدس القاعدة القانونية وتنزع الصفة الإنسانية عن العاملين في مجال العدالة من جهة، ومن جهة أخرى، على مخلف القضايا التي لم يتم البت فيها والمؤدية إلى تراكم الملفات.

بالنسبة للجانب الأول، فإن الأمر يقتضي ضرورة القطع مع العمل القضائي كمتاهة تضيع فيه العدالة وسط الأوراق، أو كشعيرة مقتصرة على نخبة القانونيين، بل هي رسالة، فضلا عن اعتمادها على تنزيل قواعد قانونية جديدة ووسائل تكنولوجية معقدة وبنية تحتية لائقة، فإنها تتطلب أساسا تغييرا نموذجيا في عقليات العاملين في مجال العدالة الذين تقع على عاتقهم مسؤولية القطع النهائي مع البيروقراطية والطقوس العقيمة، والاقتناع بأنهم صانعو سلام يخدمون قضايا إنسانية عوض التعامل مع ملفات.

تتمة المقال بعد الإعلان

وبالنسبة للجانب الثاني، المتعلق بالتراكم والمخلف، فإنه ناتج عن ثقافة التقاضي والانتقام السائدة في المجتمع، والتي تستغل كل مناسبة لإنتاج ملفات أمام المحاكم، مما يتعين معه التعامل مع المخلف على كونه أيضا إنسان من لحم ودم متعطش للإنصاف، وبالتالي، فلا مناص من إشاعة ثقافة التسامح والقطع مع ثقافة التقاضي والانتقام.

وإذا كانت ظاهرة بطء العدالة تقرأ كنتيجة ثقة الناس في القضاء، فإن مواجهتها ضرورية لتحسين جودتها، وذلك عن طريق تبسيط المساطر التي تجعلها أقل كلفة، وتفادي الشكليات المبالغ فيها، وهي أعطاب دفعت بأغلب الأنظمة المتطورة قضائيا، إلى اعتماد أساليب براغماتية تخلت فيها عن مذاهبها القضائية المعتمدة، لنجد أن الأنظمة الأنجلوسكسونية تأخذ عن الأنظمة اللاتينية لحل مشاكلها والعكس صحيح، بل إن الأنظمة القضائية المتطورة أصبحت تشكل خليطا من المذاهب، فنجد على سبيل المثال، أن النظام القضائي الأمريكي، وتحت ضغط  التراكمات التي عرفها نظامه بداية ستينيات القرن الماضي، تخلى عن أسلوبه الاتهامي الذي يعتمد حياد القاضي، واعتماد الأسلوب التحقيقي حتى يتأتى له التدخل لتبسيط المساطر والدفع بالأطراف نحو الحلول البديلة المبنية على التفاوض، كما أن الدول الأوروبية بدورها تخلت عن بعض خصائص أنظمتها لتأخذ عن المذهب الأنجلوسكسوني لإيجاد حلول لمشاكلها، كالوساطة مثلا.

إن أغلب الاقتراحات التي همت مواجهة التراكمات، تصب في اتجاه تشجيع اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات، وذلك بتفعيل دور الوساطة كبديل لفظ المنازعات وجعلها إلزامية في بعض القضايا، وهو منحى محمود من شأنه المساهمة بقدر وفير في مواجهة بطء العدالة، وذلك بعدم الاقتصار على الوساطة الاتفاقية المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية المغربي، بل يتعين تبني الوساطة القضائية.. فقد أثبتت إحصائيات قام بها البنك الدولي، بأن “الوساطة القضائية ساهمت في حل 80 % من القضايا، وتوفير 75 % من نفقات النظام القضائي، ذلك أن نزاعا أمام محاكم الدرجة الأولى بالمحاكم الأوروبية بدون طعون واستئناف، يدوم 548 يوما وبتكلفة 10499 أورو، في حين إذا ما تم اللجوء إلى الوساطة، فإن القضية تستغرق 88 يوما فقط وبتكلفة تقدر بـ 2497 أورو”.

تتمة المقال بعد الإعلان

إن الوساطة هي طريقة مثلى لاختزال الوقت والمال، ولا شك أن دور المحامي جد كبير في توجيه زبونه إلى الوساطة وتوجيهه أثناء إجراء مفاوضات مع خصمه، وتتبع أطوار الوساطة مع زبونه، ولعل أهمية هذه الوسيلة تكمن في حياد الوسيط والسرية التي تطبع المسطرة.. ففي النظام الأمريكي، يلعب المحامون دورا مهما في سير الدعوى، عن طريق إجراء الأبحاث واستعراض الشهود والحصول على معلومات منتجة والتقصي حول الشهود ووسائل الإثبات الموجودة بحوزة الأطراف، ونتيجة لذلك، يتم البت في أغلب الدعاوى المدنية قبل وصولها إلى جلسة الحكم التي لا تصلها من القضايا إلا في حدود 5 إلى 10 %، وبالتالي، يكون دور المحامي حاسما فيها أكثر من القاضي، وفي المرحلة الاستئنافية، يتم الاقتصار على ما تم تسجيله أثناء المرحلة الابتدائية من محاضر للحسم في القضية في زمن يسير.

وأمام التراكمات التي بدأت تعرفها محاكم الاستئناف، التجأت هذه الأخيرة إلى:

1) خلق مجموعات عمل قانونية تابعة للمحكمة تعمل مباشرة مع القاضي، وتكون مهمتها إجراء فرز أولي للاستئنافات، وإعداد تقرير عن كل ملف على حدة، واقتراح قرار يساعد القاضي على تصفية الملفات (وهي تجربة اعتمدها المجلس الأعلى – محكمة النقض – في إطار تنظيم العمل داخليا في ثمانينيات القرن الماضي، وساهمت في تصفية العديد من القضايا رغم الإمكانيات البسيطة آنذاك).

تتمة المقال بعد الإعلان

2) اعتماد المساطر السريعة، أي سلوك مساطر مختزلة بالنسبة للاستئنافات التي تعتبر بسيطة ويمكن فيها تجاوز بعض المراحل المسطرية التي لا يترتب عنها إلحاق ضرر بالأطراف في حالة عدم احترامها.

والجدير بالذكر، أن النظام الأمريكي احتفظ بخصوصيته المتمثلة في منح الحق للأطراف في المحاكمة من قبل هيئة المحلفين.

تتمة المقال بعد الإعلان

كما أن دراسة قامت بها مجموعة عمل بطلب من الوزيرة الفرنسية السابقة، كريستيان توبيرا، في أفق خلق تصور للتقاضي للقرن 21، انتهت إلى خلاصة مفادها أن المتقاضي يدخل في النزاع دون معرفة أفق دعواه، وبالتالي، فإن تأطيره وجعله ملمّا بما ينتظره من مساطر، يجعله أكثر قابلية للالتجاء إلى الحلول  البديلة، واقترحت المجموعة في هذا الصدد، إيجاد آليات مسطريه تسمح بالانتقال أثناء الدعوى من المسطرة الكتابية إلى المسطرة الشفوية لتسهيل الوساطة وإجراء مفاوضات قصد الوصول إلى حلول متفاوض بشأنها، وهي وسيلة تهدف إلى استقطاب قضايا أخرى لم يتم فيها اللجوء إلى الوساطة منذ البدء، وقد رأت هذه المجموعة، أن أفضل سبيل لجعل المتقاضي ملمّا بالمساطر، هو خلق نظام المراجع أو الملف النموذجي، والذي يمكن الجميع من معرفة المدى الزمني للبت في كافة مراحل التقاضي وضبط التعثرات التي يمكن أن تلحق الملف.. هل هي راجعة للهيئة الحاكمة، أم لخلل في التبليغ يعزى للعون القضائي، أم لعدم إنجاز الخبرة في إبانها يعزى للمتقاضي الذي لم يودع صائر الخبرة أو الخبير، وهكذا..

وتجدر الإشارة إلى أن محكمة النقض يمكنها أن تلعب دورا مركزيا في مواجهة الظاهرة، وذلك بتطوير عملها الذي يجب أن يتعدى البت في النزاعات، إلى الإفتاء قبل رفع المنازعات إلى القضاء، بحيث يمكنها أن تضع يدها على نقط قانونية خلافية لتقول كلمتها في حلها القانوني، وهو المنحى الذي سلكه القانون الفرنسي رقم 491-91 الصادر بتاريخ 15/05/1991، حينما اعترف لمحكمة النقض الفرنسية بحق إبداء الرأي والمشورة (La saisine pour avis)، ذلك أن محاكم الموضوع، وقبل البت في بعض الطلبات المتعلقة بتطبيق بعض النصوص القانونية الجديدة التي تكتنفها بعض الصعوبات في نزاعات متعددة معروضة عليها، يمكن لها أن تطلب من محكمة النقض، بمقتضى قرار غير قابل للطعن، الرأي والمشورة، ويتم البت في الطلب داخل أجل ثلاثة أشهر، ولقد ساهم هذا النص بشكل كبير في اختزال الجهد والوقت لمحكمة النقض الفرنسية، ولمحاكم الموضوع على السواء.

ما أحوج تشريعنا لمثل هذه التجربة، خاصة في بعض القضايا المتشابهة التي تطرح على محكمة النقض بكثرة، أو بالنسبة لبعض القضايا الخلافية أمام محاكم الموضوع كما هو الشأن بالنسبة للتضارب الذي عرفه تطبيق القانون رقم 49.16 بشأن التوفيق بين المادتين 8 و26 من القانون المذكور، ذلك أن المادة 8 تعفي المكري من أداء التعويض في حالة عدم أداء الوجيبة الكرائية المستحقة داخل أجل 15 يوما، فيما تنص المادة 26 على أن ((كل من يرغب في إفراغ محل مكترى، عليه أن يوجه للمكتري إنذارا بالإفراغ يمنحه فيه أجل 3 أشهر ويبين فيه السبب المعتمد))، فنجم عن تطبيق المادتين المذكورتين، انقسام بين المحاكم التجارية، بل حتى بين غرفتين داخل محكمة واحدة بشأن اعتماد إنذار أو إنذارين، وقد حسمت محكمة النقض أخيرا في الاكتفاء بإنذار واحد عوض إنذارين بمقتضى قرارها عدد 649/2 الصادر في 2021.12.02 في الملف عدد 2091/3/2/2019، وقد كان بالإمكان تفادي الانقسام الذي حصل في التطبيق المذكور لو كان هناك نص يسمح باستباق التردد على غرار النص الفرنسي المذكور.

تتمة المقال بعد الإعلان

كما أن التصدي للدعوى من قبل محكمة النقض – خلاف الأصل الذي يقتضي منها إما قبول النقض مع الإحالة أو رفض الطلب – يهدف إلى تفادي بعض الإحالات عندما يكون في متناول محكمة النقض إنهاء النزاع بصفة نهائية لتفادي ما اصطلح عليه لدى كبار القضاة بالنقض التعبدي، وقد نص على ذلك الفصل 368 من قانون المسطرة المدنية لسنة 1974: ((إذا نقض المجلس الأعلى الحكم المعروض عليه واعتبر أنه يتوفر على جميع العناصر الواقعية التي ثبتت لقضاة الموضوع بحكم سلطتهم، تعين عليه اعتبارا لهذه العناصر وحدها التي تبقى قائمة في الدعوى، التصدي للقضية والبت فورا في موضوع النزاع، أو في النقط التي التي استوجبت النقض))،  وأعتقد أن الضرورة والحكمة تستدعيان إعادة تنزيل النص المذكور، الذي لم يكن أي مبرر يدعو إلى إلغائه.

وتجدر الإشارة إلى أن محكمة النقض لا يمكنها أداء دور القاطرة للقضاء على بطء العدالة، إلا بمراجعة شروط الطعون أمامها، ولعل ما أفرزته تجربة تعديل الفصل 353 من قانون المسطرة المدنية والتي استثنت من اختصاص محكمة النقض الطلبات التي تقل قيمتها عن 20.000 درهم والطلبات المتعلقة باستيفاء واجبات الكراء والتحملات الناتجة عن مراجعة السومة الكرائية، (لعلها) دليل على مدى نجاعة هذه الوسيلة التي خلصت محكمة النقض من عدة قضايا تثقل كاهل قضاة أعلى هيئة وطنية يفترض فيهم التفرغ لإبداع اجتهادات من شأنها سد الثغرات الموجودة في النصوص عوض الانغماس في قضايا يتعين الحسم فيها أمام محاكم الموضوع، وتغليب هاجس الكم على الكيف، فلا يعقل تقييم قاضي  بأعلى هيئة قضائية وطنية استنادا إلى عدد الملفات التي أنتجها، وبالتالي، فإن الضرورة تقتضي البحث في إيجاد الآليات القانونية لتقليص عدد القضايا  المعروضة على محكمة النقض إسوة بالدول الرائدة، وأعتقد جازما أن هناك من القضايا ما يتعين استثناؤها إسوة بما أشير إليه في الفصل المذكور.

هذه بعض المقترحات لمواجهة بطء عدالتنا ولتحقيق عدالة ناجزة، ونهيب في هذا الصدد، بكافة الجهات المختصة، من أجل أن تأخذ بعين الاعتبار أهمية تنزيل قانون المسطرة المدنية، وقانون المسطرة الجنائية، والقانون الجنائي وغيرها من القوانين المنتظرة، لا سيما وقد مر على تنزيل الدستور ما يزيد عن عقد من الزمن، وهي وضعية غير مقبولة بالمرة ولا ترقى إلى الطموحات الرامية إلى رفع المعاناة والظلم عن المتقاضين من بطء الإجراءات، وهو ما يتطلع إليه رجال القضاء أيضا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى