الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | “العصابات” التي تحركت في المغرب والجزائر وتونس

تعاون الأجهزة الفرنسية على اختطاف بنبركة "الحلقة 08"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    بعد أن تأسست منظمة “الأواييس” لضرب الاتجاه الحكومي الفرنسي الموافق على التفاوض مع الثورة الجزائرية، أصبح طرف كبير من “سديك” يعمل بنشاط داخل المنظمة الإرهابية الفرنسية بالجزائر، كما أن الجنرال دوكول حينما قرر الدخول في حرب مع تلك المنظمة، واكتشف أن أغلب ضباط الجيش الفرنسي معها، راغبون في استعمالها كأداة لإعلان انفصال “جزائر فرنسية” عن الحكومة الفرنسية، اضطر إلى تأسيس جهاز إضافي أطلق عليه اسم “لیباربوز”، أصحاب اللحي، الذين كانوا يخفون ملامحهم وراء لحيهم السوداء، وبعد مدة غير قصيرة، خرجوا للعمل المباشر بدون لحية ولا حياء، وأصبح يطلق عليهم اسم “لیكوریل” (قردة الكوريلا)، إلا أنه مهما كان اختلاف أعضاء هذه المنظمات في اتجاهاتهم، فإنهم كانوا جميعا مرتبطين عضويا فيما بينهم بعنصرين: أولا، انتماؤهم لمنظمة “سديك”، وثانيا، عداوتهم للجنس غير الفرنسي، وكثيرا ما نظمت عمليات اغتيال شاركت فيها العناصر كلها، وفي إطار هذا التعاون، تم التنسيق فيما بينهم جميعا، في عملية اختطاف المهدي بنبركة، وعندما أحرجت الصحافة الفرنسية رئيس الدولة دوکول في ندوته الصحافية يوم 21 فبراير 1966، وحملته مسؤولية هذه الفوضى، وأثرها البارز في قضية المهدي بنبركة، أجاب الجنرال دوکول، قائلا: ((من لا يعرف، أنه أثناء الحرب ولمواجهة العدو، والدخول في تشكيلاته، تم استعمال فرق خاصة متخصصة، ومن لا يعرف، أنه بعد الحرب، ورغبة في سبر أغوار ما يجري في الجزائر، وفي الدول المجاورة لها وفي نفسها، ومعرفة ما يحاك هناك من مؤامرات، فإن أجهزة النظام استعملت القوات السرية..)).

ومثلما اتخذت زعامات حركات التحرير في المغرب والجزائر وتونس من سويسرا، أرض الاستقرار والضمانات، وبلاد البنوك التي کانت تودع فيها ثروات قوات التحرير، وأموال شراء الأسلحة، فإن الكولونيل “ميرسيي” قد اتخذ من جنيف مقرا له، ومركزا لنشاطه، وأصبح جهاز “سدیك” يتتبع تحركات الأموال المودعة في بنوك سويسرا، ويأخذ صورا للشيكات التي تشترى بها الأسلحة، وهو عمل جبار تطلب من الكولونيل “ميرسيي” أن يخترق حجب الأسرار السويسرية، التي كانت مقدسة الحرمة، وأن يوظف عملاءه داخل أجهزة السر الحكومية السويسرية، وبالتالي، فقد اتضح أنه سجل انتصارا كبيرا على الحكومة السويسرية، بعد أن اتضح أنه كان متواطئا مع أعلى قمة في المسؤولية القضائية السويسرية، وهو وكيل الدولة السويسرية العام، روني دوبوا، ولكن أصحاب الأموال المودعة في سويسرا استطاعوا الكشف عن هذا التواطؤ المخزي، وانفضح أمر وكيل الدولة السويسري الذي انتحر، تفاديا للمحاكمة.

ولكن الكولونيل “ميرسيي” لم يكن إلا مسؤولا منفذا للجهاز الذي سماه الجنرال دوكول بـ”القوات السرية”، وقد قام کعسكري وكسياسي وانطلاقا من مركزه في سويسرا، بخوض حرب ضد كل العناصر التي تأتي في شأنها تقارير من شارع “مورتيي” بباريس، وفي عهده الذي ابتدأ بمحاولة اغتيال علال الفاسي، تم اغتيال الزعيم الكاميروني فيليكس موميي، في قلب جنيف، كما أن التحريات التي تمت حول حسابات الثورة الجزائرية في البنوك السويسرية، كشفت عن اتفاق تم بين رجل الأعمال الإيطالي إینریكو ماتيي، المدير العام للشركة الإيطالية لتكرير البترول “إيني”، والرجل الذي كان يسعى قبل مولد “الأوبيك”، إلى إقامة كيانات بترولية مستقلة عن مواقع النفوذ الإمبريالي، فتعاقد مع الثورة الجزائرية، قبل الاستقلال، على إنشاء أول مصفاة للبترول في الجزائر، وأمضى عقدا دفع بمقتضاه للثورة الجزائرية مقدما، قسطا من الأموال مر عبر البنوك السويسرية، ليصب في حساب شركة “أنتير أرامكو” التي زودت الجزائر بالأسلحة التي شحنت وكان مقررا أن تصل الجزائر عبر مدينة جينوا الإيطالية، وقد بدأت الحكومة الفرنسية بالاتصال مع ماتيي بالطرق الدبلوماسية، نظرا للأهمية التي كان يوليها الرأي العام الإيطالي لأكبر رجل أعمال في إيطاليا، ولكن الاتصال الدبلوماسي كان مجرد إنذار، وصدر الأمر من مؤسسة “سديك” إلى أحد ضباطها، للدخول في خدمة ماتيي کميكانيكي لطائرته الخاصة، ولكن الضابط الفرنسي لم يستطع الحصول إلا على منصب ميكانيكي في مطار صغير كانت تنزل به طائرة ماتیي، وهو الذي كان يحضر باستمرار لذلك المطار الذي كان غير بعيد من إحدى مصافي البترول التابعة لشركة “ماتيي”، وفي 25 أکتوبر 1962، وعندما قرر الصناعي الإيطالي الكبير، الرجوع إلى ميلانو، تقدم الميكانيكي من الطائرة، ورتب أشغاله، وقبل أن تصل الطائرة إلى ميلانو، انفجرت في الجو.

واستمر الغول الإرهابي الفرنسي في التوسع والالتهام، بدون حدود، خصوصا بعد مجيء الجنرال دوكول للحكم، وتعيينه لأحد أقطاب تنظيم “سدیك” كوزير للداخلية في شخص “دروجي فري”، الذي شحن مكتبه بأقطاب الإرهاب والعنف الفرنسي، مثل “ألكسندر سانكينيتي، ومثل “جان بوزي”، إضافة إلى أحد أقطاب “الديكولية” والعنف السياسي، “جاك فوکار” الذي سيأتي الحديث عنه في فصول قادمة..

وما بين سنة 1958 حيث اقتعد جهاز “سدیك” منصب المسؤولية الحكومية في مشاركة أقطابه ورجاله في الحكم المباشر، ودخولهم وزارة الداخلية، وبين سنة 1965 حيث تم اختطاف المهدي بنبركة على يد نفس الرجال ونفس الجهاز، عرفت المنطقة الفرنسية، والمغربية والجزائرية والتونسية، أحداثا سرية تعدت في عنفها ووحشيتها كل ما جرى في ميادين القتال من معارك.

ولقد خاضت “الفرق السرية” معارك كان لها فيها التفوق الأكبر، لأنها جرت في ميادين بعيدة عن ميادين القتال، ولكنها میادین لم يكن من المشروط أن تكون محدودة في مناطق الحرب المعلنة.. فمن جهة، كانت الحرب المعلنة ضد سياسيي شمال إفريقيا، والمنطلقة من فلسفة البقاء الفرنسي في الجزائر، والتي جمعت إلى جانب الجيش وأجهزته، عصابات منظمة “الأوايیس” المتطرفة، وبقايا عصابات “اليد الحمراء”، أضيفت إليها مجموعات “الساك” المؤيدة للجنرال دوكول، والمكلفة بتصفية أعداء دوکول، الرجل الذي أخذ الحكم في فرنسا سنة 1958 بالقوة، وانطلاقا من الطابع السري لأغلب هذه المنظمات، كان المال يشكل العقبة الرئيسية أمام كل التنظيمات، الشيء الذي دعا كل المكلفين بخوض هذه الحروب الداخلية، إلى الاستعانة بتجارة المخدرات كمصدر للأموال اللازمة، وبالتالي، فقد أغرقت الأجهزة بالأسماء الكبرى لرجال التجارة في المخدرات، والمعروف عن المتعاملين في هذا المجال القذر، هو أنهم لا يعرفون لحياة البشر معنى، ولا يعتبرون الاغتيال إلا جزئية بسيطة، وفي خلال هذه الفترة، وبحثا عن الأموال، اهتز الرأي العام الفرنسي، إذاعة وصحافة، لفضيحة اختطاف أخرى، كان ضحيتها اليهودي “ليفي شالوم”، الذي اتضح فيما بعد أنه مسجون في بيت أحد أقطاب جهاز “الساك” والمسمى “مارسيل فرانسيسي”، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن دفع للعصابة فدية قدرها سبعمائة وخمسين مليون سنتيم، كما كثر الحديث في تلك الأثناء، عن تشكيل لجنة سباعية سرية في ألمانيا الاتحادية، لتعقب العناصر العربية والشمال إفريقية، وكانت أشهر عناصرها امرأة كانت تسمى “آنا” عرفت بخبرتها الكبرى في إطلاق الرصاص، سواء في ألمانيا، تونس والجزائر، أو المغرب، وتوسع نشاط اللجنة السباعية التابعة لـ”اليد الحمراء”، فشمل ليبيا، حيث ثبت لديها أن الملك إدريس السنوسي كان يمول بعض صفقات الأسلحة لفائدة الثورة الجزائرية، وثبت لمخابرات العصابة، أن أحد التجار الألمانيين في الأسلحة، ويسمى “أوطو شلوتير”، كان يشحن رشاشات “الموزير” من مكتبه في هامبورج، لفائدة الثورة الجزائرية، بينما ترتفع حساباته في البنوك إثر تحويلات من بنك ليبي، ولكن “شلوتير” هذا، كان ذا حظ غريب، وكأنه قط بسبعة أرواح، وسنرى من خلال العرض التالي، إصرار العصابة الفرنسية على اغتياله، وإصرار القدر على الوقوف بجانبه.

تجاهل التاجر الألماني “شلوتير” كل التلميحات والتحذيرات الموجهة إليه من طرف عصابات “اليد الحمراء”، وأخيرا وبعد رفضه، عرضت عليه العصابة مشروع اتفاق على طريقة الجنتلمان: أنت تستمر في تزويد حركات تحرير الشمال الإفريقي بالسلاح، ونحن نسمح لك بذلك، مقابل أن تبلغنا في كل مرة،

قبل تسليمها، عن مواعيد التسليم ومواقعه، فتكسب أنت، ونتصرف نحن، وأعطي مهلة قصيرة للجواب بنعم، وبعد فوات الموعد بساعات، انفجرت عبوة ناسفة داخل مكتبه، مات بانفجارها أحد زواره، وخرج “شلوتير” ناجيا، ومضت فترة طويلة، ترکت له لينسى، وفي 3 يونيو 1957، ركب سيارته “المرسيديس”، وعندما غير محرك السرعة انفجرت السيارة في الجو، وعند حضور رجال الإطفاء، أخرجوا جثة أمه ممزقة إربا إربا، وبجانبها كانت جثة “شلوتير” لا زالت تنبض بالحياة، وبعد أيام قليلة في المستشفى، خرج وكأن شيئا لم يكن.

يتبع

‫2 تعليقات

  1. Il n’y a pas des mafias en Afrique du Nord il y’a une seule mafia celle des Harkis ramassés qui colonisent l’algerie et la trahison est leurs raisons d’êtres

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى