تنشر لأول مرة
قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.
والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.
تتمة المقال تحت الإعلان
إذا كان الماضي المشحون لمنظمة المخابرات الأمريكية “سي. آي. إي” قد أثبت تدخلها في كل شؤون الدنيا، كبيرة كانت أو صغيرة، فإن الخيوط الرابطة بين منظمة المخابرات الإسرائيلية “الموساد”، وبين قضية بنبركة، ليست إلا جزءً من المساهمة الكبيرة للمنظمة الأمريكية، وحتى لو لم تكن للحكومة الأمريكية أي مصلحة في اختطاف المهدي بنبركة، فإنها على أية حال، وكما اتضح في الفصول السابقة، ربطت تقديم دعمها العسكري للمغرب في أعقاب حرب الحدود مع الجزائر، بضرورة تحقيق التصالح الوطني، وربما كانت المخابرات الأمريكية على علم بالاتصالات الجارية بين المهدي بنبركة والسفير المغربي في باريس، الأمير مولاي علي، فكانت تتفرج من بعيد، متتبعة للأحداث، وفي اللحظات التي كان فيها الشرطي سوشون، يدعو المهدي بنبركة للركوب في سيارة الشرطة قرب مقهى “ليب”، كان ضباط للمخابرات الأمريكية جالسين في المقهى يتتبعون الأحداث. فقد قدم محامو عائلة بنبركة في المحاكمة الأولى، شهادة مكتوبة في ست صفحات، قدمتها الكاتبة الفرنسية أنيت كورنبي، تتضمن وصفها للحالة التي جعلتها تقدم تلك الشهادة، فقد كانت جالسة في مقهى “ليب” مع كاتبين، الأول جان هاليي، والثاني فرانز بوركي، كانا ينتظران أحد الناشرين الأمريكيين، وبغتة، نبه الكاتب هاليي صاحبة الشهادة المكتوبة، إلى أن أحد كبـار المسيرين الأمريكيين للأجهزة التوجيهية، يوجد جالسا بجانبهم، وكان يطلب منها أن تتكلم بحذر، خوفا من تصنت هذا “اليانكي” المعروف في جهاز المخابرات الأمريكية باسم “الماجور”.. فقد كانت المخابرات الأمريكية تتتبع عن قرب كل خطوات الاختطاف، لولا أن هناك اتجاها آخر في الاحتمالات، يقول بأن المخابرات الأمريكية أسهمت بنصيب وافر في التصفية، بعد أن تأكدت أن الاتصالات جارية بين الملك الحسن الثاني والمهدي بنبركة، للرجوع إلى المغرب، وإسهام بنبركة في الحكومة التي اتفق مع السفير مولاي علي على الدخول فيها، وكان الأمريكيـون يرفضون مؤخرا أن يكون هذا المشاغب الذي يتزعم حركة الدول المعادية للولايات المتحدة، مؤهلا لتحمل مسؤوليات حكومية في المغرب، الذي يعلق عليه الأمريكيون كبير الآمال، لذلك صدرت الأوامر بتصفيته.
ورغم أن الجنرال دوغول كان يقدم الأنفة الفرنسية ويستصغر القوة الأمريكية، ولم يكن يترك فرصة تمر دون أن يعبر عن تأففه من الأمريكيين، فإن قضية بنبركة قد مرغت وجه الجنرال دوغول في التراب، فعلى أرضه اختطف بنبركة، وبواسطة شرطته تم اعتقاله، وبين يديه انفجرت الفضيحة، وعجزت المخابرات الفرنسية، وحتى العدالة الفرنسية، عن تسليط الأضواء الكافية على الحقيقة فأحرى محاكمة المسؤولين.
فقد كان الأمريكيون واثقين من صلاتهم الوطيدة ويدهم الطويلة المتمكنة داخل الجهاز الفرنسي، وهي غصة لم يبتلعها الجنرال دوغول، الذي اضطر مع تقهقر الوضعية، إلى الاعتكاف من جديد في بيته القروي بعيدا عن الحكم الذي أراد من برجه نسف الكيان الأمريكي، وشارك الديغوليون رئيسهم في كراهيته للأمريكيين، ومضى كتابهم وصحافيوهم في انتقاداتهم للتواطؤ البيّن بين أجهـزة المخابرات الفرنسية والأمريكية، محللين ظروف الدور الأمريكي في قضية بنبركة، ومن أحسن التحليلات في هذا المجال، ما كتبه النائب الديغولي، دافيد روسي، في شكل مقالات في جريدة “فيغارو ليتيرير”، خلال شهر أكتوبر 1966، توسع فيها في تحليل الدور الأمريكي في قضية بنبركة بالصيغة التالية: ((إن شخص المهدي بنبركة، هو محط شكوك أمريكية أكبر من تشكك المغاربة فيه، وإن مؤتمر القارات الثلاث ليس كنظيره خطورة، ولا يعادل مؤتمر الشعوب الإفريقية الآسيوية، وإنما يشكل هذا المؤتمر حربا مفتوحة عبر العالم، ثم إن كل الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية، تعتبر في نظر واشنطن، تهديدا مباشرا لأمن وسلامة الولايات المتحدة الأمريكية، أما بالنسبة للمغرب، فلم يكن المهدي بنبركة يشكل خطرا على النظام المغربي، فالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، هو حزب من أجل المشاركة في الحكومة والإصلاح، ورجوعه للحكم لا يعني مطلقا قلبا للمؤسسات المغربية، والمهدي بنبركة، بالتأكيد، ليس مكروها في القصر الملكي أكثر من محمد البصري، الذي تمتع بالعفو في أبريل، ثم إن المهدي يظهر أقرب للحوار والتفتح من الاتجاه اليساري في حزبه.
إن الحقيقة، هي أنه لا يوجد توازن بين دور المهدي في العالم الثالث وبين دوره كوزير في المغرب، ولكنه لم يقبل التفريق بين المهمتين)).
إن الظروف التي أحاطت باختطاف المهدي بنبركة، لا تدع مجالا للشك في أن تصفيته تمت على التراب الفرنسي، على يد ضباط أمن فرنسيين، بمشاركة إرهابيين فرنسيين، ولكن الدور الإسرائيلي أو الأمريكي، لا شك أنه كان داخلا في إطار التمهيد للعملية، والموافقة عليها، ولكن العنصر المؤكد للمشاركة الأمريكية أو الإسرائيلية، ثابت ومؤكد، عبر الاعترافات الإسرائيلية الرسمية كما ذكرت في الفصل السابق، وفيما يتعلق بالدور الأمريكي، فإنه لا يقل ثبوتا، وذلك عبر ازدواجية المتهمين والمدانين باختطاف بنبركة، سوشون ولوبيز، في ولائهم وشغلهم مع منظمة المخابرات الأمريكية عبر جهاز “ناركوتيك بورو”، المكتب المكلف بمراقبة المخدرات، والذي كانت الحكومـة الفرنسية قد كلفت العميل لوبيز، والشرطي سوشون، بأن يعملا كملحقين مع الجهاز الأمريكي، مما جعل لوبيز يصرح أمام المحكمة بقوله: ((لقد كنت منسقا بين المخابرات الفرنسية والمصالح الأمريكية))، وقبل أن يتفرغ لوبيز للتوجه لاختطاف بنبركة، كان عليه على الأقل أن يخبر رؤساءه الأمريكيين، إن لم يكن طلب الإذن منهم.