تحقيقات أسبوعية

خاص | عودة روسيا لإفريقيا.. تموقع مؤقت أم اختيار استراتيجي؟

بوتين يصل إلى شمال إفريقيا.. ما محل المغرب من الإعراب؟

شكلت عودة روسيا إلى القارة الإفريقيةمنعرجا جديدا في مقاربة موسكو للتعاطي مع التحولات الجارية على المستوى الكوني، وبالرغم من محدودية الآليات الميدانية لترجمة هذه المقاربة على أرض الواقع، إلا أن طموحات روسيا بدأت تنمو وتتضح بشكل جلي انطلاقا من القمة الروسية الإفريقية المنعقدة بمدينة سوتشي في أكتوبر 2019، ومن هنا يجب التأكيد على أن هذه العودة بعد غياب دام على الأقل ثلاثين سنة، قد تؤدي إلى إعادة ترتيب مجموعة من الأوراق في القارة السمراء، فخلال مرحلة الحرب الباردة،كان الاتحاد السوفياتي سابقا حاضرا بقوة داعما للحكومات الموالية آنذاك للمعسكر الشرقي، ومعلوم أن الروس استفادوا من مرحلة نهاية الاستعمار بشكل متأخر في بعض المناطق، لاسيما تلك التي كانت خاضعة للوجود البرتغالي، مثل أنغولا والموزمبيق وغينيا بيساو والرأس الأخضر، وذلك بدعم الاتجاهات الماركسية اللينينية،أو بتدريب أطر الحزب الوطني الإفريقي”ANC” بإفريقيا الجنوبية أيام الميز العنصري،أو في رودسيا الجنوبية سابقا (زيمبابوي حاليا)، دون أن نغفل الإطاحة بالإمبراطور هيلا سيلاسي في إثيوبيا سنة 1974،مما أعطى مكانة قوية للحضور السوفياتي في بعض مناطق القارة الإفريقية،أضف إلى هذا، التعاون والشراكة مع دول كانت أنظمتها تميل إلى المعسكر الشرقي، مثل الجزائر وليبيا ومالي وكينيا، مما جعل الحضور العسكري في تلك الفترة يتميز بتواجد أكثر من 40 ألف مستشار وخبير عسكري روسي بتحالف مع القوات الكوبية التي وصل عددها إلى 36 ألف جندي في أنغولا سنة 1976، إلا أن انهيار الاتحاد السوفياتي غيب روسيا من ساحة الفعل في إفريقيا، مما أدى إلى توقيف الدعم لبرامج عديدة، مثل مشروع إنتاج الفولاذ في منطقة “أجاكوتا” بنيجيريا، بالرغم من أن هذا الإنجاز الكبير كان قد وصل آنذاك إلى مراحله النهائية، بموازاة ذلك، تم إغلاق المراكز الثقافية والبعثات القنصلية والتجارية،ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الرئيس السابق، بوريس يلتسن، مارس ضغطا على مجموعة من الدول الإفريقية قصد تأدية الديون المتراكمة عليها، مما أدى إلى تأزيم العلاقات مع بعض الحكومات الإفريقية.

 

بقلم: عبد الكريم إبنوعتيق *

ديناميكية جديدة بمقاربة مغايرة

    مؤشرات التحول الجديد في التعاطي الروسي معالقارة الإفريقيةانطلقت منذسنة 2006، بمجموعة من الزيارات قام بها بوتين، لاسيما لإفريقيا الجنوبية والمملكة المغربية، وهي بالمناسبة إشارة إلى رغبة موسكو للتواجد ضمن المحاور الكبرى للتوازنات الاستراتيجية في القارة الإفريقية وعدم الاقتصار على التحالفات التقليدية، ثم زيارة ميدفديف لكل من مصر وأنغولا وناميبيا ونجيريا سنة 2009 مرفوقا بوفد هام من رجال الأعمال الروس، تلا ذلك إلغاء الرئيس بوتين سنة 2006، ديون روسيا على الجزائر والتي كانت تقدر بـ 4.5 ملايير دولار، مقابل توقيع هذه الأخيرة على صفقات لشراء أسلحة روسية الصنع، نفس السياسة تم اتباعها مع ليبيا إبان حكم القذافي، فقد تم التوقيع على مشاريع ضخمة تهم قطاع السكك الحديدية وقطاع الغاز لصالح شركات روسية، غير أن سقوط نظام القذافي لم يضعف الحضور الروسي الذي لازال يشتغل بحس براغماتي وبذكاء التأثير في التوازنات المتحكمة في تدبير خيوط الأزمة الليبية.

يجب التذكير هنا بأن سياسة إلغاء الديون لصالح إفريقيا كانت في الأصل مبادرة من الدول المنتمية لـ”مجموعة الثمانية” (G8)، لكن الرئيس الروسي استمر في نهجها في إطار مقاربة”رابح رابح”، وكان من بين نتائج هذه السياسة، أن الصادرات الروسية نحو إفريقيا ما بين 2009 و2018 وصلت إلى 100 مليار دولار، 80%من هذه الصادرات تهم سبعة دول هي مصر والجزائر والمغرب وتونس ونيجيريا والسودان وإفريقيا الجنوبية، وعلى رأس الدول المستوردة للسلع الروسية، نجد مصر بـ 37.5 مليار دولار، متبوعة بالجزائر بـ 25.8 مليار دولار،وأغلب هذه الصادرات تهم قطاع الأسلحة ثم الحبوب فالبترول ومشتقاته، بالإضافة إلى مواد الحديد والصناعات البحرية، وفيما يخص تصدير الأسلحة،انخفض الحضور الروسي في السوق الإفريقية بالمقارنة مع فترة الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة، فالمبيعات الأمريكية من الأسلحة خلالالخمس سنوات الأخيرة تجاوزت المبيعات الروسية بـ 76%، تتقدم إفريقيا الشمالية لائحة هذه المبيعات عن طريق الجزائر ومصر،وأكثر من عشريناتفاقية جديدة وقعت منذ سنة 2017 بين مجموعة من الدول الإفريقية والوكالة الروسية المكلفة بتصدير الأسلحة، هذه الأخيرة بلغت مداخيلها 46 مليار دولار، استفادت منها الخزينة الروسية.

وتسعى موسكو كذلك للتموقع ضمن قطاع المعادن في كل من غينيا وزيمبابوي وأنغولا مع خلق منطقة صناعية في مصر قادرة على الاستجابة لمتطلبات السوق المصرية، ومع ذلك، فإن قراءة سريعة للأرقام تؤكد أن التبادل التجاري بين القارة الإفريقية وروسيا لازال متواضعا بالمقارنة مع دول أخرى مثل الصين وتركيا، لكن هذا لا يمنع،حسب المختصين،من التأكيد علىأن هناك ديناميكية جديدة توضحها المعطيات الحالية: 17.2%هي نسبة ارتفاع الصادرات الروسية ما بين سنة 2017 و2018، في المقابل، لازالت الاستثمارات الروسية متواضعة بالمقارنة مع استثمارات الصين التي بلغت 130 مليار دولار، فبكين ضاعفت صادراتها نحو إفريقيا بـ 17 مرة، والهند بـ 11، وتركيا بـ 9 مرات، في حين ظلت أرقام الشركاء التقليديين للقارة منخفضة بالمقارنة مع الوافدين الجدد.

رهان موسكو على محور القاهرة

    عرفت العلاقات المصرية الروسية تطورات مهمة بعد وصول الرئيس السيسي للحكم، فبالإضافة إلى وجود إرث تاريخي يؤطر هذه الديناميكية الجديدة، فإن موسكو تنطلق من قراءة واقعية للأوضاع المعقدة، مما يدفعها إلى البحث عن بدائل بشكل مستمر، لاسيما وأن العقوبات الاقتصادية المتخذة من طرف الاتحاد الأوروبي بعد ضم منطقة القرم، أثرت على إمكانيات روسيا الاقتصادية، هذه العوامل وأخرى أدت إلى تقارب جديد بين موسكو والقاهرة، فمصر كانت تبحث عن موطئ قدم لتستعيد مكانتها التي فقدتها جراء تداعيات أزمة الربيع العربي وما تلا ذلك من تحولات سياسية داخلية أجبرت القاهرة على الاهتمام بترتيب وضعها الداخلي، في حين أن موسكو ترغب في تقوية علاقاتها في المنطقة، لاسيما بعد تدخلها المباشر والعسكري في سوريا، إذن، هو تقارب تمليه ظروف جيوسياسية استثنائية في منطقة الشرق الأوسط، كما يجب ألا ننسى أن العلاقات المصرية الروسية قديمة وليست وليدة المرحلة الناصرية، ففي القرن الثامن عشر،اقتنى علي باي الكبير أول صفقة أسلحة روسية، بعد ذلك ثورة أكتوبر البلشفية دعمت وبشكل سري، بعض التنظيمات اليسارية المصرية ما بين سنة 1920 و1930، وعندما أعلن الراحل جمال عبد الناصر سنة 1956 عن قرار تأميم قناة السويس التي كانت فرنسا وبريطانيا تملك أغلبية أسهمها، مما أدى إلى تدخلالجيوش الفرنسية والبريطانية في 29 و30 أكتوبر من نفس السنة، في تلك اللحظة هدد الرئيس خروشتوف باستعمال الصواريخ النووية الروسية3SS-، مما دفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض وقف إطلاق النار في 6 نونبر 1956.. هذا الموقف الروسي شكل منعطفا حاسما في هندسة العلاقات المصرية الروسية، إذ ترتب عن ذلك تأسيس 37 شركة صناعية من طرف الروس، وتشييد سد “أسوان”، ثم المساهمة في مشاريع البنيات التحتية من طرق ومحطات الكهرباء، لكن وصول السادات إلى الحكم ما بين 1970 و1981، أضعف هذا التحالف، بانفتاحه على أمريكا وتدشين مرحلة التخلص التدريجي من الخبراء الروس، بعد ذلك، حاول الرئيس حسني مبارك إعادة الدفء لهذه العلاقة، بزيارات متتالية ما بين سنة 1997 و2001،كما أن الرئيس السيسي التقى في موسكو بالرئيس بوتين يوم كان وزيرا للدفاع في فبراير 2014، أي ثلاثة أشهر على الانتخابات الرئاسية في مصر، وبعد وصوله إلى الحكم،اجتمعثماني مرات بالرئيس بوتين في ظرف خمس سنوات، فهناك تطابق في وجهات النظر بين الطرفين في ملفات متعددة على رأسها الملف الليبي، فكلاهما يدعمان المارشال خليفة حفتر بالرغم من أن مصالحهما تختلف، فالقاهرة لها ألف كلم من الحدود البرية المباشرة مع طرابلس، والبرلمان المصري أذن للقوات المصرية بالتدخل خارج حدود الدولة المصريةفي يوليوز 2020، مع السماح منذ سنة 2017 لموسكو بالتواجد في القواعد الجوية المصرية في “سيدي براني” و”مرسى مطروح”، البعيدتين بـ 200 كلم عن الحدود المصرية الليبية،وعلى المستوى الاقتصادي،ظلت المبادلات التجارية بين البلدين في تطور هام، حيثانتقلت من 2.8 مليار دولار سنة 2011 إلى 8 ملايير دولار سنة 2018، وقدأصبحت روسياثالث شريك للقاهرة بعد الاتحاد الأوروبي والصين: 65% من الواردات المصرية من الحبوب مصدرها السوق الروسي، وفي مجال الطاقة، الشركة الروسية “روز نفط” (Rosneft)حصلت من الشركة الإيطالية “إيني” (ENI)على 30% من حصة مشروع تطوير حقل الغاز المصري “الزهر”، وهو بالمناسبة أكبر حقول الغاز بالبحر الأبيض المتوسط، وفي ماي 2018، مصر وقع البلدان على اتفاق بموجبه ستقوم موسكو بإنجاز منطقة صناعية شرق بورسعيد، إذ من المنتظر أن تستثمر روسيا 6.9 ملايير دولار في هذا المشروع، مما جعل مجموعة من الشركات الروسية تعتبر هذا الإنجازبمثابة بوابة لولوج الأسواق الإفريقية.

أما على المستوى العسكري، فقداقتنى الجيش المصري،ما بين سنة 2013 و2017، مجموعة من الأسلحة الروسية من بينها 46 طائرة حربية وأنظمة جديدة للدفاع الجوي من نوع “BUK-ML-2” و”S-300 V M”، ومجموعة من طائرات هيليكوبتر من نوع “KA-52″، دون أن ننسى التمارين المشتركة بين البحرية الروسية والمصرية في البحر الأسود في أواخر سنة 2020.

ويجب التذكير هنا بالحضور القوي للفاعل الروسي في المجال النووي المدني “روزا طوم” (Rosatom)، ففي سنة 2017، وقع هذا الأخير مع الحكومة المصرية على اتفاق لإنشاء محطة نووية في مدينة “دبع” الساحلية في غرب الإسكندرية، بأربع محركات وبتمويل وصل 85%بواسطة قروض ممنوحة من الأبناك الروسية، وسيبدأ العمل بالمحرك الأول في أفق سنة 2024، وبذلك ستكون مصر، بفضل الشراكة مع روسيا، ثاني دولة تتوفر على محطة نووية لأغراض سلمية بالقارة الإفريقية بعد جنوب إفريقيا.

روسيا والصين في القارة الإفريقية: تكامل أم منافسة ؟

    في دجنبر 2018، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن تصور جديد للتعاطي مع قضايا القارةالإفريقية، مؤكدة على أن الصين وروسيا تهددان المصالح الأمريكية بالقارة، وقد جاء التأكيد آنذاك على لسان بولتون، مستشار الأمن القومي للرئيس السابق ترامب.

إذا كان الحضور الصيني قد عرف تطورا ملحوظا في القارة الإفريقية،فإن سنة 2020 عرفت عودة روسيا للقارة السمراء، هذه العودة لا تنظر إليها واشنطن والاتحاد الأوروبي بعين الرضى،ذلك أن الاستثمارات الصينية في القارة الإفريقية تمر عبر “منتدى التعاون الصيني الإفريقي”

(F O C AC Forum on China –Africa Cooperation)، وهو إطار يسمح لبكين بمناقشة قضايا اقتصادية وسياسية مع مجموع دول القارة الإفريقية، فالإضافة إلى مساهمة بكين في مشاريع البنيات التحتية من طرق ومطارات وموانئ، هناك كذلك التبادل التجاري الذي ارتفع بنسبة 20% في السنتين الماضيتين ليصل إلى 208 ملايير دولار سنة 2019، ففي كل قمة صينية إفريقية يتم توقيع على مشاريع عديدة، جزء كبير منها يمول من طرف الأبناك الصينية، مما أثار قلق مجموعة من الدول الغربية التي تتهم بكين بإثقال كاهل الدول الإفريقية بالديون، مما قد يشكل تهديدا لاستقلالها السياسي والاقتصادي، وكجواب عن هذه الأصوات، قامت الصين بمبادرة الرفع من قيمة المساعدات المقدمة للدول الإفريقية، بحيث انتقلت من 5 ملايير دولار إلى 66 مليار دولار سنة 2018.

عندما أعلنت روسيا سنة 2019 من خلال قمة “سوتشي” عن رغبتها في العودة إلى القارة الإفريقية،فهي حسب المتتبعين، محاولة لاستنساخ النموذج الصيني،لكن بفارق أساسي، هو أن القمة الروسية الإفريقية لم تعرف التوقيع على مشاريع كبرى، بل تم الاقتصار على التعبير عن النوايا ذات الطابع السياسي المحض، بالرغم من مجهودات إلغاء الديون الروسية المتراكمة على بعض الدول الإفريقية والتي وصلت إلى 20 مليار دولار، وفي يوليوز 2020، تم تنظيم لقاء مفتوح جمع بين خبراء روس يشتغلون بمراكز الدراسات المهتمة بإفريقيا وفريق من أطر الدبلوماسية الصينية، الهدف من هذا اللقاء كان هو القيام بقراءة للتجربة الصينية في إفريقيا مع محاولة البحث عن آليات مشتركة للتعاون، وهنا الروس فوجئوا برغبة بكين في خلق تكتل صيني روسي،لكن شريطة أن يبقى محصورا في مجال القضايا الجيوسياسية بعيدا عن الملفات التجارية والمشاريع الاقتصادية الكبرى.

 

* وزير سابق   

عضو مركز الدراسات الدبلوماسية والاستراتيجية بباريس

تتمة المقال بعد الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى