الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الفرق بين دور أوفقير ودور الدليمي في قضية بنبركة

ملفات وأسماء "الحلقة 20"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    لقد حرص لومارشان وفوكار وأوفقير، في تنظيم عملية الاختطاف (اختطاف بنبركة)، على أن تضمن لها كل وسائل النجاح، وكان قتله بدون شك مستبعدا، ومستبعدا جدا، ولو كانت كل عملية اغتيال تتطلب هذا الخليط الرهيب من رجال المخابرات، ومن 

الإرهابيين ومن المسؤولين، لما اغتيل أحد، بينما عرفت باريس، قبل اختطاف المهدي بنبركة، وبعده، سلسلة اغتيالات بقيت إلى اليوم مجهولة التوقيع، أهمها تلك الاغتيالات التي نظمتها المخابرات الإسرائيلية في قلب باريس، ضد مجموعة هامة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد وضع الجانب الفرنسي رهن إشارة العملية، مجموعة هامة من رجاله الرسميين والسريين، وورط بطريقة غير مباشرة، مجموعة من الكتاب والصحفيين، كما أن عدم الاهتمام بالطالب “التهامي الأزموري”، الذي كان مع المهدي بنبركة أثناء لحظة الاختطاف، يدل دلالة قاطعة على أن المدبرين للاختطاف، لم يكونوا يعتزمون اغتيال الرجل، وإلا لأخذوا معهم “الأزموري” ولاغتالوه، فماذا تهم جثة ثانية ما دام الأمر يتعلق بالاغتيال، بينما وضع أوفقير رهن إشارة العصابة، واحدا من رجاله، اتفقوا على أنه كان يسمى “الشتوكي”، ولكن تسلسل الأحداث والعروض والشهادات، يدل على أن “الشتوكي” كان عبارة عن رجل لكل وضعية، فكان هناك شتوكيون كثيرون، بعضهم رآه طويلا عريضا، وبعضهم رآه قصيرا نحيفا، بعضهم يسميه العربي، والآخر يسميه الشلواطي، بينما قال الصحفي فيليب بيرنيي، الذي كان على اتصال وطيد بالمهدي بنبركة، وهو الذي قدم له الإرهابي فيكون، أن “الشتوكي” كان يسمى “ميلود”، وفي كلتا المحاكمتين كان موضوع “الشتوكي” محط نقاش طويل، فهذا المحامي يصيح أن “الشتوكي” هو أربعة رجال، وحتى المتهمين لم يتفقوا فيما بينهم، وهم أمام المحاكمتين، على شكل “الشتوكي” الغامض الذي اجتمعوا في عدة مناسبات، لوبيز المتهم الرئيسي يقول: إن “الشتوكي” نحيف القامة، والصحفي بيرنيي يقول إنه ضخم الجثة، والطالب الماحي المتهم يقول: إن سنه 30 سنة، والشاهد رشيد السكيرج يقول: إن سن “الشتوكي” خمسون سنة، بعضهم رأى شعره أكردا، وبعضهم قال أن شعره مطلق، الشيء الذي أثار غيظ رئيس المحاكمتين بيريز، الذي صاح قائلا: ((لا يهمني أن يكون الشتوكي واحدا أو مائة أو ألفا، إن الذي يهمني هو الشتوكي الذي تكلم إلى المتهم لوبيز))، وهو مقلب لا يمكن إلا أن يكون من المقالب التي برع فيها أوفقير ومارسها طوال حياته، فقد كان يحب التلاعب بالأوضاع والظروف، متخصصا في تغيير المواقف والأشخاص، خبيرا في تخطيط الغموض وحبك الوضعيات.

ولكن حيثيات المحاكمة الأولى، والثانية، أبرزت حقيقة جديدة في المساهمة المغربية في عملية الاختطاف، تجلت في الدور الذي أسند إلى مدير الأمن، أحمد الدليمي، الذي برأته المحاكمة الثانية، بعد أن ثبتت فعلا عدم مشاركته في العملية خلافا لما أذيع ونشر من تصريحات وأوصاف، ولكن الأساس الذي انطلق منه حكم المحكمة بتبرئة ساحة الدليمي، لم يظهر للعيان، ولم تتحدث عنه أي صحيفة أو وكالة، ذلك الأساس هو الصراع الذي كان قائما ثابتا بين أوفقير والدليمي. وعندما وصل الدليمي إلى باريس سرا، ليلة 17 أکتوبر 1966، ليسلم نفسه للعدالة الفرنسية، كانت تلك ضربة موجعة لأوفقير، لم يتحملها، بل خشي وقتها أن يكون الأمر مدبرا ضده، وربما كانت مهمة الدليمي كمدير للأمن، وعلى اتصال متين بالأوساط السرية الفرنسية، مكنته من معرفة المخطط الأوفقيري، فدخل في الجهاز، إما لحسابه الخاص، وإما رغبة في تأمين رجوع المهدي بنبركة إلى وطنه، بناء على الاتفاق الحاصل بين المهدي بنبركة والسفير المغربي في باريس، فكان الدليمي ينفذ الأوامر الصادرة إليه في هذا الاتجاه.

هناك حادثة واحدة تثبت هذا الفارق بين دور الدليمي ودور أوفقير، وهو الاتصال الهاتفي الذي تم بين باريس والمغرب إثر اختطاف بنبركة واحتجازه في بيت “بوشسيش” في “فونتني لوفيكونت” بضواحي باريس: ((لقد توجه لوبيز بعد الاختطاف عشية 29 أكتوبر 1965، إلى مطار أورلي رفقة “بوشسيش”، ودخل قاعة الشخصيات الهامة لانتظار أوفقير الذي لم يصل، ثم توجه إلى مخدع تلفون عمومي ليجري مكالمتين: الأولى طلب فيها الكومندان الدليمي، الذي لم يجد إلا مدير ديوانه وترك له هذه التوصية: “إن الشخص الذي دعوتموه قد وصل، وهو موافق على مقابلتكم”، ولكن لوبيز بعد ذلك، اتصل بمكتب أوفقير، فلم يجده وإنما وجد مدير ديوانه، فترك له هذه التوصية: “أخبر الجنرال، أن طلبيته جاهزة.. وعليه أن يحضر باستعجال ولو على متن طائرة عسكرية”، والفرق بين التوصيتين واضح جلي، فقد كان لوبيز، بحكم اشتغاله مع المخابرات الفرنسية من جهة، ومع أوفقير من جهة أخرى، مجبورا على إخبار الطرفين، وتنفيذ أوامرهما معا)).

لقد كان فرانسوا ميتران، زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي، على رأس الحملات التشهيرية باختطاف المهدي بنبركة، وتهدد ووعد، وجعل من حملته الانتخابية في نونبر 1965، منبرا للالتزام بكشف الحقيقة في قضية اختطاف بنبركة، ولكن اختلاط الأوراق، وتورط المخابرات الفرنسية، واستعمال أوفقير للوسائل المعروفة عنه، بحكم اتصالاته الوثيقة مع رجال المخابرات الفرنسية، جعلت رئيس الدولة الفرنسية، فرانسوا ميتران، بعد انتخابه في عاشر مايو 1981، عاجزا عن العودة إلى التذكير بهذا الملف المعقد، وتبقى المصداقية مرتبطة بالاستنتاج الذي خرج به رئيس الدولة الفرنسية أثناء الاختطاف، الجنرال دوغول، المعروف ببعد نظره وتبصره، والصريح في أحكامه وقراراته، والمطعون في كرامته وقوة دولته، فقد وضع نقطة النهاية لقضية الاختطاف، ولما راج حولها ولما كتب عنها بتصريح قال فيه: ((لقد قام وزير داخلية المغرب، على تراب وطننا، بإخفاء أحد قادة المعارضة الرئيسيين، ومن الجهة الفرنسية، فإن ما حصل ليس إلا أمرا مبتذلا حاصلا بين رئيس ومرؤوس، وكان الأمر متعلقا بعملية تقتضي مقابلة بنبركة مع أوفقير ومساعديه في محل مناسب لتصفية حساباتهما، ولا شيء على الإطلاق يثبت أن أجهزة المخابرات الفرنسية أو الشرطة بصفتها الرسمية، كانوا يعرفون العملية، فأحرى تغطيتها)).

كان دوغول يعرف بالتحديد من هو المسؤول، ولم تسمح له أنفته بالاعتراف بأن الأجهزة الموازية متواجدة في فرنسا، عقدة ضب مبالغة التعقيد إذن، ستحاول الفصول القادمة فك غموضها وتشعبها، من خلال الوضوح الذي أصبحت تسمح به السنوات الطوال التي مرت على هذا الحادث، والتي أثبتت بالدرجة الأولى عنصرا من الأهمية بمكان، وهو أن أوفقير كان يمهد لقضية المهدي بنبركة، لقلب الأوضاع داخـل المغرب لفائدته، ولفائدة مخططاته المستقبلية، تلك المخططات التي أكدتها أحداث 1972. فقد كان سنة 1965 يريد استعمال المهدي بنبركة لتسويد سمعة النظام المغربي على مدى واسع من التشهير، وجعل من اختطاف المهدي بنبركة قنبلة اهتزت لها جنبات الرأي العام العالمي، وأساءت فعلا إلى النظام المغربي إساءة لم يكن أحد يفهم الدافع لها، ولو أراد أوفقير إعدام بنبركة لما افتقد الوسائل ولا الرجال الذين باستطاعتهم أن يقتلوا الإنسان قبل أن يعرفوا اسمه، من فصيلة كريستيان دافيد، الذي بدأ الحديث عنه في هذا الفصل، ولكن أوفقير كان يرغب في اغتيال شيء آخر، اسمه سمعة المغرب، وكان ذلك هو السر في التعقيد الرهيب لقضية اختطاف المهدي بنبركة.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى