تحقيقات أسبوعية

مع الحدث | آخر كلمات محمد سبيلا في فلسفة “الجائحة”

إدريس هاني صديق الفيلسوف الراحل يكتب..

خبر حزين.. حزين جدا.. وفاة المفكر المغربي الدكتور محمد سبيلا، بعد أن قارع فيروس “كورونا” المستجد.. رحل الرجل الطيب ومعلم الأجيال عن عمر ناهز 79 عاما.. خبر حزين، لأن صديقا رائعا وأبا معنويا نفتقده.. تراجعت صحة الأستاذ سبيلا خلال السنوات الأخيرة، غير أنه كان يكافح معرفيا، وقد حافظ على قدرة فكرية هائلة، لعل آخرها حين استدعيناه لمحاضرة في المجمع الفلسفي العربي، تضمنت أفكارا عالية ببلاغة راقية، ولعل المفارقة هنا، أنها كانت حول فلسفة الجائحة.

بقلم: إدريس هاني

    محمد سبيلا، مسار طويل لا يمكن تلخيصه في عجالة، أغنى المكتبة المغربية والعربية بأجمل الأعمال، وأعمق الأفكار، متابعا، ومنافحا.. ترأس الجمعية الفلسفية المغربية، وأدار “مدارات فلسفية” وهي مجلة فلسفية عريقة..

تتمة المقال بعد الإعلان

حرصنا مرارا على تكريمه، وكان ذلك مرة وقصر به العياء والمرض عن أخرى، حتى قبل وفاته، اتصل بي رحمه الله وأوصاني بثلاثة من زملائه وطلبته في نشاط فلسفي قادم.. كان يفكر في الآخرين ومع الآخرين وللآخرين، ويحمل مسؤولية الفكر، وحيث ظلت أهم خصائص هذا الرجل: حب المعرفة والوفاء والزهد والإنصاف، فإن فقْد هذا المفكر ثلمة في الفكر المغربي والعربي.

كنت كلما اشتد الحال، أهرع إليه فأجده حاضرا متموجدا يرشح بطاقة إيجابية، ومتابعا لا يهدأ في الفكر والسياسة، فلا أقوم من جلساتي معه إلا وكلي اطمئنان إلى وجود بقايا نبلاء على هذا الكوكب، أتقاسم معه كل شيء، في رقي فلسفي وأخلاقي.. إنني أفتقده.

لا أستطيع أن أقف عند محطات كثيرة، فخبر رحيل هذا المفكر النبيل مؤلم.. رحلت أيها المثقف وفي نفسك الكثير من التطلعات كمثقف مشتبك مع مشكلات وقضايا المجتمع.. ستظل صورتك حاضرة، ابتسامتك الأبوية البريئة، نبل الصداقة والوفاء.. كثير من الذكريات، والهمس المعرفي.. سينعيك الجسد المعرفي الجريح.. رحلت في ألم ونخوة ونُبل وتركتنا حزانى..

تتمة المقال بعد الإعلان

منح المفاهيم عناية.. اقتفى أثر الدلالة.. لم يكن مترجما عادلا ولا خائنا للنص، وهو في هذه الحرفة قديم، بل كان في الترجمة كريما محسنا يزيد اللفظ مضاء والمعنى عمقا وبهاء..

أما الرحيل فهو قدر الكائن، منه يأتي، في تأملات هيدغر الوجودية، وقد كان الدكتور محمد سبيلا واقفا على تلك الأثار، ناظرا ومترجما، وسأواصل إن أمكن، العمل على إنجاز عمل حول هيدغر من تنسيقه وترجمته، أتمنى أن نوفق في ذلك تكريما لروحه، في القادم من الأيام.

عاش مع المفهوم حد الشوق والاحتراق.. مؤنسا وماتعا.. قابسا ومقتبسا.. خبيرا بتاريخ الأفكار، متابعا لا يفوته جيد وأجود منها.. عارفا بغواية الإيديولوجيا وهو من طارح حولها، متتبعا أثارها.. واقفا على النصوص الكبرى من منابعها، غير متكاسل عن تقليب النظر في ما لها وما عليها..

تتمة المقال بعد الإعلان

مفكر وأديب.. بيداغوجي جعل من القول الفلسفي منهج حياة.. صانع يراقب صنعته في ورش دائم الحركة.. مثال للسهل الممتنع.. فكر مشرق لا لبس فيه.. معلم الأجيال.. لذلك لن تكون الخسارة بسيطة.

ما يقارب الثلاثين عاما، هو عمر صداقتنا، ما تغير فيها شيء من سمته ونبرته قطّ.. إن سيرة الراحل سبيلا هي بعدد أنفاس رفاقه وأصدقائه.. تحدث في آخر محاضرة حول فلسفة “كورونا”، ناسجا رؤية لمستقبل إنسانية أخرى تولد من صميم هذه التحولات الجديدة.. إن الفكر والمفاهيم تنعيه، لأن رحيل أمثال السي محمد سبيلا، هو فراغ يصعب تعويضه في مجال لم يعد يقبل مزيدا من الانحدار، والسي سبيلا هو واحد من فلاسفة ونقاد الرداءة بامتياز.

نخشى من رحيل الكبار، ولكن العزاء أنهم وإن رحلت جثامينهم، لن يرحلوا بأثارهم الرمزية، الخالدون بقوة الكلمة وصدق العبارة ونبل الفكر.. ولأن فكرهم سيزهر أكثر ويفهم أكثر حين يغادرون.. سيولدون من رماد حروفهم، من بقايا أثارهم، من طيف أفكارهم، من قلوب وعقول رفاقهم وطلابهم..

تتمة المقال بعد الإعلان

في المحاضرة القيمة التي قدمها الدكتور محمد سبيلا، نظمتها كلية الآداب بجامعة بغداد/ قسم الفلسفة، و”المجمع الفلسفي العربي” تحت عنوان: “في إمكان التفكير الفلسفي في الجائحة”، نقلنا الفيلسوف سبيلا – متمرسا في القول الفلسفي للحداثة ورئيس شعبتها السابق، ومدير تحرير “مدارات فلسفية” على مدار سنوات طوال، والمترجم لنصوص كثيرة – إلى فضاء التفلسف في الجائحة، بعد أن تحدث الطبيب والسوسيولوجي وغيرهما عن الجائحة، باتت الحاجة ماسة لانخراط الفلسفة بأدواتها وحسها التأملي في إشكالية الجائحة، وأن تحتضن في مقولاتها الحديث عن تداعياتها.

ولقد قدم د. محمد سبيلا لمحاضرته بتوطئة نظرية تعيدنا إلى وظيفة الفلسفة، باعتبارها تجسيدا للانهمام باليومي والراهني، وذلك بتعزيز موقفه بآراء فلسفية لهيغل ونيتشه وفوكو، ممن وافق منهم على راهنية الاهتمام الفلسفي وحدوثية الحدث، أي كيف يحدث وما هي مآلات حدوثه، يغدو الفيلسوف هنا ممارسا بشكل ما لمهمة الصحفي وفق مقولات مختلفة وأدوات معرفية تعانق الأنطولوجي عبر سبر الواقعة وتشخيص المعيش، كما اعتبر فوكو نيتشه فيلسوفا صحفيا (philosophe journalistique).

الملفت في آخر محاضرة الراحل محمد سبيلا، هو أنها واضحة بما فيه الكفاية في أسلوبها ومقولاتها، وتعكس عناية خاصة في انتقاء ألفاظها ومفاهيمها، بحيث أنها تخلو من النشاز والتّعمّل والرّهق، وتسهل المأمورية على المتلقي، وتمنح الخطاب الفلسفي وعملية التلقي حقها ورونقها الإستيتيقي.. نص يجمع بين الإمتاع الأدبي والعمق الفلسفي، ويحقق سفرا عقليا في محطات فلسفية كبرى، باحترافية بيداغوجية وتأملية تتحقق فيها القدرة التوليدية البين-مناهجية.

تتمة المقال بعد الإعلان

تجنب سبيلا الغوص في البعد الأخلاقي، حتى حينما تحدّث عن الغيرية، بل كان واعيا بأن حاجتنا، لا سيما نحن العرب الذين نقف على موروث أخلاقي هائل، أن نحقق ما نحن في حاجة إليه، أو بتعبير آخر، ما نحتاجه من تكثيف النظر العقلاني والتحليلي والتشخيصي، حيث هناك تكمن الأزمة، وهو بذلك أخرج “القول الأخلاقي” من مأزق الاستغلال “الأخلاقوي” كلعبة خداع ومغالطة تخفي ضحالة المضمون الفلسفي، وتحدث شرخا بين الإثيقا واللوغوس.

ولعل أهم ما أثاره د. سبيلا في هذه المحاضرة، هو أن “كوفيد 19” حطم كبرياء الكائن، كما استطاع من خلال تكميمه أن يخفي أنفه كعنوان أنفة وتشمم، وأخفى معه الفم الذي هو جهاز للتعبير.. ثمة دلالات فيما حصل من إجراءات، أعادت مفهوم الدولة إلى الطبيعة، حيث باتت لها صلاحيات إضافية، ونقل الاهتمام فيما ذهب إليه سبيلا في مشروع ما بعد الإنسان، أننا نعيش شبه حياة.. حياة غير كاملة، وانتقل التفكير العلمي إلى موضوع الحياة بامتياز.

أفكار ودلالات كثيرة احتوت عليها محاضرة المفكر المغربي محمد سبيلا، وهو ما يؤكد على راهنية اهتمامه، وخوضه في عويصات الواقع حدثا وحدوثا، مما يجعل دورة القول في الجائحة قد اكتمل من حيث الاشتغال، وذلك حينما أطلت منيرڤا في الأخير لتعيد نظم الجائحة نظما عقليا، وتجعل من الجائحة موضوعا ترنسندنتاليا بامتياز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى