الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المشاركة الإسرائيلية في اختطاف بنبركة

ملفات وأسماء "الحلقة 17"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    اتخذ كل الأولاد الشريرون في أجهزة المخابرات العالمية، من فيلم “باسطا”، شبكة لصيد المهدي بنبركة الذي كان يعيش في حماس التحضير لمؤتمر القارات الثلاث، كالسمكة في الماء، وكانت أطراف الشبكة مقبوضة بأيد متنوعة، ومصالح مختلفة، وعلى ضفتي وادي الأحداث، كان أوفقير من جهة ينتظر النتيجة، فقد كان مصرا على ألا يدخل المهدي بنبركة للمغرب مهما كلف ذلك من ثمن، وعلى الجهة الأخرى، كان مدير المخابرات الفرنسية، فوكار، يترقب من بعيد هذا الصيد الكبير، لا لغرض سياسي معين، وإنما من جهة، إرضاء لصديقه وحليفه أوفقير، ومن جهة أخرى، الاستفادة من اعتقال بنبركة لطرح بعض الأسئلة التي كانت أجوبتها تهم المخابرات الفرنسية، وكانت مكتوبة بخط يد المحامي لومارشان، وموضوعة في جيب أحد الممسكين بأطراف الشبكة (فيكون)، إلا أن أيادي كثيرة تهافتت لتمسك هي أيضا بأطراف الشبكة، فشخصية مثل المهدي بنبركة كانت تهم لدرجة قصوى أطرافا إسرائيلية وأطرافا أمريكية. ولم يكن صعبا بالنسبة للإسرائيليين أن يدخلوا العملية، فهم متوفرون على الباع الطويل في كل العمليات، ولا يخلو مكتب في أية مصلحة فرنسية، من عميل لهم، فأحرى أن يتم التحضير لعملية من هذه الضخامة في غيبتهم.

خرج مسؤول إسرائيلي كبير بالحقيقة في التدخل الإسرائيلي في قضية اختطاف بنبركة، من حلبة الإرهاصات والاحتمالات، ووضعها أمام الرأي العام العالمي مجردة عن كل شك أو غموض.

في منتصف سنة 1983، وبعد ثمان عشرة سنة على اختفاء المهدي بنبركة، نشر المستشار السياسي لرئيس الوزراء الأسبق، إسحاق رابين، والذي هو في نفس الوقت مندوب حزب العمل الإسرائيلي في أوروبا، يورام بيري، كتابا صدر عن جامعة كامبريدج البريطانية، بعنوان “ما بين الحروب وصناديق الاقتراع”، خصه لشرح الخلافات الخطيرة التي تنخر الهيكل العسكري والحكومي الإسرائيلي، وقدم قضية بنبركة كعنصر أساسي في خلق الخلافات بين المدنيين والعسكريين، متحدثا عن ((تورط العسكريين الإسرائيليين في السياسة، عبر مشاركة جهاز “الموساد”، الاستخبارات الإسرائيلية، في تنظيم عملية اختطاف بنبركة، الشيء الذي دفع رؤساء الأحزاب إلى الانقسام إلى فريقين، حيث اتهم حزب “الماباي” مدير “الموساد” المسمى إميت، بإصدار الأوامر إلى أجهزته بالمشاركة في اختطاف بنبركة دون استشارة الوزير الأول، ويقول الفريق الثاني، حزب “رافي”، بأن ليفي أشكول، رئيس الوزراء، أعطى موافقته))، وإضافة إلى أننا نجد أن عملية اختطاف بنبركة أثارت في إسرائيل، نفس الأزمة التي أثارتها في فرنسا، بوضع رؤساء الحكومات أمام الأمر الواقع من طرف رؤساء مخابراتهم، فإن كتاب المستشار بيري، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، الدوافع التي جعلت زوجة المهدي بنبركة، ترفع قبل انعقاد المحاكمة الثانية في باريس، مذكرة ملحقة إلى رئيس المحكمة العليا الفرنسية، تطالبه بفتح بحث إضافي واستجواب مجموعة من الإسرائيليين في شأن مشاركتهم في اختطاف أو تصفية المهدي بنبركة. وحددت زوجة المهدي بنبركة في مذكرتها، أسماء الأشخاص الذين تطلب استجوابهم، وهم الجنرال مايير إميت، مدير المخابرات “الموساد”، والصحفيين صامويل مور ومكسيم غيلان.

وكان الصحافيان غيلان ومور قد نشرا في 11 دجنبر 1966، عددا خاصا من جريدتهما “بول” الصادرة في تل أبيب، يتضمن موضوعا تحت العنوان التالي: “إسرائيليون في قضية بنبركة”، ولكن الشرطة الإسرائيلية، ورغم حرية الصحافة المعلنة في إسرائيل، صادرت الجريدة واعتقلت الصحافيين، وحكمت عليهما في محاكمة سرية بالسجن، وأبعد من ذلك وأهم، فقد نصبت الحكومة الإسرائيلية مديرا ورئيس تحرير من اختيارها، واستمرت الجريدة في الصدور بمحررين جدد، حتى لا يشعر الرأي العام بشيء.

ولكن صحفيا إسرائيليا استطاع الحصول على نسخة من العدد المحجوز، حملها معه سرا إلى روما، ثم إلى نيويورك، حيث قدم النسخة لمجلة “التايم” التي رفضت نشر أي شيء عن هذا الموضوع.

ثم حمل الصحفي نسخته إلى جريدة “نيويورك تايمز”، التي استغلت الموضوع على مدى أيام طويلة، واستطاع الإسرائيليون العالميون، الاطلاع على ما أصرت الحكومة الإسرائيلية على كتمانه، وقامت ضجة كبرى في أمريكا والعالم أجمع، واتضح أن الصحافيين معتقلين، وانطلقت المعارضة الإسرائيلية في استغلال الموقف الذي وصفته الأحزاب الإسرائيلية بأنه سبة وعار، وطالب الكتاب والصحفيون الإسرائيليون، في لندن وباريس ونيويورك وتل أبيب، باستقالة وزير العدل الإسرائيلي، شابيرا، لا لأنه حكم سرا على صحفيين، وإنما لأنه لعب شخصيا دورا أساسيا في تنظيم اختطاف بنبركة. وأطلق سراح الصحفيين اللذين غادرا إسرائيل إلى باريس، وأصبح موضوعهما محط العناية والاهتمام.

لقد أصبح موضوع جريدة “بول” بعد هذه المفارقات الغريبة، وبعد أن تأكد محتواه بعد مرور سبعة عشر عاما على نشره، وثيقة تاريخية هامة في قضية المهدي بنبركة، يزيدها أهمية، كون جزئياتها عندما توضع في المحل المناسب لها، فإنها تسهم في إتمام الصورة.. وكثيرة هي الجزئيات التي كانت تحرق أصابع الكتاب والباحثين دون أن يجدوا لها إطارا يناسبها، وكانت القضية في حاجة ماسة إلى عنصر أساسي واحد، اسمه الزمن.

وقد ترك الصحافيان الإسرائيليان نفسيهما عددا من الأسئلة بدون أجوبة، ولكن الأجوبة أتت بعد بضعة أيام من صدور موضوعهما الذي يمكن تلخيصه كما يلي: ((من بين الشخصيات الأساسية التي أسهمت في إقناع المهدي بنبركة بركوب الطائرة المتوجهة إلى باريس، حيث تم اغتياله، رجل أعمال سويسري، رجل من الدوائر العليا، عرض بطريقة غير مباشرة تمويل فيلم عن العالم الثالث، يكتب موضوعه المهدي بنبركة، ورجل الأعمال هذا يشتغل عادة بالسينما. وحيث أن القضية لم تنفضح بعد، فإننا عاجزون عن ذكر اسم هذا الرجل، إلا أننا نذكر أنه يهودي مما يمهد لإعطاء الفضيحة عندما تعرف طابع الميز العنصري)).

ونوقف سرد ملخص موضوع الصحفيين، لنذكر أن الشخصية التي لم يستطيعا الإفصاح عنها، قد طفت على وجه الأحداث، عندما اندلعت الفضيحة فعلا بعد نشر صحيفة “نيويورك تايمز” للجزئيات، وصرح بها أحد الصحفيين، مكسيم غيلان، بعد وصوله لباريس، ويتعلق الأمر بصهر وزير العدل الإسرائيلي الذي سجن الصحفيين، يعقوب شابيرا، وصهره هو عميل للمخابرات الإسرائيلية في جنيف، يعمل في الصحافة والسينما في نفس الوقت، واسمه آرثور كوهين، وهو الذي عرض الأموال لإنتاج الفيلم، ونعود لسرد جريدة “بول” حول المساهمة الإسرائيلية في اختطاف المهدي بنبركة: ((لقد صرح الصحفي فيليب بيرنيي، صديق المهدي بنبركة الفرنسي، أمام هيأة المحكمة خلال جلساتها الأولى، أنه أخبر المهدي بنبركة بأن الأموال التي ستصرف على الفيلم ستكون أموالا إسرائيلية، مقدمة من رجل أعمال مشهور، سيعرفه المهدي بنبركة فيما بعد، وقد اشمأز المهدي بنبركة لهذا العنصر، فهو لن يقبل خصوصا وأنه الصديق لجمال عبد الناصر، ولا يحمل في قلبه أي عطف على اليهود.

ولكن رجل الأعمال الذي عرض تمويل الفيلم، وكان وراء الزج ببنبركة في دوامته، أصيب بخيبة كبرى عندما سمع ما جرى لبنبركة، ولفيكون بعده، وأحس بصبات عرق بارد)).

في نهاية سنة 1980، صدر في باريس كتاب آخر، ألفه أحد ضباط المخابرات الفرنسية السابقين، واسمه روبير لوموان، وعنوان الكتاب: “المهنة، باربوز” يعني “شرطي سري”، ويقول لوموان بأن أوفقير عندما قرر اختطاف بنبركة، لم يكن له أن يأخذ من أموال الدولة الرسمية(…)، فكان يحاول تمويل العملية عبر بعض الأعمال المرتبطة باستغلال الدعارة، وقد أخذ قسطا من تلك الأموال ودفعها لبعض أصدقائه ليغروا بها بنبركة، للمساهمة في الفيلم المصيدة، وإذا كنا نعرف أنه لا يوجد يهودي قادر على تقديم أموال من جيبه الخاص، فهمّنا أين كان آرثور كوهين، صهر وزير العدل الإسرائيلي الموجود في جنيف، يجد الأموال التي كان يعرضها على فيكون، لإنتاج فيلم بنبركة، ويقول المؤلف لوموان في كتابه: ((ولقد رفض بنبركة الأموال المعروضة عليه عن طريق الإسرائيليين لتمويل الفيلم، وكان رفضه قاطعا لدرجة أغضبت أوفقير، الذي جاء إلى باريس خفية عن الملك الذي لم يكن يعرف أي شيء عن الموضوع ولا المصادر الخاصة بأوفقير، لقد أصبح بنبركة في خطر)). جزئيات تثبت كل واحدة منها أن أوفقير كان يعمل لحسابه الخاص.

ويظهر من تسلسل الأحداث، أن رفض بنبركة لمشروع فيكون الإسرائيلي، كان مثار أزمة حادة في وسط المخططين لاختطافه والذين كانوا خليطا من فرنسيين وإسرائيليين، وحدة الأزمة هي التي جعلت المحامي لومارشان، رغم حرصه على تحريك الدمى من بعيد، يتحرك مدفوعا بقوة أكبر منه، ويتوجه إلى جنيف شخصيا للإشراف من بعيد على عملية المفاوضات مع المهدي بنبركة بشأن الفيلم.

وفي 20 شتنبر 1965، حوالي أربعين يوما قبل اختطاف المهدي بنبركة، يتوجه صديق المهدي بنبركة الفرنسي، الصحفي بيرنيي، برفقة الإرهابي فيكون إلى جنيف، وفي نفس الطائرة، يركب لومارشان شخصيا، وهو الرجل الذي لا يتحرك إلا لأسباب هامة جدا، إلا أنه في هذه المرة كان مرفوقا بامرأة اسمها “أوستروويش”، أما اسمها الحقيقي فهو مدام إيلي ابيطبول، عائلة يهودية مغربية مشهورة، وثيقة الارتباط بعائلة اليهودي الترجمان، أحد أغنياء مدينة ميدلت في إقليم تافيلالت، والصديق الحميم لأوفقير ومستشاره في تسيير شؤون وزارة الداخلية، وقد أثير موضوع سفر لومارشان إلى جنيف رفقة مدام ابيطبول، في المحاكمة الأولى، ولم يتوان وكيل النيابة العامة “طوبا” عن القول والتأكيد، قول وتأكيد مسؤول قانوني كبير: ((إن تلك السيدة التي رافقت لومارشان، عضوة في العصابة))، وسكت الوكيل “طوبا”، لكن عندما أثيرت قضية اليهودي الترجمان، أكدت محاضر الشرطة جزئيات غريبة بشأنه. فقد كان في باريس يوم 13 أكتوبر، وعاد إليها يوم 25 أكتوبر، ثم عاد إليها يوم 29 أكتوبر، يوم اختطاف بنبركة، وأكد كل المتهمين الماثلين أمام المحكمة، بأنه خلال هاته الزيارات كلها، كان على اتصال تلفوني معهم.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى