الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | أخطر عملية عسكرية في تاريخ المغرب

حتى لا ننسى.. الصخيرات المجزرة السياسية "الحلقة 24"

حتى لا ننسى.. الصخيرات المجزرة السياسية
((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر)) صدق الله العظيم.
يقول القيدوم الراحل أستاذنا مصطفى العلوي: ((وما كان لأحداث على مستوى خطورة هجوم الصخيرات أن تدرج في مسالك النسيان، دون أن نستخلص الدرس منها، وكان الملك الحسن الثاني رحمه الله، حريصا على إقبار أخبارها وأسرارها، تفاديا لاستمرار البحث عن دوافعها وأسبابها والمسؤولين عنها، بقدر ما يحرص كتاب “الصخيرات المجزرة السياسية” على استخلاص الدرس مما خطته دماء الضحايا، ودموع الثكالى على جبين التاريخ المغربي المعاصر.
فيما يلي، تقدم “الأسبوع” أقوى ما كتبه الراحل مصطفى العلوي عن محاولة انقلاب الصخيرات، عبر حلقات ضمن ركن “الحقيقة الضائعة”.
بقلم: مصطفى العلوي

  عندما أفرغ عبابو رشاشته في جوف الكولونيل لوباريس، رئيس المظلات، في حدائق الصخيرات، عند بداية الهجوم، كان سائق الكولونيل لوباريس يشاهد كل شيء من بعيد، وعندما عاد عبابو إلى مصيف الصخيرات بعد أن تأكد من أنه قضى على حياة لوباريس، توجه السائق إلى جثة رئيسه لوباريس، فوجد قلبه لازال ينبض ودمه لازال يسيل، فحمله على كتفيه وتوجه به إلى حامية رجال المظلات التي لم تكن بعيدة عن مصيف الصخيرات، وكان عند لوباريس متسع من الوقت وطاقة كافية لأن يعطي أوامره إلى حامية المظلات كي تحمل السلاح وتذهب لإنقاذ الصخيرات.

ومن حسن حظ الملك ومدعويه في الصخيرات، أن الضابط الذي تولى قيادة رجال المظلات لإنقاذ الصخيرات، لم يكن مستعجلا ولا غبيا، فرغم أن رجاله حملوا السلاح وتوجهوا إلى المصيف الغير بعيد، إلا أنه لم يعطهم الأوامر بإطلاق الرصاص، ولو كانوا بدأوا في استخدام أسلحتهم ضد الجنود الثوار، لكانوا سببا في القضاء على حياة كل الذين كانوا موجودين تحت رحمة الجنود الثوار، لذلك اكتفى رجال المظلات بالإحاطة خفية بالمصيف الملكي وانتظار اللحظة المناسبة للهجوم، لكن تلك الفرصة لم تسنح لهم، فقد كانوا يرون عن بعد الجنود الثوار وهم شاهرين الأسلحة على المعتقلين، وبقوا ينتظرون..

وقد فوجئ المعتقلون المنبطحون على الأرض بأحد الجنود الثوار يطوف في ناحية مجاورة للقصر بالمعتقلين ويصيح باحثا عن إحدى السيدات الخادمات في القصر، ربما كانت أمه أو أخته، وكان هذا مصدر بصيص من الأمل في أن لا يستأنف جنود الموت إطلاق الرصاص، وفعلا أخذ الجو يكتسي طابعا آخر.

كانت الشمس تميل نحو الغروب والجو يزداد برودة حسّا ومعنى.. كانت أصابع جنود الموت قد تعبت من الضغط على الزناد، وكانت أطنان الرصاص التي أحضرها الثوار قد نفذت أو تكاد، وكانت أنات الجرحى وبكاء الخائفين وآيات القرآن التي كان يرددها بعض المعتقلين قد أخذت تدرك من ضمائر جنود الموت الذين بقوا في الصخيرات كل مأخذ.. وكانت عيون بعض الموتى جاحظة مفتوحة وكأنها تهدد أولئك الجنود وتتوعدهم بالعقاب السماوي.. كانت قلوب جنود الموت تزداد ضعفا وخمولا وخوفا، وكان الوقت يمر والانتظار يطول، وأخذ بعض جنود الموت يلجؤون إلى السجائر يشعلونها ليطفئوا حر تأنيب ضمائرهم.

لقد غادرهم عبابو وأغلب الجنود إلى المدينة، وبقوا هنا كحراس المقابر مع الجثث والأشلاء، ومع هذه الجموع من البؤساء المنبطحين على بطونهم الباكين المرتعشين، الصائحين الصامتين، المهللين، المكبرين.. تساءلت الضمائر عن سر هذا الجمع الفظيع.. وتبادل الجنود النظرات وتبادلوا الهمس.

وكان بعض الجنود يمرون بجانب الحائط الخارجي للقصر حيث كانت النساء وكان الأطفال، وكانوا يتفحصون سماتهم المرتعشة، وعيونهم الدامعة، وبغتة، لمح الملك أحد جنود الموت يمر بجانبه.. ويظهر أن عصبية الملك بلغت حدها، فرفع يديه بعنف إلى الأعلى وأخذ يصيح: اضربوا.. ماذا تنتظرون؟ والتفت أحد الجنود ليتفحص ملامح هذا العصبي الشجاع، فإذا به يلمح فوق أنفه أثر جرح قديم على وجه ألف رؤيته، فتقدم منه وقال له: أنت اتبعني. وهي جزئية الجندي خنوش التي سبق ذكرها.

معجزة أو أبلغ من معجزة، لا أحد يدري سرها، ولا أحد يعرف كنهها، إنما عندما تسرب الخبر إلى عبابو وهو في الإذاعة يخاطب عبد الحليم حافظ، لم يضعف ولم يجبن.. وأسرع إلى القيادة العليا ليجتمع بالشلواطي وبمساعديه، واتفقوا على الاستمرار في طريق الثورة..

كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف عندما عقد الملك في مصيف الصخيرات أول اجتماع مع مستشاريه المقربين وقرر تسليم السلطات المدنية والعسكرية إلى الرجل القوي، الجنرال محمد أوفقير، الذي شوهد بمجرد مرور بضعة دقائق مرتديا لباس الميدان، حاملا رشاشته وواقفا إلى جانب الجنرال البشير البوهالي، مفتش القوات المسلحة، وقد أصيب بجروح خفيفة.

لقد صدرت الأوامر إلى الجنرال البوهالي بالهجوم بالطائرات على مقر القيادة العليا بشارع محمد الخامس ودكها بمن فيها، وعارض الجنرال البشير قائلا: لماذا.. سأذهب لاحتلالها بنفسي دون أن أحطم حجرة واحدة فيها؟ ورغم نصح الجميع له بأن ذلك غلطة فادحة، إلا أنه أصر على الذهاب، وفعلا قصد القيادة العليا مع بعض الجنود، بينما اتصل القائد الجديد للقوات المسلحة، الجنرال أوفقير، بوسائل عسكرية بالدبابات كي تتحرك نحو العاصمة، وكانت قيادة الدبابات خاضعة للجنرال الغرباوي، الذي بحثوا عنه فوجدوه جثة هامدة بجانب الباب الخلفي للمصيف، واتصل الجنرال أوفقير بحامية الدبابات الواقعة في مدينة الحاجب، لكي تشحن الدبابات في سيارات كبيرة وتأتي إلى الرباط.

وبدأت أخطر وأكبر عملية عسكرية في تاريخ المغرب لم يكن أي واحد ليعرف سرها ولا مصيرها، وكانت أول مصاعبها، أن الجنود الثوار الذين احتلوا العاصمة، يلبسون نفس الزي العسكري الذي ترتديه القوات المسلحة النظامية في وقت المعركة، فهل ستصدر الأوامر إلى الجنود بإطلاق الرصاص على الجنود؟ وهنا صدرت الأوامر بعدم تدخل الجنود النظاميين على الإطلاق، وكلفت حامية القوات المتدخلة السريعة “ب. ل. س” وهي المعروفة بقبعاتها الزرقاء، بأن تدخل المعركة وأن يبقى رجالها بالقبعات الزرقاء وأن لا يرتدوا الخوذات الحديدية، وهو قرار خطير خارج عن أصول المعارك، ولكنه الحل الوحيد في ظرف يحتم عليهم أن يدخلوا معركة مع جنود مثلهم، لكنهم مرتدين للخوذات الحديدية.

كان على الجنرال البشير البوهالي، وهو الرئيس القانوني للجيش، أن يدخل مكتبه في مركز قيادة القوات المسلحة، ليتمكن من الاتصال بالجنود في جميع الأقاليم ويعرف حقيقة الوضع، خصوصا وأن بلاغات الثورة التي كانت لا تزال تذاع، كانت تعلن أن قيادات الجيش في مختلف الأقاليم هي المسؤولة عن النظام، إذن فكل قيادات الجيش تابعة للثورة، ولم يجد الجنرال البشير معارضة في باب القيادة العليا، فدخلها رفقة الكولونيل النعيمي، الذي كان يرتدي قميصا أحمر ويحمل رشاشته، وبقي النعيمي في باب القيادة بينما صعد الجنرال البشير إلى مكتبه حيث فوجئ بالكولونيل عبابو والكولونيل الشلواطي وعدد آخر من ضباط الثورة، وتمت المقابلة وجها لوجه، وفوجئ الجنرال البشير البوهالي بوجه عبابو يتفتح عن ابتسامة عريضة ويفاجئه قائلا: أهلا البشير.. لقد كنت موقنا أنك منا.. وأن محلك لازال بيننا.. فرد الجنرال البشير بصوته المبحوح وبرودته المعهودة، أن كفى من المخاطرة والتلاعب..

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى