تحقيقات أسبوعية

ربورتاج | رحلة في طقوس “شعبانة” الخرافية

العادات والتقاليد السيئة

بقلم: أحمد لعيوني

    من العادات والتقاليد ما يتعارف عليها الناس وتستمر على مر الأزمان، بحيث تترسخ في الأذهان وتتخذ طابع المعتقد بتوارثها عبر الأجيال المتعاقبة، لكن قد تتبدل الأحوال بسبب الظروف والطوارئ، ويبدأ ذلك العرف في الانحدار نحو الزوال، ومن العادات التي عرفت منذ زمن طويل بالمغرب، طقوس “شعبانة”، وهي موروث شعبي مغربي يتشابه في مضمونه من منطقة لمنطقة، كما يختلف في بعض طقوسه من منطقة لأخرى، ويمارس في البوادي والحواضر منذ قرون، وتحديدا ابتداء من القرن الثامن الهجري، ويتم إحياء ليلة “شعبانة” غالبا في أواخر شهر شعبان، بينما نصفه الأول يكون مخصصا للصيام، إما لقضاء الدين، أو الصيام من أجل نيل الأجر والثواب والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، هناك من يصوم مرة مرة، وهناك من يصوم نصف شهر شعبان، وفي النصف الثاني، تقام هذه العادة، “ليلة شعبانة”، وفي الغالب تنظمها النساء، وكانت منتشرة إلى حد ما حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، ثم بدأ تعاطيها يتقلص، نظرا للعديد من العوامل، على رأسها الانطلاقة المتسارعة لعصرنة المجتمع المغربي، بسبب تعميم التعليم، واكتشاف عوالم أخرى عن طريق وسائل الإعلام، وخاصة منها المرئية ثم الرقميات وإن كانت بعض النساء المسنات ما زلن يحتفظن بتنظيمها.

أما النساء الشابات واللواتي في مقتبل العمر، فمنهن من ينظمن حفلة في مجمع خاص للحفاظ على رمزيتها، عن طريق استعمال الحناء في أماكن من الجسد، إما طلاء أو نقشا، وتهييئ أنواع مختلفة من الطعام، بحسب المستوى المادي، وحفاظا على بعض الأعراف، في الغالب تهيأ وجبة الكسكس بقديد عيد الأضحى السابق، والذي تحتفظ به إلى ذلك الحين، مع بعض الطقوس البسيطة من الغناء والمرح. ومنهن من تقتصر على الاهتمام بشؤون البيت رفقة العائلة والجارات، فيما يتعلق بعملية التنظيف الشاملة وتهييئ “شهيوات” رمضان بصفة عامة.

وفيما يخص ليلة “شعبانة” التقليدية، فلها طقوسها، وتنظمها في الغالب نساء مسنات، ومشهورة عند العرافات و”الشوافات” بكثرة، ولا تقتصر على مجرد العنصر النسوي، بل قد ينظمها أو يشارك فيها حتى بعض الرجال، وإن كان هذا بدرجة أقل، بحيث تحضر فرقة الموسيقيين إما من كناوة أو عيساوة، بحسب المناطق والأحياء السكنية، والمعروف لدى هذه الفرق، استعمال آلات الموسيقى التي تتكون من البندير والمزمار، والغيطة بالنسبة لفرقة عيساوة، وتضاف لدى فرقة كناوة آلات أخرى كالطبل والقراقب، مع استعمال أنواع مختلفة من الأبخرة التي تنبعث منها روائح كريهة عند حرقها في النار، ويسمونها “التفوسيخة”.

تنطلق السهرة ما بعد صلاة العشاء، ويمكن أن تمتد إلى طلوع الفجر، وتتكون الإيقاعات الموسيقية والأهازيج من كلام منظوم يبدأ بذكر الله والصلاة على رسول الله، ثم ذكر مناقب من يسمونهم بـ”لملوك”، يعني الجن الذي يسكن في ذوات الأشخاص المصابين بالمس كما يعتقدون، وهو اعتقاد راسخ ويأخذ الأمر بجدية، ومن هذه الأشعار: “الله يشافي، الله يعافي، وداوي الحالة بالبوهالة”… إلى غير ذلك، وتقوم النساء المستهدفات برقصات على حسب الإيقاعات الموسيقية والأهازيج، وفي بعض الأحيان، الراقصة هي التي تطلب نوع الموسيقى على أساس أن الجن الذي يسكنها هو الذي يرغب في رفع الإيقاع، ولإرضاء الجني،

ومع ارتفاع الإيقاع في وقت معين، تهتز المشاعر، وتتوالى شطحات الجذبة و”التحيار”، فتسقط بعضهن أرضا بدعوى أنه تم القضاء على الجني و”لرياح” و”لملوك”، بينما الواقع أن جسدها أنهكه العياء من كثرة الحركة والإجهاد البدني، مع تزايد  صخب الموسيقى، فتنفذ طاقة الجسد ولا يقوى على الاستمرار في الوقوف، وقد يصل الحال بالبعض إلى الضرب بالسكين في الوجه، وفي الذراع وفي البطن، وهناك من يمشي فوق الزجاج المكسر حافي القدمين، ويشرب الماء الساخن بعد أن ترتفع درجة حرارته دون الإحساس بأي ألم ولا ضرر لفقدانه الوعي بتغييب العقل وتنويم الأعصاب.

إنها طقوس تتعلق بالروحانيات والتفكير الميتافيزيقي لارتباطها بالخوارق في العلاج، والمتلقي يصادف فيه لذة وراحة نفسه، وخاصة النساء اللواتي تجدن فيه نوعا من التحرر من التقاليد والقيود والضغوط الاجتماعية المفروضة عليهن. وثمة عدد من المشاكل التي تحاول المرأة، أو المصاب بصفة عامة، تفريغها في أشياء لينعكس التخلص منها في شطحات “التحيار” و”الجذبة”، يعني تحويل الضرر من شأن نفساني إلى علة فزيولوجية، بتفريغ حمولة الهموم بهذا الرقص والهيجان.

لإحياء ليلة “شعبانة” يتم نحر عنزة سوداء، ويشترط ألا تحمل أي علامة، وحتى الذبيحة لها طقوسها الخاصة، بحيث يتم غسل دم الذبيحة بالماء والحليب. ويطبخ اللحم بدون ملح، نظرا للاعتقاد السائد بأن الجن لا يقبل الملح، ويسمونه “الحلو”، كما تشرب “مواليات الحال” أو “المسكونات” من المرق الذي طبخ فيه لحم العنزة بداعي أنه يشفي من العلة.

أما “لملوك” أو “الساكن” أو الجني، فيصنفونهم إلى أنواع، منهم “الهين السهل الانقياد”، ومنهم “الصعب المتمرس والمشاكس”، ولكل إيقاعاته: فهناك أسماء عديدة منها: “سيدي حمو يلبس لحمر”، “مولاي عبد القادر مول لخضر”، “الباشا حمو”، “جيلالة”، “سيدي ميمون مول الأسود”، “سيدي موسى مول الأزرق”، “للا ميرة مولاة الأصفر”، وللا عايشة” و”للا لكبيرة”..

وهذه العادة رغم ما عليها، وكونها منبوذة من طرف العديد من الفئات الاجتماعية ومن طرف رجال الدين، فهناك من يربطها بمنظور ديني في جانبه الصوفي، بإضفاء البركة والخوارق الغيبية، وأصبحت مترسخة في عقلية بعض الناس ودخلت في المعتقد الشعبي، فهي من إنتاج المخيلة البشرية، نظرا لانعدام الوعي وقلة الإمكانيات بالتوجه إلى اختصاصيين في العلاج النفسي، بحيث ما تزال هذه الثقافة المتعلقة بالعلاج النفسي بعيدة عن الفئات الشعبية، بل حتى الفئات الميسورة لا يتوجهون إليها إلا نادرا.

وتجدر الإشارة إلى أن فرق عيساوية يرجع أصلهم للطريقة الصوفية التي أنشأها الشيخ الهادي بنعيسى، أو الشيخ الكامل دفين مدينة مكناس، منذ القرن الثامن الهجري، وهو أحد علماء زمنه، وتفرعت في العديد من المناطق، أما الذين يمارسونها، فيدعون بأنهم أحفاد الشيخ وورثة بركته أبا عن جد، وأصبحوا يسترزقون بها، كما غلفوها بطقوس اختلطت بالمخيال الشعبي الذي يعتقد في الخوارق والحلول البسيطة لعلاج مشاكل نفسية واجتماعية معقدة تحتاج لتحليل علمي وعلاج طبي ونفساني.

أما فرق كناوة، فتعود جذورهم إلى إفريقيا جنوب الصحراء، التي تتكون منها حاليا دول مثل مالي والنيجر والسنغال، أو ما كان يعرف قديما ببلاد السودان. هؤلاء تم استقدام أجدادهم أيام حكم السعديين، ولا زالوا يحتفظون بثقافاتهم الأصلية، وأدخلوا عليها طقوسا امتزجت بالواقع الذي مروا به منذ استيطانهم بالمغرب.

يمكن أن تبقى هذه العادات مستمرة كتراث شعبي، ولكن ينبغي إزالة الشوائب المرتبطة بالمعتقد الخرافي والعادات السيئة، واستغفال البسطاء والنصب والاحتيال باستعمالها طريقة للاسترزاق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى