تحقيقات أسبوعية

للنقاش | قراءة في مؤلف “آداب وأخلاقيات مهنة القضاء والمحاماة”

خلال الأسبوع الماضي، عقدت رئاسة النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ندوة بالمعهد العالي للقضاء، بمشاركة نخبة من الأساتذة القضاة، تدارسوا خلالها الموضوعات التي تناولتها مدونة الأخلاقيات القضائية.

وقد تزامنت هذه الندوة العلمية مع صدور كتاب بعنوان: “آداب وأخلاقيات مهنة القضاء ومهنة المحاماة”، لكاتب هذا البحث، الأستاذ عبد الرحيم بن سلامة، ونظرا لأهمية الموضوعات التي تناولها هذا المؤلف، نقدم للقارئ ملخصا عنها:

 

بقلم: د. عبد الرحيم بن سلامة

أستاذ باحث

 

الأخلاقيات القضائية 

    جاء في مجلة “الأحكام الشرعية”، الصفحة 602: ((أدب القاضي هو التزام الأمور التي ندبها الشرع لبسط العدل ودفع الظلم، وترك الميل، والمحافظة على الحدود الشرعية، والجري على ما جاء في السنة النبوية)).

وجاء في المادة 44 من القانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة والصادر في 24 مارس 2016: ((يلتزم القاضي باحترام المبادئ والقواعد الواردة في مدونة الأخلاقيات القضائية، كما يحرص على احترام تقاليد القضاء وأعرافه والمحافظة عليها)).

 

أهمية القضاء وقدسيته

    القضاء أمر لازم لقيام الأمم وسعادتها وحياتها، لنصرة المظلوم وردع الظالم، والحد من الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها والضرب على أيدي العابثين والمفسدين، كي يسود الأمن والنظام في المجتمع، فيأمن كل فرد فيه على نفسه وماله وعرضه، وحريته، ليعم الرخاء والنماء، فتنهض الأمم ويتحقق العمران، ويتفرغ الناس لما يصلحهم دينا ودنيا، لأن الظلم عزيزة في النفوس.

فقديما، قيل “لو أنصف الناس بعضهم بعضا لاستراح قضاتهم”، والقضاء مهنة الأنبياء والرسل، وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أول قاضي في الإسلام.

ومن المعلوم أن الإنسان هو محور القضاء ومجاله الحي الفاعل، ومناط أحكامه، وأهلية القاضي هي التي تتطلب في جميع العقود والتصرفات القانونية، بمعنى أن يكون القاضي أهلا لمزاولة مهامه القضائية.

فالقضاء كما سبق القول، منصب مقدس وحساس، ومهامه حيوية ودقيقة لتعلقها بحقوق الناس وحريتهم، إضافة إلى حقوق الله تعالى وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

القضاء والحضارة

    إن رقي الأمة يقاس برقي قضائها، وكلما تطورت الأمة في مدارج الرقي والحضارة، أصبحت فكرة الحق والعدل لديها سائدة وكلمة القانون هي العليا.

والمجتمع الذي لا يكون الفرد فيه مطمئنا على مقومات حياته في ظل القانون، لا يمكن أن يكون متحضرا مهما بلغت لديه وسائل الكسب المادي، فالحضارة وليدة الاطمئنان والاستقرار القائمين على العدل، ولا عدل بدون قضاء.

وفي عصرنا هذا، نجد سيادة القضاء وقدسيته تسير جنبا إلى جنب مع تقدم الحضارة وازدهارها، فحينما تزدهر الحضارة وتتقدم، يقدس القضاء ويحترم، والأمثلة على ذلك كثيرة في الدول المتقدمة حضاريا.

والتاريخ العربي الإسلامي حافل بعديد من الشواهد على العدالة التي كانت تبسط سلطانها على الكبير والصغير، وينفذ حكمها على الخلفاء والأمراء والولاة، الذين تأصلت فكرة العدل في نفوسهم، وكانت العدالة تأتي على لسان قضاة كان لهم المركز الأسمى في نظام الخلافة الإسلامية.

فمن القاضي وهو الإنسان الحي، تشع عدالة القانون الذي هو نصوص صماء وسطور سوداء، وبحكم القاضي تلتمس حقوق الأفراد وعدالة المجتمع، وبقول القاضي يتحصن الضعيف والمظلوم من تعسف القوي الظالم..

إن العدالة التي ينشدها الأفراد من القانون في منازعاتهم، إنما تأتي عن طريق القاضي وحده من عمله وحده وضميره وحده.

فالمواطن حينما يدخل قاعة المحكمة ويحيي القلب النابض للعدالة، الذي هو القاضي، فهو إنما يحيي الإرادة التي ينطق بهذا هذا القاضي وهي إرادة الحق والعدل.

إن احترام القضاء وإحاطته بهذه الهالة من الإكبار والإجلال والتقدير، ليس مجرد رغبة عارضة، وإنما هو ضرورة اجتماعية كبرى، لأن الفرد إذا لم يكن مطمئنا على ماله ونفسه وحريته، فإن الحياة تصبح في منتهى الشقاء، وبالتالي، فإن المجتمع الذي هو مجموعة من الأفراد تسوده الفوضى والظلم، وفي ذلك ضرر عظيم، والإنسان بطبيعته مركب من مجموعة من الصفات الغريزية السيئة، كالحقد والحسد والطمع والأنانية وحب السيطرة والتسلط وما شابه ذلك.. فإذا لم تكن هناك سلطة تحد من هذه الصفات وتنظم علاقات الأفراد ببعضهم البعض، فإن المجتمع يصبح فاسدا.

وكم هو جميل إيصال الحق إلى صاحبه وإنقاذ المظلوم وإغاثة الملهوف.

إن الثقة في القضاء ودعم مصداقيته لن يتحقق إلا عن طريق ترسيخ القيم والأخلاقيات القضائية الرفيعة، وسيادة السلوك القويم لدى مكونات الجسم القضائي برمته، مع ضرورة الالتزام والتقيد بها من طرف القضاة في حياتهم المهنية وسلوكهم الشخصي بما يحافظ على هيبة القاضي وحرمة مهنة القضاء وقدسيتها.

  

مدونة الأخلاقيات القضائية

    إن مبادئ الأخلاقيات القضائية وآليات تطبيقها ومواكبتها، ستمكن القضاة على اختلاف مراكزهم ومسؤولياتهم ومهامهم، من معرفة أكبر واجباتهم الملتزمين بها مهنيا وأخلاقيا، فبفضل هذه المدونة الأخلاقية، سيفتح الباب للقضاة والمتقاضين للاطلاع والتعرف على معايير واضحة ومعروفة لأخلاقيات مهنة القضاء والمحاماة من أجل بناء الثقة وتدعيم صورة الجهاز القضائي وتحسين فعاليته ونجاعته.

إن استحضار الصعوبات والإكراهات التي يواجهها القضاة اليوم عبر دول العالم، هو من أجل الفصل في القضايا وفق ميزان العدل والقانون، في ظل تعقد عملية إنتاج العدالة الحقة، وتعدد المتدخلين والشركاء، وأثار تداعيات العولمة والتطور المتسارع لوسائل الاتصال والتكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي، وكذا من أجل وضع إطار قانوني للجنة الأخلاقيات القضائية وتحديد اختصاصاتها وطريقة اشتغالها.

 

القاضي والأخلاقيات القضائية

    نصت مدونة الأخلاقيات القضائية على المبادئ التي على القاضي أن يتحلى بها، أهمها باختصار:

1- استقلال القاضي في ممارسته لمهامه القضائية : على القاضي أن يمارس مهمته القضائية دون الخضوع لأي ضغط أو تلقي أي أمر أو تعليمات من أي جهة كانت، ما عدا ضميره المهني والتزامه بالتطبيق العادل للقانون ولقواعد العدالة والإنصاف المتعارف عليها دوليا.

2- تجرد القاضي وحياده : يقصد بحياد وتجرد القاضي، أداءه لمهامه القضائية طبقا للوقائع المعروضة عليه وفقا للقانون، دون أي تحيز أو محاباة.

3- المساواة : يقصد بالمساواة، الامتناع عن كل أشكال التمييز كيفما كانت، فمبدأ المساواة يعتبر رمز العدالة، فيتعامل القاضي مع المتقاضين على قدم المساواة دون تمييز بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو المهني.

4- النزاهة : يقصد بالنزاهة، الابتعاد عن أي سلوك مشين، ورفض كل إغراء مادي أو معنوي يؤثر على عمل القاضي ويسيء لسمعته وللسلطة القضائية.

5- الكفاءة والاجتهاد : يقصد بالكفاءة والاجتهاد، مواكبة المستجدات القانونية والاجتهاد القضائي والحرص على ضمان جودة الأحكام والقرارات القضائية.

إن الكفاءة والاجتهاد أمران ضروريان للحفاظ على ثقة المجتمع في العدالة من أجل ضمان تجويد الخدمة القضائية.

6- الجرأة والشجاعة الأدبية : يقصد بالشجاعة الأدبية، القدرة على التعبير عن القناعات القانونية والدفاع عنها بشجاعة ويقصد بالجرأة القدرة على الحسم وعدم التردد في اتخاذ القرار الملائم المستمد من الحق والقانون.

7- التحفظ : يقصد بالتحفظ، حرص القاضي في سلوكه وتعبيره على الاتزان والرصانة وعدم إبداء آراء ومواقف من شأنها المساس بثقة المتقاضين في استقلال وحياد القاضي، وذلك مهما كانت وسائل الاتصال ومواقع التواصل المستخدمة دون الإخلال بالحق الدستوري للقضاة في التعبير عن رأيهم وفق التعليمات القانونية.

8- اللباقة وحسن المظاهر : يقصد باللباقة، التصرف السليم الذي يجسد القاضي من خلاله التزامه بالقيم الإنسانية وآداب التعامل والتحلي بالخصال الحميدة، وإظهار الاحترام المتبادل بينه وبين المسؤولين القضائيين، وزملائه القضاة، ومساعدي القضاء والمتقاضين، ويقصد بحسن المظهر، الحرص على الظهور الدائم بمظهر لائق.

 

مهنة المحاماة والأخلاقيات القضائية

    إن رسالة المحامي في كثير من الأحوال، مشابهة لرسالة القاضي في ترجيح كفة العدالة، وفي الحفاظ على أفقية ذلك الخط الذي يشده القاضي بيده، ويحميه محامي أمين في جرأة وصراحة وإخلاص.

والمحاماة هي المهنة التي عرفتها مختلف الحضارات البشرية وعلى مستويات عديدة عبر تاريخها، وقد اعترفت جميع هذه الحضارات بالدور الحيوي والهام الذي تلعبه في تحقيق التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي، كدعامة أساسية لمجتمع يطمح للتنمية والتقدم والازدهار.

والمحاماة في حقيقتها، وبكم طبيعة العمل الذي يبلورها، ليست في الواقع مهنة فحسب، لكنها قبل هذا وذاك، هي رسالة لخدمة العدالة وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ومن تم، فهي تعتبر ركنا من أركان العدالة ولازم من لزومياتها والذي بغيره لا تستطيع العدالة أن تقوم بالدور الواجب الذي عليها أن تقوم به في تحقيق العدالة ذاتها.

والعمل واحد والمسؤولية واحدة والأمانة الملقاة على عاتق كل من الدفاع والقضاء واحدة ومشتركة.. فلا محاماة بدون قضاء، ولا قضاء بدون دفاع، إلا أن مهمة الدفاع قد تكون أشف، ولذلك، فالاحترام المتبادل بين القضاء والدفاع، والتضامن بينهما ما أمكن في توخي العدل وإقراره، هو توأم العلاقة بينهما ومصدر أدائهما للرسالة والأمانة التي على عاتقهما في مجال العدل وتحقيق العدالة.

فالمحاماة والقضاء توأمان لا ينفصلان ولن ينفصلا، بل إن المحامي والقاضي كما ذهب إلى ذلك البعض، بينهما مصاهرة فكرية وقانونية، فكلاهما نهل من نفس المنبع القانوني وتزود بنفس الثقافة، وكلاهما تعلم القانون ويدور في فلكه بغية إظهار الحقيقة.

وعلى المحامي أن يتمس بالاحترام الواجب للقضاء والدفاع عن تعزيزه وكرامته، والامتناع عن ممارسة أي تأثير عليه، نفاذا لمبدأ استقلال القضاء وضمانا للحقوق المادية والمعنوية للقضاة.

فالمحاماة مهنة حرة ومستقلة، ولا أدل على ذلك من أن معظم دساتير العالم قد تضمنت نصوصا صريحة عن السلطة القضائية، إلا أنها لم تسلك نفس المسار بالنسبة للمحاماة، لأن هذه الأخيرة لا تشكل جهازا للسلطة، ولأن الذي يكفل استقلالها، هو الأعراف والتقاليد والعمل الذي يؤديه المحامون.

واستقلال المحاماة هو شرط عام وحيوي لعمل المحامين، ولابد منه لممارسة المهنة، ولأداء الرسالة، فلا مشروعية لأي تدخل من أي سلطة أو جهة كيفما كان نوعها أو شكلها في صميم عمل النقابات وعمل المحامي، حتى يتمكن من أدائه لرسالته في إطار الضمان الفعلي للحقوق الفردية والجماعية والحريات الأساسية للإنسان.

ومن مظاهر استقلال المحاماة، حصانتها، والحصانة أن يتوفر الدفاع، وهو يمارس مهنته، على كل الضمانات التشريعية والعملية من أجل أن يكون في مأمن تام وهو يزاول عمله في ظل القانون، على ألا تنشئ هذه الحصانة امتيازا للمحامي دون غيره من الناس، أو رخصة للنيل من شأن القضاء، بل هي كما قال أحد النقباء المغاربة “ليس المقصود من الحصانة أن تكون امتيازا للمحامين يسمح لهم بالخروج عن القانون، أو رخصة للطعن في القضاء، بل المقصود أن يكون المحامي في جلسة الأحكام مطمئنا قويا وهو يؤدي واجبه”.

وعلى المحامي أن يكون نزيها، فنزاهة المحامي تفرض عليه أن يعطي الدليل في كل آن وحين، بحرصه الشديد على كرامته، سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى الحياة الخاصة به.

تلك هي موضوعات كتاب: “آداب وأخلاقيات مهنة القضاء والمحاماة” الذي يوجد بالمكتبات في المدن المغربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى