الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | معجزة استخراج رصاصة من عنق الكولونيل عبابو دون “بنج”

حتى لا ننسى.. الصخيرات المجزرة السياسية "الحلقة 25"

حتى لا ننسى.. الصخيرات المجزرة السياسية
((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر)) صدق الله العظيم.
يقول القيدوم الراحل أستاذنا مصطفى العلوي: ((وما كان لأحداث على مستوى خطورة هجوم الصخيرات أن تدرج في مسالك النسيان، دون أن نستخلص الدرس منها، وكان الملك الحسن الثاني رحمه الله، حريصا على إقبار أخبارها وأسرارها، تفاديا لاستمرار البحث عن دوافعها وأسبابها والمسؤولين عنها، بقدر ما يحرص كتاب “الصخيرات المجزرة السياسية” على استخلاص الدرس مما خطته دماء الضحايا، ودموع الثكالى على جبين التاريخ المغربي المعاصر.
فيما يلي، تقدم “الأسبوع” أقوى ما كتبه الراحل مصطفى العلوي عن محاولة انقلاب الصخيرات، عبر حلقات ضمن ركن “الحقيقة الضائعة”.
بقلم: مصطفى العلوي

تقطب جبين عبابو وعاد ليسأل الجنرال البشير البوهالي، بعد أن قال له “كفى من المخاطرة والتلاعب”: هل معنى هذا أنك ضدنا؟ وكان أصبعه أسرع من فمه كالعادة، فأشار إلى حارسه، السرجان عقا، بأن يطلق الرصاص.. وما كان السرجان عقا متعودا على التفكير، فكان أسرع من رئيسه عبابو وأفرغ شاحنة رشاشته في جوف الجنرال البشير، الذي سقط في لمح البصر جثة هامدة على الأرض، ولكن سقوط الجنرال البشير أفسح المجال لحراسه أن يطلقوا الرصاص، واخترق رصاصهم جسم عبابو والواقفين بجانبه، لكن عقا كان أسرع من الجميع، ورفاقه كثيرون، فأغمضوا عيونهم وأطلقوا الرصاص بسخاء، ومات كل من كان مع الجنرال البشير من جنود، ولم يفلت أحد، ولم يمت عبابو، فقد حاول أن ينزع بيده رصاصة أصابت عنقه، ثم عاد ليستأنف نشاطه بسرعة غريبة وعصبية بادية، ويده لا تفارق عنقه، ونادى بعض رفاقه ليأخذوا سيارة مسلحة ويتوجهوا إلى المستشفى العسكري لإحضار الطبيب المسمى مولاي.. وقال: أحضروه، وإن رفض أعدموه.

وحضر الدكتور مولاي وانتصب أمام عبابو متخطيا عشرات الجثث، وكان عبابو مختصر الكلام، قال للطبيب: اخلع هذه الرصاصة، فرد الطبيب: حاضر.. لكن كيف.. لا بد لي من الأجهزة الطبية لإجراء العملية الجراحية، لابد لي من البنج المنوم.. لا بد لي.. وقاطعه عبابو: اخلع الرصاصة وإلا ألحقتك بهؤلاء، والتفت الدكتور مولاي ليجد البرهان على صحة كلام عبابو، فوضع يده على مقص واقترب من عنق عبابو، ونظر قصيرا إلى ملامح عبابو، فرآها متقدة كالنار وعيونه متقلبة بين الدكتور وأصابعه، ثم أعطى للطبيب عنقه، وبعد لحظة تفكير، قطع الطبيب في اللحم الحي لعبابو، ثم قطع ثانية، وأخذ قطعة حديدية ثم أخرج الرصاصة، ووضع في الحفرة قليلا من القطن، كان الدكتور مولاي يرى، لأول مرة في حياته، نفسه يقطع لحم إنسان ينظر إليه ويستعجله، وحسب أن عبابو سيسقط مغمى عليه.. لكنه مرة أخرى فوجئ، لأول مرة في حياته، بهذا الرجل يضع يده على القطن ويلف قطعة قماش على عنقه، ويقول للدكتور: يمكنك الآن أن تنصرف.

وإذا كان الدكتور مولاي، وهو ينصرف، يعتقد أن الكولونيل عبابو لن يتمكن من إيقاف النزيف الدموي، وأنه سيموت بعد ربع ساعة، فإن هذا هو المبرر الوحيد الذي جعل الجميع يوقن أن عبابو مات بالنزيف، بينما يعتقد آخرون أنه استمر في إعطاء الأوامر وأن أحدا لم يره ملقى على الأرض مسلما أنفاسه الأخيرة.

كانت مدينة الرباط في تلك الساعات تعيش معارك طاحنة، وكأنها سايغون أو دانانغ، المدينتان المعروفتان في الفيتنام، ولم يسقط فقط جنود الجنرال البشير جثثا هامدة في مقر القيادة العليا، بل سقط أيضا جنود ثوار وجنود نظاميون في باب الإذاعة والطرق المؤدية إليها، وسقط الجنود في باب وزارة الداخلية، وسقطوا في عدة شوارع أخرى..

وكان الجنود الثوار قد اعتصموا بالإذاعة وبالعمارات المحيطة بها، وحطموا وخربوا ولم يرحموا أحدا في طريقهم، وكان جنود فرقة التدخل السريع بقبعاتهم الزرقاء، بقيادة الكولونيل الحصاري، يواجهون الموت في أصدق صفاته، فكان عليهم أن يحاربوا بذكاء وحيطة، وبقوة وصرامة، وكانت العقول المفكرة إلى جانب الجنرال محمد أوفقير، تبحث عن حل لمشكل بذلة المعركة التي يرتديها الجنود الثوار، وعدم إمكانية إدخال جنود يرتدون نفس البذلة في المعركة، إلى أن جاءهم خبر من أحد المكاتب المجاورة للإذاعة، وهو مكتب المقاومة، حيث عثر ببابه على جثة أحد الجنود الثوار واكتشفوا أن الجنود الثوار يلبسون قميصا كاكيا تحت بذلة المعركة، وكان هناك الحل.. وصدرت الأوامر بإدخال الجنود في المعركة وإطلاق الرصاص على كل جندي يرتدي قميصا كاكيا.

وخيم الظلام على مدينة الرباط، وخيم معه الخوف والموت ودخان الرصاص.

كانت طائرة صغيرة قد غادرت مطار الرباط العسكري في الساعات التي وصل فيها الجنرال البشير إلى القيادة العليا، كان على متن تلك الطائرة الجنرال بوكرين، الرئيس الثوري لمنطقة مكناس، والجنرال حمو الرئيس الثوري لمنطقة فاس، وطارت الطائرة في اتجاه فاس.. وفي طريقها، انقلبت الأوضاع في الرباط وصدرت الأوامر إلى فاس، وكان عاملها بنشمسي، لمنع الطائرة من النزول في المطار، واعتذر موظفو برج المطار في فاس لربان الطائرة، لأن الضوء منقطع على المنطقة، وحيث أن حامية الدبابات كانت قد غادرت مدينة الحاجب ومرت في طريقها بمكناس، فقد صدرت الأوامر إلى الطائرة بأن تتوجه إلى مكناس فلعل الضوء غير منقطع هناك.. وفعلا، عادت الطائرة إلى مكناس حيث نزلت، وعند نزول الجنرالات الثلاث منها رفقة حراسهم، وجدوا المدافع موجهة إليهم والرشاشات محيطة بهم من كل جانب، ورفعوا أيديهم وقيدوا، وأصبحوا في قبضة حامية الدبابات.

ولعل الجنرال حبيبي انتهز بعض الوقت لقضاء بعض حاجاته في الرباط قبل الالتحاق بمقر مأموريته في مراكش كقائد لمنطقة مراكش العسكرية، وعند مروره بالصخيرات في طريقه إلى مراكش، دخل القصر ليرى المعتقلين وربما لتنفيذ مخطط سري، فدخل القصر عله يرى المعتقلين، فلم يجد أحدا.. ودخل إلى داخل القصر حيث وجد حركة دؤوبة، وعساكر يحملون الجثث ويداوون الجرحى، فاستغرب الموقف، ولعله قرر المزيد من الاستطلاع، فدخل القصر ليجد الملك وسط مساعديه يدرسون الوضع، وبسرعة وذكاء، خلع قبعته وانحنى على يد الملك يقبلها، ويقدم اعتذاراته وأسفه لما حصل.. ويخبر الملك أنه متوجه إلى مراكش لتسلم مهامه، لكن أية مهام، هل مهامه كقائد للمنطقة العسكرية الملكية أم كمندوب للثورة هناك؟ لا أحد يدري.. وإنما أجابه الملك: اذهب.. أعانك الله.

وعند وصوله إلى الدار البيضاء، اتصل الجنرال حبيبي برفاقه في الجيش وأخبرهم بضرورة التحرك إلى الرباط، وعندما وصل إلى مراكش قرب منتصف الليل، استدعى ضباطه لاجتماع في القيادة، وعندما تم الاجتماع وأنصتوا إليه، شهروا فيه جميعا رشاشاتهم واعتقلوه.

وكان الكولونيل الفنيري في وزارة الداخلية يبعث البرقيات بعد أن احتجز الموظفين الذين كانوا هناك، وأصبحوا يخاطبونه “مسيو لو مينيستر”، وكانت وزارة الداخلية، قبل وصول الفنيري، تحت إمرة إدريس حصار، الذي كان في الصخيرات بعد الظهر، فاعتقله الفنيري وكان صديقا له، وأمر الجنود بتعريته وباعتقاله مع المعتقلين، وبقي الفنيري إلى صباح الأحد حيث جرت معركة ضارية بباب وزارة الداخلية استسلم بعدها الفنيري وجنوده، وكان الجنرال محمد أوفقير هو الذي قاد ذلك الهجوم على وزارة الداخلية، كما تم في القنيطرة استسلام الكولونيل بن البصير لأحد الضباط الصغار، بعد مكالمة تلفونية من الرباط نصحته بأن يسلم نفسه.

وعندما كانت الدقائق تتوالى مقربة منتصف الليل، كانت القيادة الملكية تلتقط هذه الأخبار، وكان الملك يؤخر خطابه إلى الشعب.. منتظرا المزيد من الأخبار.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى