الـــــــــــرأي | اِزدحام رمضاني هادئ أمام أبواب مساجد مراكش

بقلم. محمد بركوش
المسلمون في كل بقاع العالم (الإسلامي أو غيره) ينتهزون حلول شهر رمضان الأبرك (رغم ما يعانون من الهمجية الإسرائيلية) فيغتنمون أوقاته العظيمة في التعبد والتقرب إلى الله عز وجل، وفي الإكثار من فعل الخير والصدقات، انسجاما مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصدقة صدقة رمضان”، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: “من أفطر صائما على طعام أو شراب من حلال صلت عليه الملائكة في ساعات شهر رمضان، وصلى عليه جبريل ليلة القدر”، وأيضا في طلب المغفرة والرضوان ومضاعفة الأجر والثواب، عن طريق الاعتكاف وتلاوة القرآن الكريم والتردد على بيوت الله لاكتساب قيمة صلاة الجماعة المضافة، روي عن رسول الله صلى لله عليه وسلم أنه كان يطيل القراءة في رمضان أكثر مما يطيلها في غيره، فقد صلى مع حذيفة ليلة فقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء وهن بلا شك من أطول سور القرآن، وقال الربيع بن سليمان رحمه الله: “كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين (60) ختمة”، وأكد هذا أبو بكر الحداد الذي قال꞉ “أخذت نفسي بما رواه الربيع عن الشافعي إنه كان يختم في رمضان ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة، فأكثر ما قعدت إليه تسعا وخمسين وأتيت من غير رمضان ثلاثين ختمة” (سير أعلام النبلاء).
المسلمون يقضون كل الأوقات وكل الساعات وكل الليالي بتعهد كتاب الله (كما قال محمد ديرا) “قراءة وحفظا وتدبيرا وعملا وتطبيقا”، وبقيام الصلاة وذكر الله بدون كسل أو ملل، خلافا لمن “إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراعون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا”، وكأنهم في كل صلاة يسترجعون أو بالأحرى يراجعون قول الرسول عليه الصلاة والسلام: “الصلوات الخمسة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر”، وهذا الشيء منطقي طبعا لأن إتيان الفواحش والمناكر لا يستقيم مع الطاعة استنادا إلى قوله تعالى꞉ “إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر”، وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لن يزداد من الله إلا بغضا”.
إن ظاهرة الإقبال على الصلوات الخمس في أوقاتنا الاختيارية ومع الجماعة، وإحياء النوافل بالمساجد من طرف الرجال والنساء والصغار الذين يرافقون أوليائهم، إن تلك الظاهرة لا تدعو إلى الاستغراب ولا تحتاج إلى تفسير سيء كما قال أحد العلماء، خاصة وإن ما يمارس وما يأتيه المسلمون مأمور به من خلال أحاديث عديدة، بل أكثر من هذا يمكن القول بأن الحكمة من الصيام وما يفرضه من تواصل مع الآخر (داخل الجماعة) هو حمل النفس على الاعتكاف وترويضها على الصلاة التي هي كبيرة إلا على الخاشعين، وجعلها ترتمي في أحضان الخير والإحسان إلى الفقراء لاستشعار المعاناة، وذلك هو المقصود من الآية الكريمة: “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، أي تتلمسون التقوى وتبحثون عن أسبابها في أماكن العبادة، ومن أفعال الخير، وتتطلعون إلى (مغفرة من ربكم وجنات….)، وتتعودون على الشعائر الدينية في أجواء روحانية بتلقائية إيمان عميق تفاديا لأي تراجع عن الهداية أو أوبة عن الطاعة، ومعلوم أن التقوى هي꞉ “جوهر الإرادة وصفاء النية، هي قوة نفسية يتحكم بها الإنسان في أهوائه ونزواته وميولاته، ويطوع بها أقواله وممارساته لتكون من النضج والتعقل، بمكان في أمور الدين والدنيا والعلاقات العامة والخاصة، ويتجنب بها الانحراف والمعاصي التي تفسد الأمور كلها الروحية والعقلية والإنسانية” (الأستاذ مصطفى المتوكل)، وهي أي التقوى إلى جانب ذلك حصن حصين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن التقوى دار حضن عزيز والفجور دار الحضن ذليل، لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه، “ألا بالتقوى تقطع حمة الخطايا”، نعم! إنها مع البر تشتمل على جميع “مصالح العباد من معاشهم ومعادهم في ما بينهم بعضهم بعضا وفي ما بينهم وبين ربهم، فإن كل عبد لا ينفك عن هاتين الحالتين وهاذين الواجبين واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق” (ابن القيم رحمه الله).
إن توافد المسلمين في موكب الهداية على بيوت الله بتلك الصورة المثالية ليعطي الدليل القاطع والملموس على أن الديمومة لله خالق الكون وجاعل الناس شيعا كما قال السيد قطب: “لحكمة من حكم الله خلقوا مختلفين، وقد عرض الله عليهم الهدى وتركهم يستبقون”، كما أن منظر الازدحام الهادئ كما قلت في مرة سابقة أمام أبواب المساجد لتهتز له القلوب الواجلة، ويستحث أصحابها على سلوك نفس النهج اقتداءً بإخوان لهم تغلغل الإيمان في أعماقهم واكتسبوا بالصلاة والزكاة والصوم طاقات متجددة ومناعات صلبة ضد كل انحراف، أو ما يسوله لهم الشيطان العدو اللذوذ للإنسان (وكأن الشيطان للإنسان عدو)، وذلك تطبيعا (بالعين) مع قوله تعالى꞉ “… إلا عبادي المخلصين”، الذين يتخلون عن كل ما يفسد الطبيعة البشرية أو يدمر مقوماتها ويسعون إلى الغوص أكثر ما يمكن في أعماق الطاعة والتعرف على أسرارها البديعة التي ليست في عمقها سوى “مقاصد تابعة للمقصد الأصلي الذي هو العبادة، فنحن كما قال الأستاذ “محمد ديرا” حينما نصوم نقوم بذلك تنفيذا لأمر الله عز وجل وطاعة له، وعلى هذه النية يجب أن يكون صيامنا حتى نحقق منتهى العبودية لله تعالى وكمال التسليم لرب العالمين”، إضافة إلى استجداء إن صح التعبير كل فوائدها (أي الطاعة) والتي أثبتها الطب الحديث، يقول الدكتور محمد أبو شوك: “روحانية الصوم وما تفيضه من صفاء النفس وتهذيب الروح وتحمل المشاق والعطف على المحتاجين والبعد عن التردي في الشهوات وما تجره من ويلات وتزكية النفس بالأخلاق الفاضلة من صدق في المعاملة، وأمانة في تأدية العمل والابتعاد عن الغضب والانتقام كل هذا يضفي على النفس البشرية روح السلام والمودة والمحبة والصفاء التي بدورها تؤثر في الجهاز العصبي للإنسان، والذي يهدأ الجسم لهدوئه ويثور لثورته”، ومن طبيعة الحال إذا ثار الجهاز العصبي تثور معه كل الأجهزة التي تحفظ للجسم كيانه.