المنبر الحر

المنبر الحر | حقيقة الصوم وحكمته

– د. يوسف الكتاني

        يحسب كثير من الناس أن الصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب، واللذات والشهوات، من طلوع الشمس إلى غروبها، فهذا مجرد مظهر للصيام، والجانب السلبي منه، وهو لا يكفي لتحقق معنى الصيام، يدل على ذلك ويؤكده آية الصيام نفسها، فإن النداء بوصف الإيمان أولا وهو أساس الخير ومنبع الفضائل، وفي ذكر التقوى آخرا- وهي روح الإيمان وسر الفلاح- إرشاد قوي ودلالة واضحة، على أن حقيقة الصوم المطلوب هي الإمساك عن كل ما ينافي الإيمان، ولا يتفق مع فضيلة التقوى والمراقبة كما قال الله تعالى꞉ “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”.

ولذلك ينبغي أن يكون الصيام مدعاة للتخلق بالأخلاق الفاضلة، من العطف على ذوي الحاجة بالكرم والبذل، ومدعاة للشعور بالرحمة والإحسان، والوفاء بالعهد، والصدق في العمل، والصبر على البأساء والضراء، وخاصة وأن الصوم نصف الصبر كما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

تتمة المقال بعد الإعلان

والصوم كبح لجماع النفس الأمارة بالسوء عن الاستسلام للذات والشهوات والإغراق فيها، وعن الاستسلام للكبرياء والغضب، وهو علاج ووقاية من سائر الأمراض والأعراض الروحية والبدينة. فقد أثبتت الأبحاث العلمية، والتجارب الطبية محاسن الصوم ومزاياه، وتأكد أنه وقاية وعلاج من السمنة التي تنشأ عن تراكم فضلات الطعام في المعدة، فيتسبب تمددها وضعفها عن أداء وظيفتها، وينتج عن ذلك تضخم القلب والكبد.

كذلك هو علاج ووقاية لطرد الرواسب المتخلفة عن الأطعمة التي تكمن في مجاري الدم، فيتسبب عن ذك ضغط الدم وتضخم الشرايين، ويأتي الصوم ليخلص الجسم من سائر هذه الأمراض ويصبح مكتملا قويا، كما أكد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله꞉ “صوموا تصحوا” وقد أوضح هذه المعاني السامية للصوم وحقيقته التي توخاها الإسلام من فرضه ابن القيم بقوله꞉ “وما الصوم فناهيك به من عبادة تكف النفس عن شهواتها، وتخرجها عن شبه الملائكة، فإن النفس إذا خليت وغلبت عليها شهواتها التحقت بعالم البهائم، فإذا كفت شهواتها لله، ضيقت مجاري الشيطان، وصارت قريبة من الله بترك عاداتها وشهواتها محبة له وإيثارا لمرضاته، وتقربا إليه، فيدع الصائم أحب الأشياء إليه وأعظمها لصوقا في نفسه، من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه، وهذا يعني كون الصوم له تبارك وتعالى، بهذا فسر تلك الإضافة رسول صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث القدسي، في ما رواه عن ربه تعالى꞉ “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي”. وأي حسن يزيد على حسن هذه العبادة التي تكسر الشهوة، وتقمع النفس، وتحيي القلب، وتزهد في الشهوات، وترغب في ما عند الله، وتذكر الأغنياء بشأن المساكين وأحوالهم، ليكون الصوم عونا على تقوى الله، وما استعان أحد على تقوى الله، وحفظ حدوده، واجتناب محارمه، بمثل الصوم، ولذلك كان تشريع الصوم في الإسلام إحسانا من الله ورحمة بعباده، ولطفا وتكليفا وتهذيبا، وهو غاية الرحمة والحكمة والمصلحة.

وعلى هذا الذي يتجه إلى غير الله بالقصد والرجاء لا صوم له، والذي يكفر في الخطايا والآثام، ويحارب الله ورسوله لا صوم له. والذي يظلم ويحابي ويخالط السفهاء ويعين على الفساد، وكل من يمد يده ولسانه أو يتسبب في المعصية، والإيذاء لعباد الله لا صوم له.

تتمة المقال بعد الإعلان

وعلى الصائم إذا أراد أن يدرك حقيقة الصيام ألا يكذب وألا يسرق ولا يخادع ولا يظلم، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، ولا يخرق حرمة رمضان بإخضاع قدسيته وفرضيته لعاداته وأعرافه، وهذا هو المعنى السامي الذي يتحقق به الصوم الذي يجمع بين تخيلة النفس وتطهيرها من الدنس، وتزكيتها بالطيبات مصداقا لما أكد الرسول الكريم꞉

“من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.

إن عبادة الصوم وكما أمر الله ورسوله. أن يصير المؤمن إنسانا قوي العزيمة، صلب الإرادة، صحيح الجسم والعقل، صبورا متحملا في سبيل الإيمان، صافي النفس من كل حقد، بعيدا عن كل أنانية ومادية، نموذجا للكمال الخلقي الإسلامي مراقبا من الله في كل أعماله وتصرفاته، كما صور ذلك الحديث القدسي꞉ “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة – أي وقاية – فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث – أي ذنب – ولا يصخب، فإن سلبه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، والذي محمد بيده لخلوف فم الصائم – تغير رائحته من جراء الصيام- أفضل عند الله من ريح المسك وللصائم فرحتان يفرحهما꞉ إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه”.

لذلك لا ينبغي للمؤمنين الصائمين أن يهدموا ما بنوا من صوم وتقوى وعبادة نهارا. بالعودة إلى عادات ذميمة جاء الصوم لمحاربتها وتغييرها والقضاء عليها على مستوى الأفراد والمسؤولين، ولنداوم على نظافة السلوك قولا وعملا، في كل حركاتنا وسكناتنا ليلا ونهارا، ليتحقق فينا معنى الصوم وغايته، وهو تقوى الله حذرا من الوقوع في ما نهانا عنه، مصداقا لقوله تعالى꞉ “فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو تصيبهم عذاب عظيم”.

نسأل الله أن يلهمنا السداد في أعمالنا، والرشاد في ديننا، والتقوى في صيامنا، والقبول في عبادتنا، وأن يمن علينا بالإيمان والقوة والهداية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى