تنشر لأول مرة
قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.
والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.
تتمة المقال بعد الإعلان
لا شك أن الأجهزة التابعة لأوفقير، اشتمت رائحة الاتصال الذي كان يجري سرا في فرانكفورت بين المهدي بنبركة والسفير المغربي بباريس، الأمير مولاي علي، خصوصا بعد أن جاء أخو المهدي، عبد القادر، للمغرب في أعقاب العفو الصادر في أبريل 1965. فليس مستبعدا إذن، أن يكون الاتصال بين أوفقير وفوكار لنسف العملية، قد تم في ماي. أحداث كثيرة جاءت فيما بعد لتؤكد هذه الجزئيات التي لم تكن إلا من باب الإرهاصات، إلى أن تأكدت عمليا لكن بعد فوات الأوان. فقد أكد عميل المخابرات مارسيل لوروا، المدعو “فانفيل”، في جلسة بالمحاكمة الثانية خلال شهر نونبر 1966، بعد أن أدى اليمين القانونية، التي لم تكن مقبولة منه، إذ كان متهما، فعاد ليحلف بشرفه أنه ((لم يكن هو ولا المصالح التابعة له – مصالح المخابرات الفرنسية – يعرفون بمخطط اختطاف بنبركة، إلا من خلال ما كان يبلغه مراسلهم، المسمى لوبيز، وهي معلومات سجلتها في محاضري ورفعتها لرؤسائي في تقارير مؤرخة بـ19 ماي 1965، و22 شتنبر 1965))، وهو تصريح مسجل في محاضر المحاكمة الثانية، لا يترك مجالا للشك في أن فكرة اختطاف المهدي بنبركة صدرت قبل تنفيذها بستة أشهر، كما يفهم من هذه التصريحات، أن مهمة الاختطاف أسندت إلى “الجهاز الموازي”، الجهاز الذي اختطف الكولونيل “أركو”، ذلك الجهاز الذي كانت منظمة المخابرات الرسمية الفرنسية “سديك” تعرف تحركاته عبر العميل المزدوج “لوبيز”.
وهذا الاستنتاج، تزيده مصداقية، تلك الحاجة الماسة إلى أن يكون المساهمون في عملية غير إنسانية كهاته، من فصيلة مجموعة لومارشان، التي لا ترتبط بالدولة ولا بالضمير المهني، وقد أثبتت المحاكمتان الاثنتان، والوقائع التي تأكدت بعدهما، أن مشاركة رجال الشرطة الفرنسيين في الاختطاف، إنما كانت داخلة في إطار الاستعمال المعهود لأجهزة الدولة كلما تعلق الأمر بإطلاق اسم فوكار، المسؤول الرسمي باسم رئاسة الدولة، والمسير المباشر للأجهزة الموازية.
وقد سار الإعداد لتنظيم الاختطاف، بعد اتفاق أوفقير وفوكار، مراحل طويلة، وعلى مدة ستة شهور، كان لابد معها للأجهزة الأخرى، أمريكية وإسرائيلية مثلا، من أن تدلي بدلوها وتبث رجالها، ولم تكن متغيبة إلا أجهزة مخابرات العالم العربي، والعالم الشيوعي، الذي كان حريصا على إنجاح مؤتمر القارات الثلاث، الذي كان المهدي بنبركة أمينا عاما له، وقد اكتفت أجهزة مخابرات كوبا، بتحذير المهدي بنبركة بأن يحتاط لنفسه ولا يخاطر بها، ولكن تسلسل الأحداث، أكد غيبة المخابرات الكوبية أو الروسية، وحتى المخابرات العربية التي كان نشاطها معروفا في باريس، خصوصا أيام الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1965.
ومراجعة مستعجلة لتركيبة الجهاز الذي كان يشرف عليه لومارشان ورجاله، تسمح بالتعرف على الطرق التي سلكتها المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، لتتبع مراحل الاختطاف إن لم يكن للمساهمة فيها.
ومسؤولية المخابرات العربية، لا تنحصر في غيابها المطلق على الساحة الفرنسية والسويسرية، ولا في تقصير السفارات الجزائرية التي كانت تحمي بنبركة، بصفته حاملا لجواز سفر جزائري، ولها اتصالات واسعة في الأوساط الفرنسية، أو على الأقل، لها ملحقون يقرؤون الصحف، ويتتبعون أخبار العصابات والاختطافات، ويتتبعون الحملات الصحفية التي كانت تتلو كل حادث، بل إن مسؤولية المخابرات المصرية كبيرة، لدرجة خطيرة، خصوصا بعد أن جاء الإرهابي فيكون إلى القاهرة شخصيا، للاجتماع بالمهدي بنبركة في 2 شتنبر 1965، في إطار المخطط الرهيب لاختطافه، وكان فيكون، وقتها، أشهر من نار على علم، لم تتأخر أي واحدة من الصحف الفرنسية، وحتى الإذاعة والتلفزة، عن التحدث عن مغامراته الرهيبة.
إن دور الإرهابي فيكون في قضية بنبركة، لا يقل ضخامة عن خطورة تجاهله أو عدم تتبعه من طرف أجهزة تسمى أجهزة المخابرات، وقد صرف وقتا طويلا في تعريف العالم به، مدفوعا برشقة من الجنون كان لابد معها أن يكون اسمه متواجدا عند جميع شرطة العالم، فبعد أن حكم عليه في 27 شتنبر 1955 بعشرين عاما من الأشغال الشاقة، لم يكملها، بل خرج ليدخل مستشفى الأمراض العقلية، بعد أن أثبت الأطباء في حقه ((تخلخلا في العقل وانعداما في الاتزان، ودافعا غريزيا نحو الإجرام، وعنفا متزايدا، وافتقادا لعنصر الأخلاق)) امتدت إليه أيد خفية، وأخرجته من مستشفى الأمراض العقلية، لتجعل منه نجما في المجتمع، يواجه الصحفيين بأفكار ثورية جديدة، مع مزيج من الزندقة في الكلام وفي التصرفات، جعلت كل المتعاملين معه يتفقون على تسميته باسم “لوفوايو” (الزنديق)، تلك الأيدي التي أخرجته من مستشفى المجانين، ترسل عليه أضواء الدعاية والصحافة، وتوحي إلى الصحافي المشهور في التلفزة الفرنسية، بيير ديكروب، ليقدمه في برنامج “خمسة أعمدة في الصفحة الأولى”، وهو برنامج لا يقدم فيه إلا رؤساء الدول والعباقرة البارعون، ولكن البراعة التي أهلت فيكون لهذا “الشرف”، هي زندقته، فيطلق أمام الرأي العام الفرنسي عبارات جديدة عليه وعلى مجتمعه، كلها حقد في حق القانون ورجاله، وتهكم على المجتمع والأخلاق، فهو المجرم الإرهابي المجنون الذي حكم عليه بعشرين عاما سجنا، يواجه الرأي العام الفرنسي بكل اتجاهاته، بأفكار متحدية وتهديدات جلية.
وأمام شبكات التلفزة، يسأله الصحفي: تصور أن معنا في هذه القاعة مائة مليون، وأنا معك وحدي، هل تقتلني من أجلها؟ فيجيب فيكون: طبعا.
وتشاء الأقدار أن يحصل الوضع بالتحديد، ويأتي في قضية بنبركة وضع مشابه، ومن أجل مائة مليون، لعب فيكون لعبة خطرة، فقد فيها روحه.
وفي أعقاب هذا البرنامج التلفزيوني، يتهافت المخرجون السينمائيون على فيكون، مثلما تتهافت عليه عصابات المافيا، وبالضبط، مجموعة لومارشان، ليعود فيكون إلى الإجرام، لكن عن طرق مضمونة العواقب، ويلتقي فيكون بكبير الإرهابيين، جواتيا، الذي سبق أن حاول اغتيال الزعيم علال الفاسي كما ورد في فصول سابقة، ويتفق فيكون مع جواتيا، على أن ينتج الأول عن الثاني فيلما سينمائيا يمثل حياة الإرهاب بعنوان “بون كارسون”، ولكن لومارشان يستدعي فيكون ليكلفه بإنتاج فيلم آخر، أكثر مردودية وأبعد مرام، ويؤمن لومارشانلفيكون شقة قرب مكتب زوجته في شارع “فوبور سانت أونري”، قبل أن يكلفه بمهام بدائية تجريبية، كالمشاركة في اختطاف الكولونيل أركو كما سبق ذكره.
وإذا كان هذا الفيكون، الذي أصبح اسمه على كل لسان في فرنسا، وطبعا لدى جميع أجهزة المخابرات الواعية، قد كسب ثقة المهدي بنبركة ودخل حياته، بدعوى إنتاج فيلم سينمائي عن حركات التحرير، فكيف لا تدخل أجهزة أخرى، لدول أخرى، عملية اختطاف المهدي بنبركة، تلك العملية التي لم تكن سرا، حسبما يبدو، إلا على المهدي نفسه، وعلى أجهزة المخابرات التي كانت تتوق إلى انتصار كبير، عبر تنظيم مؤتمر القارات الثلاث.