الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | مخطط تصفية الحركة الوطنية في شمال إفريقيا

دور الأجهزة الفرنسية في اختطاف بنبركة "الحلقة 10"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    عندما كانت طائرة بنبلة ستنزل في مطار الجزائر، أخذت المضيفة مكبر الصوت، وقالت بصوت عذب: ((سيداتي سادتي، بعد قليل، ستنزل طائرتنا بمطار تونس الدولي))، وعندما نزلت طائرة الزعماء الجزائريين في مطار الجزائر، شرب الكولونيل ميرسيي، منسق الوجود الفرنسي في سويسرا، نخب الانتصار.. فقد كان مصابا بمركب الاستعلاء، معتزا بنفسه، فخورا بقامته الطويلة ومظهره الذي كان يجعل النساء في سويسرا تتساقطن بين أحضانه، مما جعله يعيش حياة أقرب إلى الأبطال السينمائيين، وكانت الحكومة الفرنسية قد مهدت له التغطية الكافية، أولا، بتسميته ملحقا تجاريا بالسفارة الفرنسية في بيرن، وثانيا، بتزويده بعدة جوازات سفر ووثائق هوية مختلفة، فتارة يخرج الوثائق التي تسمیه “جان بول میسمیر”، وتارة يتعامل باسم “جان واليك”، وتارة أخرى باسم “جان روسو”، ولكنه في كل الأدوار التي ينتحلها، كان يستهدف تصفية الوطنيين، مغاربة أو تونسيين أو جزائريين، وكلما مر في طريقه غريب أو متدخل، لقي نفس المصير، سواء عن طريق الانتحار الحقيقي أو المفروض، ولقد سار الكولونيل ميرسيي طويلا في فريق المخابرات المغلفة بالمظاهر السينمائية، إلى أن زج ذات يوم، وهو في سويسرا، وكما سبق، بوكيل الدولة العام الذي انتحر، مما جعل الصبر السويسري ينفذ، فطلبت الحكومة السويسرية رسميا من الحكومة الفرنسية، سحب ملحقها التجاري ميرسيي من مهامه في سويسرا،

وغادر بيرن في أبريل 1957، لكن الكولونيل ميرسيي، بعد فترة من المراجعة لأنشطته السابقة، توجه إلى مجال آخر، أكثر عنفا وأخطر ممارسة، فقد قرر اختراق أجهزة المقاومة الجزائرية، وتأسيس مجموعة من المرتزقة تحمل العلم الجزائري الثوري، علم جبهة التحرير، لكنها تخوض المعارك ضد جيش التحرير الجزائري، وبذلك يكون الكولونيل ميرسيي أول من فكر في حل كالحل الذي استعمله الإسرائيليون بعد ثلاثين عاما.

ففي مايو 1957، نظم أحد عملاء المخابرات الفرنسية، ويسمى “محمد بلونيس”، أول هجوم، بمشاركة ألفين من المرتزقة، ضد قوات جيش التحرير الجزائري النظامي، مما جعل قيادة الجيش الفرنسي تقبل لعبة المخابرات الفرنسية، وتغض الطرف عن منح هذه المخابرات رتبة جنرال للعميل “بلونيس”، الذي اقتطع لنفسه منطقة واسعة تمتد من سيدي بوسعادة وتمتد نحو غرداية وسيدي عيسى، وكان الجيش الفرنسي يرى في مهمة العميل، الجنرال “بلونيس”، فرصة تسمح لجيوشهم بمغادرة المنطقة الجنوبية الغربية، والاتجاه نحو الصحراء، بعد أن بدأت بوادر إنتاج البترول الجزائري، ولكن الانفصالي “بلونيس” بدأ في إملاء شروطه على الجيش الفرنسي وعلى المخابرات الفرنسية، فصدرت الأوامر من إدارة “سديك” إلى فرقة خاصة، التحقت به في قيادته، واغتالته مع جميع مساعديه في يوليوز 1958، وعاد الفرنسيون إلى الاعتماد على أنفسهم وأجهزتهم، للاستمرار في طريق اختاروه بدافع استعماري ومصلحي، ولكن تجربة الجنرال “بلونيس” لم تكن آخر محاولات المخابرات الفرنسية، ولا أثبطت همة الكولونيل “ميرسيي”.

ليس منطقيا الاعتقاد بأن جهاز المخابرات الفرنسية، ومنظمات “سديك”، و”اليد الحمراء”، و”الوجود الفرنسي”، و”الباربوز”، و”الجهاز الموازي” (باراليل)، وغيرها كثير، لم تنتج غير ضباط من فصيلة الكولونيل ميرسيي، ولا كانت كل الأعمال الإرهابية التي سبق تقديم نماذج منها، هي كل ما تم التخطيط له أو تنفيذه، فلقد عرفت أجهزة المخابرات، خلال العشر سنوات التي سبقت اختطاف المهدي بنبركة، توسعا لا حدود له، وكما سبق أن قدمت نماذج عن الأعمال الجبارة التي تم تنفيذها في فرنسا وألمانيا وسويسرا، وحتى ضد الاتحاد السوفياتي، فلقد تشابكت خيوط الأجهزة، وغطت المنطقة، بعدما ربطت صلاتها ووطدتها مع أجهزة الدول الأخرى التي كانت وقتها متحالفة فيما بينها بحكم اتفاقيات الحلف الأطلسي، وهكذا، فلم تكن منظمة “السي. آي. إي” غريبة ولا بعيدة عن كل الأحداث التي دخلت في مخطط تصفية الحركة الوطنية بشمال إفريقيا، مثلما لم تكن الأجهزة الإسرائيلية غريبة عنها أبدا، فبعد العدوان الثلاثي ضد مصر سنة 1953، ولدت المصالح المشتركة بين جيوش الدول الثلاث، إسرائیل وبريطانيا وفرنسا، وبقيت أثار ذلك التعاون والارتباط مرتسمة على محيا الوضعية السياسية في المنطقة العربية كلها، ولم يكن المسؤولون عن تنظيم العمليات، يتوانون عن فتح أبواب السجون لإخراج كبار المجرمين، والاستعانة بخبراتهم في المجالات التي يتطلبها الموقف، فقد تم، على سبيل المثال، إخراج الإرهابي الكبير صاحب السوابق الخطيرة، “مارسيل فرانسيسي” من السجن، بعد أن أصبح أحد كبار الرجال الخطرين في طنجة من سنة 1948 إلى سنة 1952، وأسندت إليه إدارة كازينو لبنان، حيث كانت منظمة “سدیك” ترغب في التجسس على الأغنياء العرب، وعلى الاتصالات التي تتم من وراء الألعاب، وهي حقائق بقيت في طي الكتمان، إلى أن استنفدت مهمتها، فتولت مجلة “التايم” الأمريكية في عدد رابع شتنبر 1972، نشر خبايا ما تم في منطقة النفوذ الفرنسي للمخابرات، وهي التي نشرت قصة ارتباط فرانسيسي بالمخابرات الفرنسية، وإدارته لكازينو لبنان، وعلاقاته، وعلاقة المخابرات الفرنسية مع أحد التجار اللبنانيين، يوسف بيدس، صاحب أزمة بنك “إنترا”، تلك الأزمة التي لم تكن هي بدورها بعيدة عن لعبة المخابرات الفرنسية، فقد كانت مهمة فرانسيسي في كازينو لبنان، ليست فقط الإدارة والاستعلام، بل كان يعرض على التجار العرب، المهتمين بتزويد حركات التحرير الشمال إفريقية، والذين هم على اتصال بثورة جمال عبد الناصر، بالسلاح اللازم، ويمضي معهم الصفقات، ويشحن لهم الأسلحة، وتقول مجلة “التايم” الأمريكية: ((كان العميل فرانسيسي على اتصال بالمافيا العالمية، التي كان يرأسها آنذاك “لوكي لوشیانو” المافيوزي المشهور، وكان مندوبه في لبنان، هو لويدجيمیناسولا، الذي كان يضمن لفرانسيسي الأسلحة المطلوبة مقابل الحشيش، ولكن لويدجي كان يبلغ رئيس المافيا لوكي لوشيانو، بالصفقات، فكان لوكي يبلغ التفاصيل عندها بدوره، للجهاز الفرنسي لمخابرات “سديك”، ولجهاز حماية التراب الوطني الفرنسي، فيتم اقتناص الأسلحة عند وصولها ومعرفة مستلميها، بينما يأخذ لوكي مقابل خدماته، تغطية الحكومة الفرنسية، والأبواب المفتوحة للمافيا في فرنسا)).

اسم فرانسيسي لم يرتبط فقط بيروت، وكثيرا ما كانت القصص السينمائية المكتوبة عن بيروت، ورجل بيروت، تلمح إليه، فقد كانت له ارتباطات كبيرة في باريس، فهو صاحب مقهى “الفوكيتس”، الذي تسابق الأثرياء العرب لشرائه، وهو أيضا رجل المجموعة التي نظمت عدة عمليات اختطاف واغتيال في قلب باريس، مثل قضية الكولونيل “أرکو” وقضية “ماركوفيتش”، وحتى قضية بنبركة، ذلك أن فرانسيسي كان من النوع الذي يفضل النقاش على طريقة “الكاوبوي” بين رجلين، يموت واحد منهما ليبقى الآخر، وقد انطلق رصاص كثير من مسدسات فرانسيسي، ولكنه كان دائما الرجل الذي يبقى حيا، لقد بقي، وأصبح سيد المشاريع التجارية الكبرى “المحترم”، وصاحب النادي الكبير في “کروفينر ستريت” بلندن، بعد أن تعاقد مع إدارة نزل “أليتي” المشهور بالجزائر، من سنة 1958 إلى سنة 1963، ولكنه في السبعينات، ركز نشاطه حول الحكومة الفرنسية، وأصبح له دور كبير في تمويل الحملات الانتخابية، وانطلاقا من نادي “أوسمان” الذي أسسه، أصبح يأمر وينهى، ويستدعي مديري الصحف الذين يتحدثون إليه، بواسطة عصاباته، لتهديدهم أو إرغامهم على الصمت، برهانا ساطعا على أن الجماعة التي فرضت الإرهاب والاغتيال والاختطاف، وكل أنواع الابتزاز، بقيت قائمة الأجهزة وثيقة الاتصالات إلى يومنا هذا..

لقد ذكرت في مقدمة هذا الفصل، أن الأجهزة الفرنسية التي توالدت عنها كل هذه العصابات، لم تتأسس إلا بحكم الوضعية الجديدة في شمال إفريقيا، وفي أعقاب الحرب العالية الثانية، واتضح من خلال السرد السريع والمستعجل والمختصر للكثير من الظروف والحالات، أن هذه الأجهزة كبرت وترعرعت في فترة قصيرة، ممتدة من سنة 1950 إلى 1965، السنة التي تم فيها اختطاف المهدي بنبركة، وعلى أيدي كل الذين وردت أسماؤهم في هذا السرد، ولكن الأجهزة الفرنسية عرفت فيما بعد ذلك، وفي أعقاب اختطاف المهدي بنبركة، حالات من النمو والتوسع مذهلة مثيرة، سيرد تفصيل بعض جزئياتها، ولكن التساؤل الكبير، والذي كان منطلقا للغوص في هذا البحث والتحليل، كان هو الإقدام الشجاع والمتطاول لسياسي مغربي، هو المهدي بنبركة، واختياره لخوض حرب ضد كل هذه الأجهزة، وتبنيه خلال المفاوضات الفرنسية الجزائرية، في إيفيان، بحكم السلاح، للتحدث باسم الثورة الجزائرية، بعد أن أعلن في المغرب حربا على مجموعة من المسؤولين الذين كانت ارتباطاتهم مع المصالح الفرنسية واضحة جلية، ثم توجهه لمواجهة الغول الأكبر، غول المخابرات الأمريكية، بإثارة ملف إدماج أمريكاالجنوبية في حركة التحرير الأفروآسيوية، بعد أن تحدى المخابرات الإسرائيلية بتركيز نشاطه في الشرق الأوسط على التعاون مع الزعيم جمال عبد الناصر.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى