الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الاتصالات السرية بين القصر وبنبركة

الخلفيات مهدت لاختطاف المهدي "الحلقة 13"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

تتمة المقال بعد الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

  كان اختطاف المهدي بنبركة في 29 أكتوبر 1965، مثار ضجة إعلامية كبرى، قلبت الرأي العام العالمي كله رأسا على عقب، فاختفت معالم الحقيقة، وسجلت الأجهزة السرية، والمخابرات الفرنسية والمغربية، انتصارا كبيرا، بطمس الحقائق وإتلاف الخيوط، حتى الجنرال دوكول نفسه، رغم عظمته وقوته، بقي مشدوها أمام الأحداث، صامتا أمام الصحفيين، وكان لا بد من مرور سبعة عشر عاما، وسيول جارفة من الأحداث، من التغيرات والانقلابات، لكي تستقر صفحة الحقيقة، وتسمح مياه البركة المخضوضة بالركود، لتتمكن الأعين من استكناه بعض الجزئيات، في مواقعها الحقيقية، وعلى حقيقتها الواقعية.

فعندما أعلن العاهل المغربي في خطابه يوم ثالث عشر أبريل 1965، العفو العام في أعقاب حوادث 23 مارس من نفس السنة، وإطلاق سراح قادة الاتحاد، حلفاء المهدي بنبركة السياسيين، وأحدث ذلك ردود فعل سلبية وغاضبة لدى بعض المسؤولين عن السلطة، والمستفيدين من الوضعية القائمة، وعلى رأسهم الجنرال أوفقير، وزير الداخلية، والذي كان قرار العفو تمريغا لأنفته في تراب الإهانة، خصوصا بعد مضي شهر واحد على أحداث مارس، كانت هناك أحداث كثيرة تجري في طي الكتمان، فقد كانت كل الأحداث مقرونة بالتساؤل: لماذا؟ ولم يكن أحد يعرف الجواب، لكن، هل كان هناك سر بالنسبة لأوفقير في ذلك الوقت؟ هل كان شيء يخفى عليه؟ وهو الذي أثبتت الأحداث فيما بعد، أنه استطاع تنصيب رجاله وأجهزته، فلم يكن يتعقب حركات وسكنات المواطنين وحدهم، ولكن نبضات قلب القصر كانت محسوبة في المكتب رقم 16 بوزارة الداخلية، وفي مكاتب أخرى وأجهزة أخرى، كان وزير الداخلية يحلل الشاذة والفاذة، وهذه ليست مجرد احتمالات، فبعد أحداث 1972، تم اكتشاف تلك الأجهزة واستخراج جذورها، لكن الأمر في سنة 1965، وهي السنة الحاسمة في تاريخ اختطاف المهدي بنبركة، كان عبارة عن سباق غير متكافئ بين القصر ووزير الداخلية، إلا أن الأحداث التي انكشفت بعد سنوات طوال، أكدت ريبة القصر وتشككه، وحرصه على الاحتياط من الأجهزة التي كان مفروضا فيها أن تحتاط له. يروي عبد القادر بنبركة، أخ المهدي بنبركة في كتابه “أخي بنبركة”، أن سفير المغرب في باريس، الأمير مولاي علي، استقبله في بيته بباريس في نهاية مارس 1965، وقال له: ((إن صاحب الجلالة يريد الاتصال بأخيك، ولكن جلالته تعب من الوسطاء الذين يحرفون كل شيء، ويريدك أنت أن تكون رسوله عند أخيك. قل للمهدي أن جلالة الملك يقول لك: إن له معادلة يريد حلها))، فقد كان المهدي بنبركة أستاذا للرياضيات، وكان العاهل المغربي تلميذا عنده، فسيعرف إذن مدلول الرغبة في حل المعادلة، بينما كان السفير، الأمير مولاي علي، واضحا، فقد تعب العاهل من الوسطاء الذين يحرفون كل شيء.

كانت هذه المقابلة التي يحكيها عبد القادر بنبركة بأمانة في كتابه الصادر عن مؤسسة “روبير لافون” في باريس، هي الحلقة المفقودة في خضم الحملات الإعلامية التي أثرت زوابعها على معرفة الحقيقة، وأضفت عليها أجهزة المخابرات الفرنسية المورطة، هالة من التعتيم، وقبل أن يعلن العاهل المغربي عفو ثالث عشر أبريل 1965، كلف سفيره في باريس، وزوج أخته، ورجل ثقته، والصديق الحميم لعبد القادر بنبركة، وشريكه في بعض المشاريع التجارية، الأمير مولاي علي، بأن يحضر في إطار السرية التامة، عودة المهدي بنبركة للمغرب، ويدعم رغبته بخطوات كانت مستبعدة، مثل العفو التام، ثم إن المهدي بنبركة لم يكن أخطر بالنسبة للنظام المغربي من محمد البصري الذي شمله العفو، وأطلق من السجن، ورغم أن المهدي بنبركة تشكك في ادعاءات السفير، إلا أنه صدقها بعد أن تسلسلت الأحداث بشكل لا غبار عليه. يقول عبد القادر بنبركة في كتابه: ((بعد أحداث مارس 1965 ببضعة أيام، توصلت في فرانكفورت بمكالمة تلفونية من مولاي علي، ابن عم الملك وسفيره في باريس، وطلب مني السفير أن أزوره في باريس بمنتهى السرعة. لقد كنت أنا ومولاي علي أصدقاء منذ ستة أو سبعة عشر عاما، أي منذ غادر مراكش وجاء إلى الرباط لمتابعة دروسه في مدرسة بلافريج، ومولاي علي هو ابن مولاي الحسن صهر الملك محمد الخامس، وهو شاب متواضع ومنشرح، لا يتباهى بانتسابه للعائلة الملكية، وكان يتقاسم معنا حياة الشباب، التحق بالعائلة الملكية في منفاها بمدغشقر، وحصل على عطف الملك محمد الخامس، وفي سنة 1961، تزوج بأخت الملك الحسن الثاني، الأميرة للا فاطمة الزهراء، وبعد الاستقلال، أسست معه شركة تجارية ناجحة، قدمت منها استقالتي بعد أن عينت مستشارا اقتصاديا للسفارة المغربية في ألمانيا الاتحادية، وذات صباح من مارس 1965، توجهت لتناول الفطور مع مولاي علي في مسكنه الباريسي، فيلا سعيد، شارع فوش. وقال لي: إن صاحب الجلالة يريد الاتصال بأخيك، ولكن جلالته تعب من الوسطاء الذين يحرفون كل شيء، ويريدك أنت أن تكون رسوله عند أخيك. قل للمهدي أن جلالة الملك يقول لك: إن له معادلة يريد حلها، وسألت السفير: وماذا يعني هذا الكلام؟ فيجيب السفير: أنا نفسي وضعت هذا السؤال، وأجابني جلالة الملك بأن المهدي أستاذه السابق في الرياضيات، سيفهم بالتأكيد ماذا يعني، قل لأخيك إذن، إذا قبل الاتصال أني سأتوجه إلى المغرب لأخذ التعليمات)).

تتمة المقال بعد الإعلان

ويستمر عبد القادر بنبركة في سرده: ((ورجعت إلى فرانكفورت، واتصلت هاتفيا بالمهدي الذي كان متواجدا بالقاهرة، ونقلت له بأمانة كلام مولاي علي، لكن أخي تصلب وقال لي: “إن مولاي علي شاب ظريف، بلغه تحياتي، لكن ليس لي شيء أرد به”، وبعد بضعة أيام، جاء المهدي إلى جنيف واتصل بي تلفونيا، في بيتي بفرانكفورت كعادته، ولم يكن بعد قد قرأ الصحف، فكان يجهل أن الملك الحسن الثاني قد أصدر بالأمس، عفوه على محمد البصري وباقي المعتقلين السياسيين. فقال المهدي: إذن، هناك تغيير، سأذهب أولا إلى الجزائر، لكن اتصل بمولاي علي وأبلغه أني مستعد لمقابلته في ظرف عشرة أيام، واتصلت بمولاي علي، الذي توجه رأسا إلى المغرب، رسميا في إجازة بمراكش، وعمليا لتلقي التعليمات من الملك، وفي 25 أبريل، وأخيرا، جاء مولاي علي السفير إلى فرانكفورت، حيث توجهت إلى المطار لاستقباله، وتفاديا لما قد يحدث في باريس من إفشاء للأسرار.. فقد ركب طائرة تمر عبر ميلانو، وهي الطائرة التي التحق بها في توقفها بمدينة نيس، عبد الرحمان اليوسفي، الذي كان على موعد هو بدوره مع المهدي)).. ونمضي مع السرد المكتوب لعبد القادر بنبركة، محللا لهذه الحلقة التاريخية من الاتصالات السرية بين القصر والمهدي بنبركة: ((وصل المهدي إلى فرانكفورت قادما من جنيف، وكان اللقاء في بيتي، 69 “كيروير شتراس”، ولم يكن الحوار رسميا إلا بعد العشاء))، ويدخل سرد عبد القادر بنبركة عن المقابلة بين المهدي بنبركة وسفير المغرب في باريس، مباشرة في المواضيع الحساسة التي أثارها المهدي، والتي لا تترك مجالا للشك في أن الخوف الذي كان يساور المهدي لم يكن من الملك، وإنما من بعض ضباط الجيش دون أن يذكر اسم أوفقير، فقد كانت تخوفات المهدي من أوفقير، ومن نواياه، هي الوجه الحقيقي للصراع الذي كانت الأيدي الخفية، تعطيه شكل التآمر. وبعد أن أكد السفير للمهدي ((إن جلالة الملك واثق من أجهزته كلها))، عرض عليه المهدي شكل التعاون الذي سيعقب دخوله للمغرب، والمرفق بتشكيل حكومة اتحادية لا يعارض المهدي في أن يسهم فيها رجال يثق فيهم العاهل المغربي، على أن تحصل تلك الحكومة على فترة سلام اجتماعي، وفرصة للعمل تتم في إطار الإعلان عن حالة الاستثناء وفقا للفصل 35 من الدستور، واستمع السفير إلى برنامج المهدي قبل أن يسأله عن إمكانية دخوله للمغرب، فأجاب المهدي: ((ما دمت متمتعا بالعفو، فليس هناك مانع لرجوعي)).

قد تكون هذه المحادثة بين ثلاثة أصدقاء، وأحدهم سفير معتمد للمغرب بباريس، ومبعوث خاص للعاهل المغربي، عارية عن كل مصداقية لو أنها بقيت محبوسة بين جدران شقة عبد القادر بنبركة، ولكن هناك حدث أعطى لهذه المقابلة طابع الجدية، وختم عليها بختم القبول، فبعدها بشهر وتسعة أيام، أعلن ملك المغرب حالة الاستثناء طبقا للفصل 35 من الدستور، في رابع يونيو 1965، ولم يفهم أحد في المغرب، ولا أوفقير نفسه، سر هذا القرار الملكي الذي كان مفروضا فيه أن يكون متبوعا برجوع المهدي بنبركة إلى وطنه، فقد تعدى الوضع مجال الاتصالات السرية، ودخل مرحلة التنفيذ، فأصبح إذن، أكبر من الشكل المحدود الذي فسر به عملية الاتصال قصد إرجاع المهدي بنبركة إلى المغرب.

وكان أول المصدقين هو عبد القادر بنبركة نفسه، وهو ليس بالرجل التافه ولا المتسرع في تصرفاته، فقد جاء شخصيا للمغرب وأخذ يجري الاستعدادات لرجوع أخيه، وكراء بيت جديد لاستقبال المهدي بنبركة.

تتمة المقال بعد الإعلان

 

يتبع

تتمة المقال بعد الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى