الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | جرائم المخابرات الفرنسية التي سبقت اختطاف بنبلة

الظروف الممهدة لقضية بنبركة "الحلقة 09"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

تتمة المقال تحت الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    تجاهل التاجر الألماني “شلوتير” كل التلميحات والتحذيرات الموجهة إليه من طرف عصابات “اليد الحمراء”، وأخيرا وبعد رفضه، عرضت عليه العصابة مشروع اتفاق على طريقة الجنتلمان: أنت تستمر في تزويد حركات تحرير الشمال الإفريقي بالسلاح، ونحن نسمح لك بذلك، مقابل أن تبلغنا في كل مرة،

قبل تسليمها، عن مواعيد التسليم ومواقعه، فتكسب أنت، ونتصرف نحن، وأعطي مهلة قصيرة للجواب بنعم، وبعد فوات الموعد بساعات، انفجرت عبوة ناسفة داخل مكتبه، مات بانفجارها أحد زواره، وخرج “شلوتير” ناجيا، ومضت فترة طويلة، ترکت له لينسى، وفي 3 يونيو 1957، ركب سيارته “المرسيديس”، وعندما غير محرك السرعة انفجرت السيارة في الجو، وعند حضور رجال الإطفاء، أخرجوا جثة أمه ممزقة إربا إربا، وبجانبها كانت جثة “شلوتير” لا زالت تنبض بالحياة، وبعد أيام قليلة في المستشفى، خرج وكأن شيئا لم يكن.

ومرة أخرى، تركت للتاجر الألماني، أوطو شلوتير، بضعة شهور لينسى أو يتراجع، وفي أكتوبر، نصبوا له كمينا متقنا على الطريق السيار بين مدينة هامبورغ ومدينة لوبيك، حيث تسير السيارات بسرعة مفرطة، وعند أحد المنعرجات، أطلق أحد الخبراء في الرماية، رصاصة على عجلة سيارته، وشاهد أفراد العصابة سيارته وهي تحلق في أجواء الطريق السيار قبل أن تسقط قطعة متفجرة، ولكن استغرابهم كان كبيرا، عندما رأوا السائق التاجر يخرج من ما تبقى من أطراف السيارة، ولكن شلوتير في هذه المرة، أبلغ زبائنه الجزائريين، بأنه قرر التوقف عن تزويدهم بالأسلحة، ولكن تاجرا ألمانيا آخر، أراد انتهاز الفرصة واتصل بالثورة الجزائرية للاستمرار في المهمة التي توقف عنها شلوتير، وفعلا، وبمجرد ما أمضى الاتفاق لأول صفقة للسلاح، كان يركب سيارته في أحد شوارع مدينة فرانكفورت، حينها انفجرت السيارة بقنبلة مرتبطة بالمحرك، مات إثرها المزود الجديد جورجبوشيرلتوه، صباح الثالث من شهر مارس 1959، وكانت مخابرات “سديك” قد اكتشفت علاقة بوشير مع الثورة الجزائرية في مدينة طنجة، حيث اجتمع مرات بالمسؤول الجزائري محمد بوصوف، وبقدر ما كانت محاولات اغتيال التاجر الألماني الأول، شلوتير متشابهة مع أي شريط سينمائي، فإن اغتيال التاجر الثاني،بوشير، لم يكن أقل جاذبية ولا أبعد مما يتصوره مبدعو الأفلام السينمائية، وقد كان خبراء الجهاز الفرنسي السري “سديك” مشدودين في أساليبهم إلى الإنجازات “الجيمسبوندية”، وفيما يتعلق بالتاجربوشير، فقد تركوا له الوقت الكافي لتنفيذ اتفاقه مع محمد بوصوف، وكان يقضي بتزويد الثورة الجزائرية بأكثر من سبعة ملايين رصاصة، وعدة مئات من الرشاشات، وعندما وصلت البضاعة على متن باخرة قادمة من تشيكوسلوفاكيا في اتجاه شاطئ الناضور المغربي، توصل التاجر بوشير، في مكتبه بفرانكفورت، بعلبة صغيرة، فتحها ليجد بها تابوتا صغيرا منحوتا من الخشب، ولم يفهم إلا بعد أن نزلت على الآلة الكاتبة لجهاز التليكس، برقية تخبر بانفجار باخرة تسمى بـ”روخاروخا” في مضيق جبل طارق، وكانت هي الباخرة التي شحن فيها السلاح، ونزل مسرعا من مكتبه، ليركب سيارته التي انفجرت..منتهی التنسيق، ولكنه تنسيق من النوع الذي يثير اهتمام المهتمين، بنوعية العقول التي تخطط له، وقد أثبتت وثائق الحكومة الفرنسية فيما بعد، أن عملية نسف الباخرة في عرض جبل طارق، وإرسال التابوت المصغر، وتفجير السيارة، كانت كلها من تخطيط الكولونيل “لوروا فانفيل”، وهو أحد أقطاب قضية اختطاف المهدي بنبركة.

تتمة المقال تحت الإعلان

ولكن اختطاف المهدي بنبركة لم يكن واردا في هذه الفترة التي كان الموت والإعدام فيها يسابق القرارات السياسية، لكن على يد نفس المجموعة التي سنلتقي بها في قضية المهدي بنبركة.

ونستمر في مراجعة سوابق العصابات التي تشكلت لتصفية روح التحرر والوطنية في شمال إفريقيا بعد استقلال المغرب وقبله، وأثناء السنوات الأخيرة التي سبقت استقلال الجزائر، ولكن هذه الأحداث التي نقدمها كمقياس لنوعية التعامل، لم يكن من الإنصافترکها في عالم السر، وبعد ألمانيا، توسع نشاط عصابة “اليد الحمراء”، الخاضعة لنفوذ مؤسسة “سديك”، ووصل إلى سويسرا التي كانت إحدى القواعد المحركة للعمل الإرهابي الفرنسي، ودائما، وبتعاون مع وكيل الدولة السويسري الذي سبق أن وصفت ظروف “انتحاره”، كشفت المخابرات الفرنسية عن تعامل تاجر سويسري يسمى ليوبولد مارسيل مع جبهة التحرير الجزائري، وكان يزودها هو أيضا بالأسلحة، وفي 19 شتنبر 1959، سقط في صالون الأوتيل الذي كان يسكن به في مدينة جنيف، وبعد حمله إلى المستشفى، تم اكتشاف شوكة صغيرة في مؤخرة عنقه، نفخت في اتجاهه عبر مضخة من النوع الذي يستعمل لضخ عجلات الدراجات العادية، وكانت مسقية بسم قاتل، وهذا أسلوب جديد في مجال الإرهاب الفرنسي.

وبعد ذلك بثلاثة شهور، تحدث عالم بلجيكي، يتعاطف مع قضايا المغرب العربي، وأعلن عن تأييده لاستقلال شعوب هذه المنطقة وضرورة الاعتراف باستقلال الجزائر، وفي يناير 1960، كان العالم البلجيكي، الأستاذ لابيرش، في بيته في لييج يتفحص كتابا بعنوان “الغزو”، ألفه أحد أصدقائه الجزائريين، حافظ کرمان، وغرق الأستاذ البلجيكي في صفحات الكتاب ومواضيعه، إلى أن قلب إحدى الصفحات، وكانت تلك نهايته، فقد انفجر الكتاب بين أنامله، ومات لتوه. فقد نسي أن يقرأ جملة على الصفحة الأولى للكتابکتبعليها: “هدية من اليد الحمراء”.

تتمة المقال تحت الإعلان

كانت هذه الأحداث، بعد وقوعها، تقدم للرأي العام العالمي، وعلى الصفحات الأولى للجرائد، على أنها أحداث متنوعة، وانتحارات، وتبرع أجهزة المخابرات الفرنسية في صبغها بالألوان الطبيعية، ولكن الأيام وحدها واستقلال الجزائر،هي التي مهدت لمعرفة هذه الأسرار وهذه الخبايا.. فقد كان الجيش الفرنسي يخوض معاركه في كل الواجهات، لا داخل الحدود الشمال إفريقية وحدها، بل كما ظهر فيما بعد، في كل بقاع الدنيا، ولقد أدرك الأمر ذات يوم، ضرب الاتحاد السوفياتي بعظمته، واتخذ المشكل طابع مجابهة بين فرنسا والاتحاد السوفياتي بعد أن سارع هذا الأخير إلى كشف الضربات الموجهة إلى منشآته، باستيلاء البحرية العسكرية الفرنسية، في عرض البحر، على الباخرة “ليديس” التشيكية، وصدور الأوامر من وزير الدفاع الفرنسي ميشيل دوبري إلى الأدميرالية البحرية الفرنسية، بالتعرض للأسطول السوفياتي وتفتيش الباخرة الروسية “بولغاريا” في عاشر نونبر 1961، لولا أن الغواصات السوفياتية طفت على وجه مياه البحر الأبيض المتوسط، ووجهت مدافعها نحو الأسطول الفرنسي، وهو موقف حازم من الاتحاد السوفياتي لم يكن من نوع التجاوز الذي كانت تتعامل به ألمانيا الاتحادية، خصوصا بعد أن تم نسف الباخرة “أطلس” في ميناء هامبورغ، في شتنبر 1958.

فكيف لا يتم استصغار عملية اختطاف الزعيم الجزائري بنبلة ورفاقه في 22 أكتوبر 1956، وهذه أجهزة المخابراتالفرنسية لا تتوانى عن ضرب أي كان، في أي مكان كان.

لقد كانت عملية اختطاف بنبلة في الجو، أحد الانتصارات التي سجلتها المخابرات الفرنسية، وسكرت بنشوتها، ولم تعرف بعدها حدودا لأنشطتها، وتكمن أهمية اختطاف بنبلة، في كونها أطلقت اليد لأجهزة المخابرات، وجعلتها تستصغر دور الحكومة المركزية في باريس، وتفرض عليها إرادتها، وكانت أجهزة “سديك” على علم بالاتصالات التي أجراها رئيس الحكومة كي مولي، عبر مرسوله “جورج کورس” إلى القاهرة، ولكن أجهزة المخابرات الفرنسية كانت تنتهز دائما فرص الاتصالات السياسية، لتضرب بعنف.. مستعملة أخبارها عن تلك الاتصالات، لترتيب أعمالها، مع رش بعض من ملح الإخراج السينمائي.

تتمة المقال تحت الإعلان

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى