الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المهدي بنبركة والمخابرات الفرنسية

المهدي بنبركة للحقيقة والتاريخ "الحلقة 06"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    هناك جانب هام من الواقع الأوروبي، مجهول عندنا نحن العرب، مثقفين وجهلاء، من ميزاته أنه يوحد المثقفين والجهلاء، ويقف بهم على صعيد واحد، هو صعيد الجهل. هذا الجانب، هو الجهة الأخرى للقطعة المذهبة البراقة، ولقد عاقنا وضعنا الحضاري، وثقافتنا المحصورة في محيطنا، ورفضنا لقبول الأمر الواقع، وتقوقع صحافتنا، وخضوعنا الطويل للاستعمار الأجنبي، وعوامل أخرى متعددة، عن الاهتمام بالتعمق في واقع الكيان الغربي الأوروبي، وسبر أغواره، وانطلت علينا وسائل التمويه والتزيين، وأعشت عيوننا أضواء الكمال التكنولوجي وأصباغ البريق المشعاع، فانشغلنا عن الانتباه إلى حقيقة الوجه الآخر من القطعة المذهبة البراقة، واقتعدنا بساط المهانة والقناعة والاستسلام، وسال لعابنا للملذات الموعودة، فأصبحنا عاجزين حتى عن دفع التهم الملصقة بنا، وانهالت علينا صفات الهمجية والسفك والقتل والافتضاض، وأصبحنا نشكل الجانب القبيح في هذا العالم الذي لا نستحق إلا جانبه المظلم، بينما الجانب المستتر لدى الأوروبيين، أقبح وأوسخ من أن يبرر أحقيتهم في الاحترام الذي نغدقه عليهم، حيث إنهم لا يؤهلوننا لأي درجة من الاحترام مهما دنت.

ولقد كانت قضية المهدي بنبركة، على مدى حوالي عشرين عاما، محكا بلور روید رويدا، ذلك الجانب المتعفن في أوروبا عموما وفرنسا خصوصا، وقد تكالبت في حق المهدي بنبركة، كل قوات الشر، سجلت تفوقا كبيرا في المرحلة الأولى لتمويه الأمر الواقع، ولكن الأيام التي تبلسم الجروح عادة، زادت عبر السنين، تعرية لأدوار خطيرة ورهيبة، لعبها الإرهاب الدولي، واستعمل فيها أجهزة لا زالت قائمة إلى الآن، حقيقة قائمة مثبتة لعفونة الوجه الآخر للحضارة والتقدم الغربي.

ومهما طال بنا المطاف في استكناه حقيقة الآلة الجهنمية التي كان المهدي بنبركة أحد ضحاياها، فإن المجلدات الضخمة لن تستوعب إلا جزء يسيرا من هذا الكيان الرهيب، علما أن قطب الرحى فيما يتعلق بالمهدي بنبركة، كان هو جهاز التصفية الفرنسي، وهو بالمقارنة مع الجهاز الإسرائيلي أو الأمريكي، ليس إلا قطرة من بحر.

لیست خطورة الحروب، كبيرة كانت أو صغيرة، متجلية فقط فيما تخلفه من دمار وخراب، من ضحايا وأيتام، ولا فيما تفرضه من تغييرات في المجتمعين المتحاربين، وإنما أخطر ما في مخلفات الحروب، هم رجالها، وإضافة إلى ما يتعلمه الرجال في الحروب من سفك وقتل، ونهب وتخريب، ومن سقوط في المعنويات وترد في الأخلاق، فإنهم يصبحون عالة على مجتمعهم، سواء كان غالبا أو مغلوبا.. ولقد ورثت فرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفي أعقاب حرب الجزائر، جيلا من القتلة والسفاكين، سارعت الأدمغة المفكرة الفرنسية إلى سكب طاقاتها في بوتقة تخدم مصلحة فرنسا، دون مراعاة لملف كل واحد ولا لسوابقه.

وفي 28 دجنبر 1945، تأسست أول منظمة للاستعلامات الخارجية الفرنسية، باسم “مصلحة الجاسوسية ومقاومة الجاسوسية”، التي أصبحت معروفة فيما بعد، بالتعبير الموجز “سديك”، اتخذ مقره في شارع “مورتيي” غير بعيد من مسبح عمومي يسمى مسبح “توريل”، ومن هناك أطلق على مصلحة “سديك” تعبير آخر هو المسبح (لابيسين)، إشارة إلى ما يقع في المركز من تعذيب وإغراق للمستجوبين في الحمامات النتنة، وقد غطت هذه المصلحة على الجهاز الذي كان قائما قبلها والذي كان مكلفا بحماية التراب الوطني الفرنسي، المشهور باسم “د. س. ط” وهي مصلحة للاستعلامات عريقة في القدم، إذ تأسست سنة 1899 وألحقت بوزارة الداخلية الفرنسية، للتجسس على السكان الفرنسيين، حماية لترابهم الوطني من أخطار المخربين الداخليين والخارجيين، وبعد تأسيس “سديك”، أصبح يتعاون مع مصلحة حماية التراب الوطني وينسق معه انطلاقا من خضوع التشكيل الأول لنفوذ الوزير الأول، وخضوع التشكيل الثاني لوزير الداخلية، ونفوذ “السديك” أقوى إذن، وأكبر من التشكيل المحلي، ولكن رئيس الحكومة يستعمل الرجال العاملين في المصلحتين حسب هواه.

وقد اختير أول مدير لجهاز “سديك”، هنري ريبيير، قبل أن تطلق له اليد في الاختيار، اختير أولا کرجل ثقة لمحرر فرنسا آنذاك، الجنرال دوكول، وكخريج في فلسفة الجاسوسية، حافظ لأصول الكتاب الصيني عن الجاسوسية المؤلف قبل المسيح بخمسة قرون، تحت عنوان “جذور الاستراتيجية” للفيلسوف الصيني سون تزو، وكانت النية معقودة، منذ اليوم الأول، على أن يكون جهاز “سديك” عبارة عن دولة داخل الدولة.

واختار ریبيير، في إطار سياسة اليد المطلقة، عشرة آلاف من أقبح وأخبث عناصر الجيش الفرنسي، وأشحنهم ملفات، وأشنعهم سوابق، وجعلهم ذراع المخابرات الضاربة، تحسبا لما كانت تنتظره فرنسا من مخلفات الحرب، إثر سنوات طويلة من الاحتلال النازي لفرنسا، وخضوع طبقة من الفرنسيين للتعامل مع المحتل، واختلاط الأوراق، وانعدام الرؤيا الواضحة لما هو مع فرنسا أو ضدها.

وخصصت ميزانية ضخمة للجهاز السري، الذي لا يعرف أي أحد أي شيء عنه ولا عن تركيبته، وسال لعاب نزر غير يسير من المثقفين والسياسيين والضباط العسكريين، للاستعانة بالتعاون مع هذا الجهاز، لضمان مستقبل مأمون المصادر، واستلهام القوة من الانتماء إلى المنظمة الرهيبة التي تعتبر نفسها فوق القانون. وبعد سنوات قليلة من التنظيم السريع، وبعد تطور سياسة الدفاع الغربي في إطار الحلف الأطلسي، وضع الحجر الأساسي للتعاون بين جهاز “سديك” وبين منظمة المخابرات الأمريكية المشهورة “سي. آي. إي”، وعين الخبير فيليب فوزجولي، مديرا لمكتب المخابرات الفرنسية في واشنطن، مكلفا بالتنسيق والاتصال مع جهاز المخابرات المركزية الأمريكية، ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم، لا زال التعاون بين المنظمتين قائما راسخا مستمرا.. واتضح لإدارة منظمة “سديك” أن توزع المهام حتى لا تختلط الأوراق، فمن جهة، شكلت عصابات متخصصة في الأعمال القبيحة: الخطف والقتل والتخريب والإنزال الجوي في المناطق المرغوبة، وأطلق على هذه العصابة اسم “أکسیون”، أي “التحرك”، وكان تأسيس هذا القسم بداية لتأسيس أقسام أخرى حسب الاحتياجات الضرورية، فاجتمع أنصار الجنرال دوكول في مؤسسة جانبية تسمى “لوساك” (مصلحة العمل الوطني)، ووزعت عشرات الآلاف من الأوراق على أعضاء هذه المؤسسة، تحمل الخطوط الثلاثة لألوان العلم الفرنسي، الأزرق والأبيض والأحمر، وهي بطاقة أسيغ لحاملها من النفوذ، ما يمكن اختصاره في حالات تكررت مرارا، تقضي بأن لا تعتقل الشرطة قاتلا إذا أبرز البطاقة المثلثة الألوان لرجال الشرطة. وقد تفرعت عن مجموعة “لوساك” عصابات في عدة مجالات إرهابية وتهريبية، كان كل شيء مسموحا لها به، وحيث إن تهريب المخدرات يعتبر من أنشط الأعمال التي تغطي الأنشطة السياسية، فقد كون رجال “لوساك” عصابات لتهريب المخدرات، رغبة في دخول التشكيلات السرية السياسية، ومع اندلاع الثورة الجزائرية في الخمسينات، وانطلاق حركة التحرير المغربية قبلها، وتبني نقابة العمال التونسيين للنشاط السياسي بزعامة فرحات حشاد، أطلقت منظمة “سديك” اليد لتنظيماتها، كي تواجه هذه الحركات في المنطقة، وبدأ التحرك عسكريا وإرهابيا بعد مؤتمر “الصومام” الذي انعقد بالجزائر في غشت 1956، وضم أقطاب حركة التحرير الجزائرية، مما دعا قادة التنظيم الفرنسي للمخابرات، إلى إجراء الاستعدادات على واجهتين: أولا، الواجهة الداخلية في المغرب العربي، وثانيا، الواجهة الخارجية، بفتح فروع للتنظيم في الدول العربية التي كانت تسند حركة تحرير المغرب العربي، ولم يكن العدوان الثلاثي على مصر إلا فرصة لإرساء قواعد أجهزة “السدیك” لمتابعة تحركات مصر داخليا وخارجيا.

وفي الداخل، تم الاتفاق على تأسيس تشكيل في باريس، تابع لجهاز حماية التراب الوطني، مكلف بالتجسس على السفارات العربية، وكانت أول عملية تجسس کبری، هي اقتحام مكتب الملحق العسكري المصري بباريس، الكولونيل عكاشة، وقد حصل ضباط المخابرات الفرنسيون على وثائق جعلتهم يولون عناية خاصة بالمكاتب العربية في ألمانيا وسويسرا، وعلى ضوء ما تجمع لدى المكاتب المخصصة من معلومات، تقرر اجتماع للقمة ضم الجوانب المقاتلة والسياسية في منظمة “سديك” انعقد في قرية “الكاف” بتونس سنة 1954، حضره أقطاب الاستعمار الفرنسي في المغرب والجزائر وتونس، وقد اقترح المعمرون الفرنسيون تعزيز منظمتهم التي كانت موجودة بالمغرب تحت اسم  “بريزانس فرانسيز” (الوجود الفرنسي)، إلا أن الاتفاق تم على اللجوء إلى الوسائل القوية والأكثر فعالية، فتم تأسيس ما سمي “اليد الحمراء” كجهاز للاغتيالات، لا علاقة له مطلقا بما يدور على الصعيد السياسي أو الحكومي، وقد أسندت قیادته إلى ضابط سفاك، يقتل ويصدر أوامره بالقتل قبل أن يفكر، وهو الكولونيل ميرسيي، الذي أسس بدوره جهازا ثانويا بعيدا عن أنظار أفراد عصابة “اليد الحمراء”، واسمه “جهاز مقاومة الإرهابيين بشمال إفريقيا”، باختصار “کاطينا”.

وكان الكولونيل ميرسيي قد اتفق على اختيار اسم منظمة “اليد الحمراء” بدل “الوجود الفرنسي” المقترح من طرف المعمرين الفرنسيين، لأن “اليد الحمراء” كانت منظمة لها سوابق اعتبرها ميرسيي مشرفة، مثل اغتيال الزعيم فرحات حشاد في دجنبر 1952، استجابة سريعة لنداء وجهه محرر جريدة “باريس” في عدد 28 نونبر سنة 1952، ناشد فيه “ذوي الضمائر الحية، لاغتيال الزعيمين بورقيبة وفرحات حشاد، غسلا للشرف الفرنسي، واستجابة لحكم الله”، وقد وضع المحرر اسمه تحت النداء: “کامیل ايمار”، وفي رابع دجنبر، أي بعد أقل من أسبوع، تقدمت سيارة من نوع “سيتروين” متجهة نحو مدينة تونس، وسبقت سيارة “السيمكا” التي كان يركبها فرحات حشاد ورشتها بعشرات الطلقات من مدفع رشاش، ولكن فرحات حشاد لم يصب بأذى كبير، وإنما نزل من سيارته المعطوبة، وحاول إيقاف السيارات المارة، وبغتة، وقف له سائق شاحنة، ووراءه سيارة من نوع “بيجو”، ولاحظ فرحات حشاد أن السيارة هي، ولا شك، أسرع من الشاحنة، فشكر سائق الشاحنة بأدب ولطف، وحتى لا يجرحه في عواطفه بعد توقفه، قال له: “اسمح لي، إنهم أصدقائي في هذه السيارة”، وأصدقاء فرحات حشاد في السيارة هم الذين جاؤوا لإتمام المهمة، وغير بعيد، وجد جثمان فرحات حشاد، تحت إشعاعات الفجر الأولى، مقسوم الجسم بطلقات الرشاش.

عمل قوي.. ما كان للكولونيل ميرسيي إلا أن ينحني إكبارا له، ويقبل تسمية منظمته باسم “اليد الحمراء”، ذلك أن منظمة “اليد الحمراء”، بقيادة الكولونيل ميرسيي كانت مرتبطة بالدوائر العليا، ومستمدة قوة أخبارها ومعلوماتها من المركز الرئيسي للمنظمة الأم “سديك”، فكان إذن، مدعوا للقيام بأعمال كبرى على مستوى كبير من الأهمية.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى