أسرار التعليم | “اللي نجح سقط واللي سقط نجح”

سئل المراكشي عن ابنيه، فأجاب “آش غدي نقول ليك، اللي نجح سقط واللي سقط نجح”؛ “فلان عندو الليسانس والماستر جالس في الدار، وخوه ما عندو حتى البكالوريا عندو الفيلا والكاط كاط”. جواب بليغ ينطق بمدى ما تسببت فيه منظومتنا التربوية من تناقضات اجتماعية عميقة تتنافى مع أبسط أسس التفكير السليم. لو فقهنا حمولة هذا الجواب وفقهه المنظرون التربويون والبيداغوجيون والسياسيون لما وصل الحال بأبنائنا حاملي الشهادات الجامعية لما وصلوا إليه من ضياع، جعلهم يحسون بالمذلة والمهانة والمرارة بعدما تبين لهم على أرض الواقع، مع مرور الزمن، أنهم أسرى دبلومات لا تسمن ولا تغني من جوع.
التدريس في ظروف طبيعية وفي أجواء تربوية سليمة يؤمن للمتعلم مسارات طبيعية؛ فإما أنه يمتلك القابلية للتعلم والمؤهلات الفكرية والمعرفية التي تمكنه من مواصلة التعليم والتكوين في ظروف طبيعية، فالمطلوب تأمين الظروف المواتية لمتابعة دراسته. وإما أنه يفتقد لهذه المؤهلات، فيصبح من حقه ومن واجب المجتمع عليه تأمين الظروف المواتية لولوج شعاب مدرسة الحياة اليومية، ليتعلم ما يفيده ويؤمن له العيش الكريم فيما بعد. هذه هي الوصفة البيداغوجية الطبيعية التي شوهناها إلى حد بعيد، عملا بشعارات من قبيل “مدرسة النجاح (للجميع)” (الإنجاح) و”تكافؤ الفرص” (في الكسل والغش). ومن المؤسف المؤلم أن تحط هذه الشعارات الرحال ضمنيا بالتعليم العالي، حيث ستصبح الجامعة، تعمل بشعار الإنجاح للجميع، ابتداء من السنة المقبلة على الخصوص، بعد تبني “الإصلاحات البيداغوجية” الجديدة التي تم إدخالها على النظام “ل م د”، وهو ما سبق أن تطرقنا له.
لو كان الأمر يقف عند “اللي نجح سقط واللي سقط نجح”، لما تطلب التعليق عليه، لكن لهذا القلب الخطير للمفاهيم تبعات مخلة بالسلامة التعليمية والأمن المعرفي والعلمي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد. فقد تم الإخلال إلى حد بعيد بكل الضوابط التربوية والبيداغوجية السليمة لتعليم أبنائنا، وتكوينهم التكوين السليم الذي يؤمن لهم التوازن الضروري للتفاعل بإيجابية مع محيطهم الاجتماعي. لقد أصبح الغش بكل دروبه هو السمة الأساسية بمؤسساتنا التعليمية، بحيث أصبح تلامذتنا وطلابنا يرون فيه حقا مكتسبا، بينما هو السم القاتل. ومن المؤلم والمبكي أن يتم التأسيس لهذا النهج المدمر منذ نعومة أظافر أطفالنا بتواطؤ من الجميع، وخير دليل على هذا الاستهتار الجماعي بأبسط حقوق أطفالنا علينا، وأبسط قواعد السلامة الاجتماعية، ما يحدث يوم اجتياز ما يسمى “امتحان الشهادة الابتدائية”، الذي تحول إلى محطة فلكلورية مبكية مضحكة على ما آلت إليه عقولنا من تبلد و”تكلاخ”. ويزداد مسلسل التدمير الذاتي لمقوماتنا كمجتمع بشري تجدرا وتنوعا، ليتوج بتخريج حاملي دبلومات عليا تؤهلهم لولوج الشوارع حيث يتقدم بهم العمر، وهو ما عايناه هذه السنة من خلال البرنامج الحكومي لتكوين 10000 معطل بالمدارس العليا للأساتذة. عاينا شبابا متقدمين في السن تعلقوا بوهم دبلومات تيقنوا في آخر المطاف أنها ليست سوى مسميات على ورق، فتحولوا للدعاء على من سلموها لهم “ليجدوا أنفسهم في الشوارع يضحك عليهم الناس”. نعم، فحتى التكوين المبتور إلى حد بعيد بالمدارس العليا للأساتذة (أربعة أشهر بدل عشرة)، لن يسعفهم في شيء بالرغم من نجاح الجميع كما هو الحال في كل الأطوار التعليمية. الكل ناجح والغالبية “ساقطين”، وبالرغم من كل الحيثيات، فالمسؤولية في النهاية مسؤولية رجال التعليم، خاصة التعليم العالي؛ فعلى الأساتذة الجامعيين المعول لإيقاف تفشي مرض الغش العضال والعمل على كسر دورة الرداءة حتى لا تصبح جاهزة لإعادة إنتاج نفسها بنسق متسارع وأكثر رداءة، وهو ما أصبح عليه الحال.
أ. د. عبد الله لخلوفي
رئيس مركز الدراسات والأبحاث والتقييم للتربية والتكوين