الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المهدي بنبركة للحقيقة والتاريخ

الزعيم الاتحادي وصراع المخابرات العالمية "الحلقة الأولى"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.
والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.
بقلم: مصطفى العلوي

    هناك أحداث تصنع الرجال، وهناك رجال يصنعون الأحداث، وعندما تجتمع الأحداث مع الرجال لصنع حدث ما، فإن ذلك يكون من قبيل الاستثناءات التي ليست قضية السياسي المغربي المهدي بنبركة، إلا واحدة منها، لذلك بقي اسم هذا الرجل مقترنا بالأحاديث السياسية والأبحاث والدراسات، لا في العالم العربي وحده، وإنما في كل وسط يهتم بقضايا العالم الثالث.

لكن قضية المهدي بنبركة، وهي تصارع منذ سنة 1965، تيارات الغرق في غياهب التاريخ، تكاد أن تأخذ معها الحقيقة، ليبقى ذكرها على الأفواه مشوبا بالريبة والشك، متيحا للتوسع في التأويلات. ولقد أتاحت لي فرص عديدة ومتجددة، وبإصرار لا منتهٍ، سماع وجهات نظر تكاد تكون جازمة، بل وأطروحات على مختلف الدرجات، تختلف شكلا وتتفق جوهرا، منطلقة كلها من معين القيل والقال الذي لا ينضب، ومتوقفة كلها عند الشك الذي يرجح كفة اليقين.

وعلى مدى سنوات طوال، وعبر التنقلات التي سنحت لي بها ظروف مهنتي الصحفية، والمؤتمرات التي تتبعتها أو أسهمت فيها، وحول موائد السمر والسهر، حيث يحلو لنا – نحن العرب – خصوصا، أن نلقي على جنبات الموائد، ما يتعذر علينا الإفصاح عنه أمام منصات الخطابة، وموائد الاجتماعات، وكلما درج الحديث عن المغرب أو المغاربة، إلا وأقحم الحديث عن المهدي بنبركة، مثلما يقحم السكين في الجرح الغائر، ذلك الجرح الذي لم يندمل، رغم السنين، ولكنني أجد الأعذار لكل مهتم عربي، من الخليج إلى المحيط، فشكوكهم منتهی الصواب، لأنهم يقولون بألسنتهم ما أوحي إلى قلوبهم، عبر سنوات طويلة من الصمت، لم يصدر خلالها كتاب واحد باللغة العربية، يقدم للقارئة العربية والقارئ العربي، عناصر، ولو أولية، للتمحيص والتفكير، إلا ما يلقى في التجمعات من خطب وشعارات، وما تتيحه الغيبة الإعلامية من عناصر مجانية يلقى بها في سوق المزايدات.

لقد فصلت في موضوع التأرجح بين الفكر والعاطفة، فتركت جانبا عطفا كنت أتقاسمه مع جيل الاستقلال، في تقدير الرجل الذي كان كل شاب مغربي يرى فيه النموذج المتنور للسياسي النشيط المتحرك، الصريح المتمرس، وتركت جانبا أفضال المهدي بنبركة علي شخصيا، إذ لا زلت مدينا له بأنه هو الذي زج بي في مهنة الصحافة، وكان يصحح مقالاتي الأولى، ويغضب ويزمجر كلما فوجئ في مجلتي “المشاهد” بموضوع لم يطلع عليه، وفضلت اقتصار هذه الحقائق على الجانب الفكري في تقديم ملف محصور في المقاييس الموضوعية للصحافة والكتابة، منحصر بين هالتي الواقعية والمصداقية، لأني متيقن، من جهة، بأن العواطف التي كانت أساس خراب واقعنا العربي، لن تصل بنا يوما ما إلى هدف ما، ومن جهة أخرى، مقيد بحساسية هذا الموضوع، لأنها لا تسمح لأي كان بترجیح كفة دون الأخرى، أو محاولة التأثير في مسار يمسك التاريخ بأطرافه كلها.

كان مفروضا أن أحقق مشروع نشر هذه السلسلة من الحقائق، غداة صدور الأحكام النهائية عن المحكمة الفرنسية، في الخامس من جوان 1967، يوم الهزيمة العربية الكبرى، ولو كنت فعلت، لكنت اليوم بدوري منهزما – كباقي المؤلفين الفرنسيين الذين كتبوا عشرات الكتب عن القضية – أمام العناصر التي أصبحت على مدى ثمان عشرة سنة، واضحة المعالم جلية الخلفيات.

وأشكر للظروف ذلك التريث الذي شد بمعصمي وأنا أنزل أدراج محكمة “لاسين” الباريسية، محملا بوثائق المحاكمتين، مطلعا على جزئيات لم يطلع عليها كل زملائي الصحفيين، بعد أن أتيحت لي فرصة الاضطلاع بمهمة الترجمان خلال جلسات المحاكمة الثانية. حقيقة أخرى كانت مصيرية في تريثي، وفي تأخير هذه الأوراق، وهي أنه، كما يقول العرب، مرغم أخاك لا بطل، فمنذ سنة صدور الأحكام، إلى سنة 1972، كانت يد المسؤول الأساسي في قضية بنبركة، مطلوقة في رقابنا.. ومن يستطيع أن يستجمع قوته أمام السبع ويقول له: “فمك نتن یا سيدي السبع”؟ لكن مشيئة المنصف الأكبر، جل وعلا، تنفذ عدالة السماء، وتترك الكلمة الأخيرة للحق، والحكم للتاريخ.

تبتدئ الحكاية في تمام الساعة الثانية عشر وخمسة عشر دقيقة من زوال يوم 29 أكتوبر 1965، تم اختطاف السياسي المغربي الكبير، المهدي بنبركة، زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكان وقتها قبل انقسامه “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، والأمين العام المؤقت لمؤتمر القارات الثلاث، الذي كان مقررا أن ينعقد في بداية سنة 1966، بهافانا عاصمة کوبا.

ونظرا للظروف التي كان يعيشها المغرب، من توتر بين قوات المعارضة، وحكومة الرباط، فإن ضخامة العملية التي تمت في واحد من أكبر شوارع مدينة باريس، حولت أصابع الاتهام كلها في اتجاه المغرب، بينما تولت أجهزة الإعلام الفرنسية تضخيم الحدث وتحجيمه على مقاس الكرامة الفرنسية المهانة على أيدي المغاربة.

وكان وزير الداخلية الفرنسي، أول من انقاد وراء أذيال الشرف الفرنسي، فأعلن رسميا بعد مرور خمسة عشر يوما على حادث الاختطاف، بأن الشرطة الفرنسية لم تشارك من قريب ولا من بعيد في عملية الاختطاف، رغم أن المهدي بنبركة لم يركب السيارة التي اختطفته إلا بعد أن تحقق من هوية ضابطي الشرطة الفرنسيين، ومن اللوحة الرسمية التي تؤكد ملكية الشرطة الفرنسية للسيارة التي ركبها عن طيب خاطر، ولكن تسلسل الأحداث أمعن في تكريس عملية الهروب إلى الأمام، إخفاء لخلفيات وجزئيات لم يستطع النظام الديكولي أمامها صمودا، فانهار نظام بكامله يقوده محرر فرنسا، الجنرال دوكول، كما ينهار القصر المشيد من ورق اللعب.

لقد أثبتت الأيام فيما بعد، أن اتصالات سرية كانت تجري في فرانكفورت، بين القصر الملكي وبين المهدي بنبركة، بعيدا عن بؤرة المخابرات الفرنسية في باريس، ولم يكن أوفقير، وزیر داخلية المغرب آنذاك، يقبل أن يتقاسم الحكم مع الحزب المعارض الذي كان المهدي بنبركة زعيمه. ودخل أوفقير في سباق مع الزمن، للحيلولة دون رجوع الزعيم المغربي، وسیری القارئ، كيف أن سفير المغرب بباريس، وهو أحد المقربين للملك وصهره، كان يتوجه خلسة إلى فرانكفورت للاجتماع بالمهدي بنبركة، ولكن المخابرات الفرنسية كانت تتبع خطواته، وهكذا، وعندما اجتمع السفير مع بنبركة في فرانكفورت، يوم الأحد 25 أبريل 1965، طار ضابط المخابرات المكلف بالاتصال مع أوفقير، أنطوان لوبيز، واجتمع بأوفقير، في بيته بالرباط، يوم ثامن مايو، أسبوعين من بعد، لإخبار أوفقير بالاتصالات الجارية خلف ظهره، وهي حقائق ظهرت خمسة عشر سنة فيما بعد، نشرها الرئيس المباشر لـ”لوبيز”، رئیس الشعبة السابعة للمخابرات، “لوروا فانفيل”، في كتاب ضخم عن مختلف أنشطته صدر بعنوان “جهاز المخابرات، الشعبة السابعة”، أوضح فيه ما أخفاه عن العدالة الفرنسية طوال محاكمتين كان خلالهما معتقلا، ولكنه اعترف أخيرا في كتابه: ((زمنا طويلا قبل اختطاف المهدي بنبركة، كان بيته في باريس مراقبا بدون انقطاع، وذلك بناء على أوامر صادرة عن الجنرال دوكول نفسه، فمنذ سنة 1959، كان زعيم المعارضة المغربية، المهدي بنبركة، هدفا أساسيا لنشاطنا.. وهكذا كانت بوابة العمارة التي يسكن بها، سيدة موظفة بمصالحنا، تسهل لنا مهمة الدخول لشقته متى أردنا، وكان تلفونه دائما تحت رقابتنا.

وحيث أن بنبركة معروف بأسفاره المتعددة – يقول رئيس الشعبة السابعة للمخابرات الفرنسية – فإن رجالنا في جميع المطارات، يخبروننا بكل تحركاته، وأينما ترك حقيبته، سواء في ممرات الشحن قبل الطائرة، أو في ممرات العبور المؤقت، فإنها تفتح، وفي مطار “أورلي”، كان لنا مختبر مجهز داخل إحدى سيارات المطار، يتولى فحص الوثائق التي بحقيبة المهدي بنبركة، أما مندوبنا الممتاز “لوبيز”، الموظف بمطار “أورلي”، وهو الذي لعب دورا أساسيا في اختطاف المهدي بنبركة، فقد كان مكلفا من طرفي عدة مرات، لمرافقة المهدي بنبركة، مجاملة، إلى جانب أو مقصف، ليناقشه طويلا قصد شغله عن الاهتمام بحقائبه التي كنا نتولى فتحها في تلك الأثناء، وتصوير وثائقها.

إن خبيرنا “لوبيز” لمقتدر في هذا النوع من المهام، ولا يمكن لمن كلف بشغله، أن يتخلص من أحاديثه الطويلة، وعندما يلفك بلسانه، فإنه يصعب عليك التخلص منه)).

ليس جديدا على المخابرات الفرنسية إذن، ما كان يحاك ضد المهدي بنبركة، وكان بإمكانها حمايته من الفخ الذي نصبه له أوفقير، وكلف مجموعة من الفرنسيين بتنفيذ العملية.

ولقد ردد الفرنسيون كثيرا، أنه كان من الصعب عليهم مضايقة وزير داخلية دولة صديقة، ولكن هذا الحبل من الكذب القصير، سرعان ما انقطع.

ولقد قطعه رئيس الكولونيل، “لوروا فانفيل”، ونائب المدير العام لجهاز المخابرات الفرنسية، الكولونيل “بومون”، عندما صرح أمام المحاكمة الأولى بما لا يدع مجالا للشك، أن أوفقير كان يعمل لحسابه الخاص، رغبة في إفساد مخطط الاتصال بين المهدي بنبركة والقصر. فقد قال الكولونيل “بومون”: ((كنا نتعقب المهدي بنبركة، وكنا نتعقب متعقبيه، وعلى خطين متوازيين، كنا نطلق شباكنا في اتجاهين: اتجاه أبحاث القصر الملكي، واتجاه أبحاث أوفقير)).

ويظهر أن الصيد الثمين أفلت من الشبكتين، ليسقط بين فكي تنين رهيب، تربى هو أيضا في بؤرة المخابرات الفرنسية التي تحجبها عنا، بقذارتها وعنفها، وإرهابها، هذه المظاهر الخلابة لأمجاد الحضارة الأوروبية.

وأي مثالية تضاهي “نبل” صحفي فرنسي استطاع الحصول على سبق صحفي، متمثل في اعترافات أحد الإرهابيين المشاركين في اختطاف المهدي بنبركة، أدلى بها للصحفي قبل وقوع الاختطاف بثلاثة أسابيع؟ وصفف الموضوع وزين بالصور، ولكن “مثالية” الصحفي جعلته يحتفظ بالموضوع ثلاثة أسابيع إلى أن تم تنفيذ الاختطاف.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى